الدرس الثالث

فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف

إحصائية السلسلة

5303 7
الدرس الثالث

تفسير الفاتحة وقصار المفصل

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعزاءنا المشاهدين أهلًا ومرحبًا بكم في حلقة جديدة نستكمل فيها تفسير قصار المفصل مع ضيفنا فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله المعيوف، حياك الله فضيلة الشيخ}.
حياك الله يا عبد الله وحيا الله الإخوة المشاهدين جميعًا، وأهلا وسهلا بكم.
{أستأذنك في البدء}.
تفضل.
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علمًا ينفعنا.
في الدرس الماضي كنا أتينا على بعض السور، منها سورة الإخلاص -بل سورتي الإخلاص- فسورة الإخلاص الأولى سورة الصمد والتي تعدل ثلثا القرآن، لكونها تذكر العقيدة، والقرآن إما أحكام وإما قصص وإما توحيد، وسورة الإخلاص الثانية هي سورة الكافرون، يسميها العلماء سورة الإخلاص لما فيها من إخلاص العقيدة والتوحيد والبراءة من الشرك ومن المشركين، وأيضًا كان الحديث عن سورة المسد، تلك السورة الوجيزة العظيمة، والتي فيها دليل عظيم على عظمة هذا القرآن، وصِدق هذا النبي الكريم فيما جاء به من هذا الوحي المبارك الكريم، وأن الله -عز وجل- ذكر في هذه السورة أنَّ أبا لهب وزوجه في النار، وقد استمرَّا على كفرهما إلى أن فارقا الدنيا هالكين من أهل النار، أعاذنا الله من ذلك.
وتحدثنا أيضا عن سورة النصر، حيث ختمت هذه السورة بأمر المصطفى بتسبيح ربه وحمده والثناء عليه، وفيها إيذان بقرب أجله كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما.
وتحدثنا أيضًا عن سورة الكوثر ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، وكان الخطاب فيها موجهًا للنبي بخاصة، وخُتمت السورة بأن كلَّ من كان شانئًا مبغضًا للنبي فهو الأقلُّ الأذلُّ الأبتر المقطوع من كل خير، بِدءًا ممن قال هذه الكلمة في رسول الله وإلى يوم القيامة.
ننتقل الآن إلى سورة الماعون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.
قوله: ﴿أَرَأَيْتَ﴾، أي: أخبرنا، وهذا الأسلوب يرد في القرآن كثيرًا، أي: أخبرنا عن هذا الذي يُكذب بالدين، والدين هنا يُراد به الجزاء، فإنَّ "الدين" إما أن يطلق على الملة أو دين الإسلام، وإما أن يٌطلق ويُراد به يوم الجزاء، كما مرَّ بنا في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
هذا الذي يكذب بالدين وينكر البعث والجزاء أورثه تكذيبه من الجزاء والحساب شدَّة وعنفًا وقسوة، إلى درجة أنه يدعُّ اليتيم -أي يقهره- ويمنعه حقه وربما يأكل ماله.
قال: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، أي: لا يحض على إطعام المساكين، وبطريق الأولى أنه لا يطعم المساكين، ودلّت هذه الآيات على أن الإيمان بالبعث حافزٌ على العمل الصالح، فإن المؤمن بالبعث يعلم أنه سوف يُبعث وسوف يجازى على أعماله وقليلها وكثيرها صغيرها وكبيرها، حتى مثاقيل الذر من الخير والشر، فيدفعه ذلك إلى أن يؤمن وإلى أن يعمل الأعمال الصالحة ويجتهد فيها، لأنه غدًا سوف يقدم عليها، ويكون أحوج ما يكون إليها، خلافَ منكر البعث -عياذًا بالله- الذي ينكره وهدفه بذلك أن
يعبث في دنياه ويتمتع بشهواته وملذَّاته، كما قال -عز وجل- عن أمثال هؤلاء بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: 1- 6]، فهذا الإنسان الذي يُنكر القيامة يريد أن يفجر فيما يُستقبل من أيامه وعمره، لا يُريد أن يُقال له: إنك سوف تُبعَث وتُسأل وتُحاسب على أعمالك.
ثم قال -عز وجل-: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.
قوله: ﴿وَيْلٌ﴾ هذه الكلمة ترد في القرآن في مواضع عديدة، والمراد بها: أنه وادٍ في جهنم شديد الحر، تتعوذ نار جهنم من شدة حره.
والقول الثاني: أن الويل: كلمة يُراد بها الوعيد والإنذار والتهديد، ولعل هذا أقرب.
قال تعالى: ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 97]، فالويل قطعًا هنا هو الندامة والحسرة على ما حصل منه من إهمال وتفريط في الدنيا.
قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ وصفهم الله تعالى بأنهم مصلون، أي: ملتزمون بالصلاة، وإن كان التزامهم بها ظاهرًا، والمراد بهؤلاء المنافقون الذين كانوا يصلون رئاء الناس، ولم يكونوا يقصدون بصلاتهم وجه الله -عز وجل- فهم ساهون عن صلاتهم، غافلون عنها، لاهون عنها، لا يتمِّون أركانها وشروطها وواجباتها، ولا يؤدونها في حقها، لأنهم ليس لهم غرض وقصد من هذه الصلاة، كما قال -عز وجل- عنهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142]، ولهذا لم يكونوا يصلون الصلوات كلها إنَّمَا يُصلونَ الصَّلَوَاتِ التِي يرَاهُم فيها النبي وأصحابه وكانوا يتأخرون عن صلاة العشاء والفجر.
ولهذا قال : «إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ علَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ، ولو يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا» ، وقال هنا: ﴿فويلٌ للمصلِّين﴾ هذا الويل لمن هو ملتزم بالصلاة؛ فكيف بمن لا يُصلي أصلًا ولا قوة إلا بالله!
قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 59]، فالصلاة عظيمة وأمرها عند الله تعالى خطير، ولهذا فرضت جميع شعائر الإسلام على النبي وهو على الأرض، يأتي بها جبريل -عليه السلام- إلا الصلاة فإنها فرضت على المصطفى عليه حينما عُرج به حتى بلغ سدرة المنتهى، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظم شأنها ومكانتها وقدرها عند الله -عز وجل-.
قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾، فهم بأعمالهم يعملونها لأجل أن يراهم الناس، لا لأجل أن يراهم رب العالمين وهذا من فرط غيهم وجهلهم وضلالهم، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى عالم بدواخل نفوسهم ونياتهم ومقاصدهم، كما قال -عز وجل-: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، فهو تعالى يعلم الجهر، بل ما هو أدق من الجهة وهو السر الذي يكون بين الإنسان وشخص آخر؛ بل ما هو أدق وأخفى منه وهو ما يدور في خلجات الإنسان وما يعتلج في خاطره وذهنه.
ثم قال -عز وجل-: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾، أي: بلغ بهم الأمر إلى درجة البخل بالأمور اليسيرة والتي درجت عادة الناس أن يتعاطوها فيما بينهم.
وقوله: ﴿الْمَاعُونَ﴾ اختلف فيه:
- فقيل: الزكاة.
- وقيل: بل الأدوات التي يستعيرها الناس بعضهم من بعض، كالدلو والإبرة والمقص وما أشبه ذلك من أدوات الناس التي يستعملونها ويستعيرها بعضهم من بعض ثم تُردُّ إليه، مع ذلك فهم يبخلون بها، فهم هنا جمعوا بين إساءتين:
* الإساءة الأولى: عدم الإحسان مع ربهم -سبحانه وبحمده- بعبادته وطاعته وأداء صلاة على وجه الشرع المطلوب.
* والثاني: عدم الإحسان إلى الخلق بمساعدتهم وإعانتهم في الأشياء التي يحتاجون إليها.
{بسم الله الرحمن الرحيم (﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾)}.
قريش: هي القبيلة المعروفة، والتي إذا ذكرت ذكر معها خيرها، بل الخير البرية جميعًا -صلوات ربي وسلامه عليه.
وقريش من كنانة، وكنانة من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل -عليهم الصلاة والسلام- وقد سئل معاوية بن أبي سفيان ابن عباس لماذا سميت قريش بهذا الاسم؟ فقال: لحوت عظيم في البحر يأكل ولا يُؤكل، ولعله يريد بذلك سمك القرش.
وقيل بل سُميت "قريش" من التَّقرُّش وهو التكسُّب يقول تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾، فقوله: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ﴾ [قريش: 1]، أي: اجتماع قريش وائتلافهم في رحلتهم - رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام- يمتنُّ الله عليهم بهذا الاجتماعِ وهذا الائتلاف، وهاتين الرحلتين واللتين كانوا يرحلون من خلالهما إلى اليمن وإلى الشام في تجاراتهم وأعمالهم التي يعملونها دون أن يتعرَّض لهم أحدٌ من العرب، والجزيرة العربية في هذا الوقت كانت فوضى، القوي فيهم يأكل الضعيف، القبائل متناحرة يغير بعضها على بعض، ويسطوا بعضها على بعض، وأما قريش فلم يكونوا يعترضون لهم سبيلًا، ولا يأخذون منهم مالًا باعتبار أنهم أهل البيت العتيق وسدنته وساكنوه، فأمَّنهم الله تعالى في بلادهم وأمَّنهم الله تعالى في أسفارهم.
قال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾، الفاء هنا الأقرب أنها للتعليل وإذا كانت الفاء للتعليل فإن ما قبلها سبب وعلة لما بعدها، أي: لأن الله تعالى منَّ عليهم بهذا الإيلاف وهذا الاجتماع فليعبدوا رب هذا البيت شكرًا له على هذه النعمة التي تفضَّل وأنعمَ بها عليهم.
ولهذا فإن الأقرب أن قوله ﴿لِإِيلَافِ﴾ هذا الجار المجرور متعلق بهذا الفعل، والمسألة محل خلاف بين أهل التفسير:
- فبعضهم يقول إن قوله ﴿لِإِيلَافِ﴾ متصل بالسورة قبلها، أي: أي فعل الله ما فعل بأصحاب الفيل لأجل قريش واجتماعهم وائتلافهم.
- وقيل: إن الجار والمجرور متعلقان بفعلٍ مُقدر تقديره: اعجبوا لائتلاف قريش، ويميل لهذا ابن جرير -رحمه الله تعالى.
- وقيل: بل هي متعلقة بقوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾، أي: ليعبدوا رب هذا البيت شكرًا له أن منَّ عليهم بهذا الائتلاف وهذا الاجتماع.
قوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾ الله تعالى رب كل شيء، ولكن أضافه إلى البيت هنا إذ الكلام عن قريش وهم أهل البيت.
قوله: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾، الاسم الموصول يقول أهل العلم إنه يفيد التعليل، أي ليعبدوا رب هذا البيت لأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، فأطعمهم إذ كانوا جياعًا، وآمنهم إذ كانوا خائفين، وهتان نعمتان عظيمتان، الأمن في الغذاء والأمن في الأوطان، وإذا اختلت إحدى النعمتين اختلت معه الأخرى، فإذا فُقد الأمن -ولا قوة إلا بالله- صارت مجاعة في الناس -كما هو ملاحظ- كذلك إذا ضعُفت مكاسب الناس ومعيشتهم فإنه يحصل لهم من النقص ومن الأذى الشيء الكثير.
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112]، فالجوع والخوف نقمة وعقوبة من الله -عز وجل- وهذا بسبب انتشار المعاصي وظهور المنكرات والأمن في الأوطان والأمن في الطعام نعمتان سببهما الإيمان به وعبادته -سبحانه وبحمده.
وفي الآية إشارة إلى شكر الله -سبحانه وتعالى- على نعمه، وأن الشكر -كما قيل- قيدُ الموجود وصيد المفقود، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96].
فالواجب على الناس أن يشكروا الله -عز وجل- على نعمه اعترافًا بقلوبهم، ونطقًا بألسنتهم، وعملًا بجوارحهم؛ حتى يحصل لهم ما وعدهم الله سبحانه وتعالى به.
{بسم الله الرحمن الرحيم (﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾)}.
قصة الفيل: أن أبرهة الأشرم وكان حبشيًّا وكان في اليمين، فأرد أن يبني كنيسة ويصرف العرب عن الكعبة إليها، فبنى كنيسة عاليةَ البناءِ تسمى "القليس" ودعا العرب إلى أن يأتوا إليها ويحجوا إليها ويتركوا بيت الله العتيق، فانتهى إليها نفرٌ من القريش فأضرموا فيها نارًا ولوثوها واشتعلت فيها النار، فغضب لذلك أبرهة وقرر أن يغزو البيت العتيق، فجيَّش جيشًا يتقدمه فيلٌ كبير اسمه "محمود" وقد يكون معه فيلة أخر، وذهب متوجهًا إلى مكة، فعرضه أحد ملوك اليمن في الطريق وهو "ذو نفر" وقاتله، لكنه هزمه واستمر في الطريق، ثم اعترض طريقه النفيل بن حبيب في قومه خثعم وقاتله أيضًا لكنه أيضًا هزمهم وأخذ نفيلًا أسيرًا معه إلى مكة، وقرر أن يقتله لكنه ترك ذلك، ثم جاء إلى مكة ونزل في مكان اسمه "المغمس" ولا يزال بهذا الاسم حتى الآن، وأرسل حناطة الحميري إلى أهل مكة يريد أن ينظر ما موقفه منهم، فجاء حناطة إلى عبد المطلب وكلّمه وأشار إليه أن يأتي إلى أبرهة ويُكلّمه، فجاء عبد المطلب وكان عبد المطلب رجلًا جسيمًا ذا هيئة وهو جد النبي ، فلما رآه أبرها أجلّه وجلس من سريره على بساط، جلس معه على بساط وكلّمه، فقال عبد المطلب: إن لي مائة من الإبل قد أخذها أصحابك فردوها إليَّ. فقال: أتيت لهدم وتُكلموني في الإبل! وكأنه بذلك ينتقده. فقال له الكلمة المشهورة: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، وكانت قريش لم يروا في أنفسهم قدرةً على مقاومته، فقرر أن يدخل مكة، وذهب الناس في الجبال.
فلما أصبح وجَّه الفيلة الضخم إلى مكة فبرك الفيل، فضربوه وحاولوا أن ينهضوه ليقوم، فكان إذا وُجِّه يمينًا أو شمالًا أو إلى الخلف توجَّه مُسرعًا، وإذا وجه إلى مكة برك، ثم أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل -أي: جماعات جماعات- قيل: كل طير يحمل معه ثلاثة أحجار، حجرٌ في فيه، وحجران في رجليه، فرمتهم بهذه الحجارة، فجعلهم كعصف مأكول.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ﴾ الخطاب لمحمد ، والنبي ولد عام الفيل، فكيف يوجه الخطاب إليه بالرؤية وهو لم يره؟
يقول علماء: هذه الرؤية يا إخوان رؤية علمية؛ لأن الرؤية إمَّا أن تكون بصرية، تقول: رأيت بعيني -يعني أبصرت بعيني-، وإما أن تكون رؤية علمية، تقول: رأيت كذا وكذا -يعني علمت كذا وكذا-، فالله تعالى يقول لمحمد : ألم ترَ يا محمد -يعني: ألم تعلم- وذُكِر "العلم" بلفظ الرؤية مُبالغة في جلائه ووضوحه حتى كأنه أمرٌ يُرى ويُشاهد.
كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ كيدهم الذي كادوه، ومكرهم الذي مكروه، وهو محاولتهم هدم بيت الله العتيق، فجعل الله تعالى هذا المكر وهذا الكيد في نحورهم، وجعلهم في تضليل وهلاكٍ وخسارٍ.
قال: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ أبابيل يعني: جماعات جماعات.
ترميهم هذه الطير بحجارة من سجيل، والسجيل: هو الطين المطبوخ الذي يشتد فيكون حجارة.
قال: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾، أي كورق الزرع الذي أكلته الدواب وداسته بأقدامها فتهشَّم وتكسَّر.
وحمى الله -سبحانه وتعالى- بيته، وردَّ كيد الكائدين، وتشتتوا وتفرقوا، وقُتِلَ من قُتِلَ منهم، وأصيب أبرهة حتى انفطر صدره ونُقل إلى اليمن فهلك هناك.
ونفيل بن حبيب كان مع أهل مكة وهو كبير خثعم، كان مع أهل مكة في الجبال وهم يبحثون عنه ويسألون عنه يريدون منه أن يدلهم الطريق، وكان يقول:
فكلّ القوم يسأل عن نفيل ... كأن عليّ للحبشان دينا
{بسم الله الرحمن الرحيم (﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾)}.
في سورة الفيل اللهُ سبحانه وتعالى ذكرَ هذه القصة في معرض توبيخ قريش، أن الله سبحانه وتعالى وقاهم وحماهم من كيد هذا الكائد ورده مدحورًا مهزومًا دون أن يكون منهم أدنى جهد في مقاومته، فكان الوجب عليهم أن يعرفوا هذه النعمة وأن يعترفوا بهذه النعمة وأن يشكروا المنعِم بهذه النعمة فيعبدوه سبحانه وبحمده لا يشركون به شيء.
ثم يقول تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾.
الويل: كما ذكر قيل: وادٍ في جهنم، وقيل: إنها كلمة وعيد وإنذار وتهديد.
قوله: ﴿لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ الهُمَزة: صيغة مبالغةٍ من الهمزِ.
قالوا: هناك فرق بين الهمز واللمز:
- أن الهمز يكون بالفعل.
- واللمز يكون بالقول.
وقيل بالعكس.
وعلى كل حال فالهمز واللمز قد يكونا بالإشارةِ وقد يكونا بكلامٍ يقوله الهمَّاز اللَّماز، ومنها ذلك كما قال ابن عباس: "هو الطعَّان العيَّاب"، يعني: الذي يطعن في الناس ويعيبهم، يوجد في الناس -عافانا الله وإياكم- من هو بذيء اللسان يتكلم في الناس ويتناولهم بالازدراء واللمز والانتقاص، وهذا أمر لا يجوز.
وقد يلمز ويهمز من هو خير منه، قال -عز وجل-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11].
وهنا سؤال: هل يلمز الإنسان من نفسه؟
فالجواب: لا، إذًا ما معنى قوله -عز وجل- ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: لا يلمز بعضكم بعضًا، لكن الله -عز وجل- وضع الغير في موضع النفس، فكما أنك لا ترضى أحدًا يلمزك فالواجب أن لا تلمز غيرك، وهذا منهجٌ في القرآن يجعل الله -سبحانه وتعالى- الغير في مقام النفسِ حتى ليحذر الإنسان من الوقيعة في الآخرين، وكأنك إذا وقعت في الآخرين إنما وقعت في نفسك، نظير هذا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، أي: لا يقتل بعضكم، وقال: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 61]، أي: ليسلم بعضكم على بعض.
قال: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾ صفة هذا الهماز اللماز: البخل، فهو يجمع المال ويحصي المال ويعدد المال، وهمته أن يزيد هذا المال لئلا أن ينقص، يظن أن هذا المال سيخلده في الدنيا، قال: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾، وهو يعلم والكل يعلم أنا كلَّ صاحبَ مالٍ سوف يترك المال في لحظة من اللحظات، أو يتركه المال في لحظة من اللحظات، فحينما يترك المال وينتقل من هذه الحياة فإنه يترك المال لغيره، فيقدم يوم القيامة يحاسب عليه، فيكون حسابه عليه، ويتمتع به ويتوسع به غيره -والله المستعان!
قال تعالى: ﴿كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾ "كلا" ترد في القرآن كثيرًا وفي هذا الجزء بخاصة، ولها معنيان:
- إما أن تكون بمعنى حقًّا.
- أو تكون بمعنى الردع والزجر كما في هذه الآية، فـ "كلا" كلمة ردع والزجر لهذا الهمَّاز اللمَّاز البخيل الضنين بماله، والمعنى: كلا ليس الأمر كما يظن وأن ماله هذا سوف يخلده في هذه الدنيا.
قال: ﴿كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾، وقوله "لا ينبذنّا" قَسَمٌ، فاللام موطئة للقسم، والقسم محذوف، والنون للتوكيد، فاشتملت هذه الكلمة على ثلاثة مؤكدات: القسم واللام الموطئة ونون التوكيد، وإنما يكون التوكيد لأمرٍ مؤكَّدٍ وقوله: ﴿لَيُنْبَذَنَّ﴾ أي ليُطرحنَّ في الحُطمة.
قال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾، وهذا بيانٌ لهولها وشدتها، وهذا الاستفهام أيضا يرد في القرآن كثيرًا، وسيأتيك قول الله تعالى ﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة: 1 – 3]، وقوله: ﴿الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ [الحاقة: 1 – 3]، قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1، 2] فيأتي مثل هذا الأسلوب لتعظيم الأمر أو لبيان هوله وشدته.
قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾، بيَّن -عز وجل- أن الحُطمة نارُ الله الموقدة، وإنما سميت "حُطمة" لأنها تحطم كل ما وقع فيها -عياذا بالله منها.
قوله: ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ﴾، أي: المُؤَجَّجة.
قوله: ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾، يعني تنفذ على القلوب من الأجساد، وأشد العذاب وأقساه ما يكون في القلوب -عياذًا بالله.
قوله: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ﴾، أي النار.
قوله: ﴿مُؤْصَدَةٌ﴾ أي: مُطبقة قد أُوصدت أبوابها وأُحكِم إغلاقها.
قوله: ﴿مُؤْصَدَةٌ﴾، اختُلف فيه:
- فقيل: عمدٌ مُمدَّدة من وراء الأبواب، حتى يكون أشدَّ إغلاقًا لها.
- وقيل: بل هي عمود يُعذَّبون بها في نار جهنم.
{بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾}.
قوله: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ الواو حرف قَسَم وجر، و"العصر" مُقسَم به مجرور.
وجوابه: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾.
والعصر: هو الزمان، وهو محل الحوادث وحركة الإنسان وتنقله وآماله.
قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، كل إنسان في خسارٍ ونقصٍ وهلاكٍ.
يقول العلماء: "أل" هنا للاستغراق تدل على العموم، ومن عيار العموم: أن تدخل كلمة "كل" فإذا استقام الكلام فهو للعموم، وإذا لم يستقم فليس للعموم، فأنت تقول: "نجح الطلاب - نجح كل الطلاب" استقام الكلام، لكن لو قلت: "نجح خالد - نجح كل خالد" لا يستقيم! فليس للعموم؛ بل هي للخصوص.
إذًا هنا "أل" تدل على العموم لأنها استغراقية يعني تستغرق جميع مدخولها، فكل إنسان في خسار إلا من استثنى الله -عز وجل-.
والذين استثناهم الله -عز وجل- جمعوا صفات أربع:
الصفة الأولى: آمنوا بالله.
الصفة الثانية: عملوا الصالحات.
الصفة الثالثة: تواصوا بالحق.
الصفة الرابعة: تواصوا بالصبر.
وهذه المسائل الأربع أخذها الشيخ محمد بن عبد الوهاب -قدس الله روحه- في مقدمة "الأصول الثلاثة"، فقال: "اعلم أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأولى: العلم. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه. الرابعة الصبر على الأذى فيه". فأخذ العلم من قوله ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، الإيمان معناه: الإقرار والتصديق المستلزم للإذعان والانقياد، فليس الإيمان مجرد التصديق كما يقال -الله المستعان- في هذه الأزمة: إن كل من صدق فهو مؤمن، بل يكفي أن يؤمن بوجود الله فيقال عنه إنه مؤمن حتى ولو كفر بالقرآن وبدين الإسلام!
وعلى مذهب هؤلاء فإن إبليس مؤمن -ولا قوة إلا بالله- لأن إبليس قال: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الحجر: 39] فهو مُقرٌ بأن الله ربه، ليس بوجوده فقط بل بربوبيته أيضًا، وعلى منهجهم فإن فرعون مؤمن وقومه مؤمنون! لأن هؤلاء الكفرة مقرون ببواطنهم ومعترفون بدواخل نفوسهم بأن الأنبياء على حق، قال تعالى عن قوم فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14] وقال موسى عن فرعون: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الإسراء: 102]، فلا يكفي التصديق، فلا بد مع التصديق من الإذعان والانقياد، فيُذعن في قرارة نفسه وينقادُ في ظاهره وباطنه حتى يكون مؤمنًا، فالإيمان مطلب عالٍ وليس سلعةً رخيصة مبتذلة تطلق على كلِّ مَن ادَّعاه.
والنبي في حديث جبريل الذي أخرجه مسلم بيَّن الإيمان لما سأله جبريل -عليه السلام- فقال: «أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ» ، فلا يكون الإنسان مؤمنًا حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة المذكورة في الحديث.
قوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، يعني صدقوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارهم، فأتبعوا التصديق بالعمل ليكون دالًّا عليه، فليس الإيمان -كما يقول بعض السلف- بالتمني ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الجوارح، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 2- 4].
قوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ هم استعانوا بربهم في تكميل أنفسهم بالإيمان به وبالأعمال الصالحة، ولم يقتصروا بهذا الأمر على أنفسهم بل دعوا غيرهم، لأن على المسلم حقًا أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، قال : «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، وإذا منّ الله الإنسان بالاستقامة فيجب عليه أن يشكر الله على هذا الأمر، ويتأكد عليه أن يزكِّي مِن هذه النعمة، وتزكيتها بدعوة الناس إليها، قال تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: 15]، أمره بالاستقامة وأمره بالدعوة إلى الله -عز وجل-.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 30 - 33]، لا أحد أحسن قولًا ممن دعا إلى الله -عز وجل- وهذا منهج محمد وسبيله -صلوات ربي وسلامه عليه- قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]، والدعوة إلى الله أمرها مُيسّر -والله الحمد والمنة- يدعو الإنسان أخاه، يدعو صاحبه، يدعو زميله، وإذا دعاه يدعوه على بصيرة كما ذكر الله -عز وجل-، لا يدعو إلا بعلم، وعنده الطريق الذي يوصله إلى هذا الإنسان ويتوخَّى الحكمة في دعواته كما أمر الله -عز وجل- ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125] فهم يوصي بعضهم بعضًا بالإيمان وبالأعمال الصالحة، سعوا إلى تكميل غيرهم بتوفيق الله بعد أن استعانوا بربهم على تكميل أنفسهم.
ثم قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، أي تواصوا بالصبر على هذا الأمر، وفي هذا الطريق، والصبر عظيم -يا إخوان- ومكانته في الإسلام عالية، وقد ذكره ربنا -عز وجل- في القرآن في أكثر من مائة موضع، وإذا أطلق الصبر فإنه يشمل الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقداره المؤلمة، وبهذا ينتظم الصبر الدَّينَ كلَّه ولهذا رتّب الله على الصبر أعظمَ الجزاء، قال -عز وجل-: ﴿وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا﴾ [الإنسان: 12]، وعندما يدخل أهل الجنة الجنة -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم جميعًا من أهلها- تدخل عليهم الملائكة، قال تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23 - 24]، وقال -عز وجل- بعد أن ذكر صفات جليلة لعباد الرحمن، قال: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ [الفرقان: 75 - 76]، والغرفة: الجنة.
وأعظم الصبر: الصبر على طاعة الله، ثم صبر عن معصية الله -عز وجل-، لأن طاعة الله فعلٌ، والصبر عن المعصية تركٌ، والترك لا شك أشد، وكما ثبت في الحديث: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ» ، فاحتاج الإنسان إلى أن يصبر وأن يصابر، وأن يستعين بربه وأن يثابر، قد تجد في العمل أول الأمر فيه نوع كلفة ومشقة على النفس، يحتاج فيها إلى مجاهدة عسيرة، ثم مع الوقت تخف هذه المجاهدة، فيعود الأمر سهلًا ميسورًا، ثم مع الوقت والوقت، ومع توفيق الرب وتيسيره يصبح الأمر لذيذًا.
واللذة -يا إخوان- مطلب عالٍ وغاية يسعى إليها المؤمن، لكنها لا تُنال بمجرد الأماني، ولا بالرغبة ولا بالحرص، ولكن بتوفيق الله -عز وجل-، ثم الجهاد والجهاد والجهاد لهذه النفس، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، يقول ثابت البناني -رحمه الله: "جاهدت نفسي على القرآن عشرين سنة وجدت لذته عشرين سنة"، ويقول سفيان: "جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وجدت لذته عشرين سنة"، ما وجدوا اللذة هكذا بمجرد أن أحبوها ورغبوا فيها، وإنما جاهدوا أنفسهم، وقبل الجهاد والأهم الجهاد أنهم استعانوا بالله -عز وجل- حتى أوصلهم الله تعالى إلى هذا المرتب وإلى هذا المقام العالي والمرتبة الرفيعة -نسأل الله أن يوفقنا وإياكم ونكون من عباد الله المؤمنين العاملين الصالحات المتواصين بالحق والمتواصين بالصبر.
ومما يذكر في هذا السورة العظيمة والتي قال فيها الشافعي رحمه الله: "لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم" الله أكبر! لأنها اشتملت على الإيمان والعمل الصالح والدعوة إلى الله -عز وجل- بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
ومما يذكر في السير: أن عمروا بن العاص وهو من دهاة العرب قدم على مسيلمة الكذاب الدجال الذي ادَّعى النبوة وذلك قبل أن يسلم عمرو فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم؟ يؤيد النبي .
قال: أنزلت عليه سورة وجيزة بليغة وقرأ عليه سورة العصر، فسكت الدَّجال وأخذ يجمع من أباطيله وأكاذيبه، ثم قال: وأنا أنزلت عليّ سورة مثلها، قال عمرو ما هي؟ قال: "يَا وَبْر يَا وَبْر، إِنَّمَا أَنْتِ أُذُنَانِ وصَدْر، وَسَائِرُكِ حَفْزُ نَقْز"، والوبر: نوع من فصيلة الأرانب صغير" هذه سورته! عمرو بن العاص الداهية -رضي الله عنه وأرضاه- ما قال له: "أنت تكذب؛ بل قال: "وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ تَكْذِبُ" رضي الله عن عمرو بن عاص.
وفق الله الجميع للخير، ورزقنا الله وإياكم العلم النافع والعمل الصالح والدعوة إليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{شكر الله عليكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم وأفدتم، وجزاكم عنا خير الجزاء.
إذًا نصل لختام هذه الحلقة أيها الإخوة والأخوات، ونشكركم على حسن الاستماع، ونلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك