الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

5037 6
الدرس السادس

مسائل فقهية معاصرة

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين، أما بعد يا أيها الإخوة، فنسأل الله جلَّ وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن عُصِمَ من الفتن، وحُفِظَ من البلايا والمحن، وأن يُتمَّ علينا النعم، وأن يجعلنا من عباده الموحدين، وأوليائه المتوكلين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيها الإخوة، في آخر هذه اللبنات المباركة التي تحدثنا وإياكم فيها عن جملة من المسائل التي بحثنا فيها نذرًا يسيرًا من المسائل، ولم نأت على كثيرٍ منها، وكما قلنا في شرطنا في أول هذه المجالس: إنها إطلالة وإشارة متنوعة على أبوابٍ متفرقة، ولعلنا بإذن الله تبارك وتعالى في هذا اللقاء أن نأتي على بعض المسائل ونختصر فيها في باب الصيام والحج لنكون قد أتمننا العبادات، ويبقى الجهاد وهو متنازع فيه ومتردد بين المعاملات والعبادات، فالحنابلة يذكرونه في العبادات، وأكثر الفقهاء يذكرونه مع المعاملات، فلنا مسوِّغ أن نلحقه بما بعده في مناسبة لاحقة بإذن الله تبارك وتعالى لمدارسة بعض مسائله، واستعراض بعض نوازله، أو ما يجد فيه.
قبل أن نأتي في باب الصيام هنا مسألة تتعلق بباب الزكاةـ، وبها نختم هذا الباب، وإن كان في الحقيقة دون عندنا أكثر من ذلك، ولكن لا يمكن أن يأتي عليها الوقت، وهي دفع الزكاة لحلق تحفيظ القرآن أو لبعض الأوقاف والأعمال.
هذه في الحقيقة من حيث أصل بحثها راجعة إلى أصناف الزكاة الثمانية، وأنها محددة محدودة جاء الشرع بقصرها وحصرها كما قال الله -جل وعلا- في آياته: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ فعدَّ ثمانية لا يُزاد عليها بنصِّ كتاب الله وقول فقهاء الإسلام.
لَمَّا عَدَّ الفقهاء في ذلك ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قصدوا في ذلك ابن الطريق ومن قَصُرت به النفقة في سفر ونحوه، ولم يقصدوا بذلك عموم المحتاج، وإلا لأدى ذلك إلى أن المقصود في الآية من الحصر قد فات، وهذا متعذر أن يكون في كتاب الله.
تأتي آية بالحصر ثم يأتي بعض أفرادها بالإطلاق بدون قيد لا يتأتى لتعارض الحالين؛ فلأجل ذلك لم يزل الفقهاء المتقدمون والمتأخرون على أن هذا الباب محصورٌ، وبناءً على ذلك كان قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هو ابن الطريق الذي تعلَّق به هذا الحُكم، ونسبته إلى سبيل الله؛ لأنه محتاج إلى شيء يبذل له في سبيل الله وهو ابن الطريق، ولذلك قالوا: ابن الليل لمن يعيش في الطريق كثيرًا أو لمن يتنقل فيه، وتكون حياته ملتصقة به، وهكذا عند العرب في تسمياتها. إذن ابن الطريق هو في سبيل الله؛ لأنه محتاج لَمَّا انقطعت به نفقته واحتاج إلى من يتصدق عليه لله وطلبًا لمرضاة الله وتعرضًا لرحمات الله جل وعلا.
فلمَّا كان الأمر كذلك، وكانت هذه الحلق بابًا من أبواب العلم وتعليم القرآن ومحاضنه، يتربى وينشأ فيها الصغار على الخير والهدى، وقد ضاقت أبوب البذل والإعطاء لدعمها وإعانتها على ما تقوم به من رسالتها؛ صار بعض أهل العلم إلى جواز بذل الزكاة فيها وإدخاله في معنى ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أو قال بعضهم: لو اشتُرِيَ وقفٌ وبقي مالٌ فهذا غُرمٌ فيدخل في قوله: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ ولذلك قالوا: يجوز أن يبذل المال للحلقة باعتبار رسالتها وباعتبار أنها غَرِمَت في هذا الوقف ولم تؤد ما لحق بها من التزام.
لكن نقول في مثل هذه الحال: إنها من جهة الأصل لا تدخل في معنى الأصناف الثمانية، وأن قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لا يتعلق بهذا البتة، وإنما وسع فيه وفتقه على غير وجهه بعض المتأخرين ممن جنحوا إلى النظر والعقل على سبيل الاجتهاد أو ربما كان في ذلك معان غير صائبة ومقاصد غير صحيحة.
مَن أتى بعد ذلك فلم يبقه على أصله ولم يوسعه توسيع ذاك، فهذا نوع تلفيق؛ لأن الغرم الذي جاء في الآية، إنما هو لحظِّ نفسه أو حظِّ غيره، وهذا لا ذا ولا ذاك، فليست الحِلق التي اشترت وقفًا والتزمت مالا مما تدخل في حظ نفسه، وليس الغرم لإصلاح ذات البين فيدخل في هذا الحكم.
إذن، يتلخص من ذلك على وجه الاختصار والتيسير والتوضيح والتبيين أنه لا يجوز بذل الزكاة في مثل ذلك؛ لماذا؟ لأن سبيل الله مقصور على ابن الطريق وليس واسعًا كما وسَّعه بعض المتأخرين لمعنى أو لأخر، ليس على وجه قويم، ولا أصل أصيل من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، ثم من أراد أن يدخله في سهم الغارمين فذلك أيضًا لا يتأتى لِما ذكرنا من أن الغارمين محصورٌ بنوعين ليس هذا واحد منهما ولا يمكن إدراجه فيهما.
هذا على سبيل الاختصار، وكما قلت لكم: ربما نختصر في عرض هذه المسائل.
أما يتعلق بكتاب الصيام ففيه جملة من المسائل سنعرضها كذلك على وجه الاختصار.
المسألة الأولى: حكم استخدام المراصد الفلكية في رؤية الهلال، ويتفرع منها حكم إثبات دخول الشهر عن طريق الحسابات الفلكية؟
أولاً: ما يتعلق باستخدام المراصد الفلكية في رؤية الهلال، إن أُريد بذلك المكبرات والتلسكوب وما في حكمه؛ فهذه لا تخرج كونها عن نظر بالبصر ورؤية في الحقيقة، فبناء على ذلك هي مثل ما أننا نأتي بشخص ذا بصر ثاقب مع حسن رؤية للأشياء على وجهٍ لا يكاد يساويه غيره فينظر حتى يرى الهلال أم لا، فيمكن أن نستعين بآلة تمكننا من الوصول إلى هذه رؤية الهلال والعلم بهلاله من هدمه، ومثل ذلك النظارة، وكل ذلك لا يخرج عن كونها رؤية صحيحة مشمولة بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وإذَا رَأَيْتُمُوهُ فأفْطِرُوا»، فهذه رؤية كانت بالعين المجردة أو بما يكملها من هذه الآلات الموضحة، وكل دال على ذلك وميسر له.
نأتي إلى المسألة الثانية، وهي إثبات دخول الشهر بالحساب:
أولاً: ينبغي أن يُعلم أن الله تعالى قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ فالشرع جاء باعتبار رؤية الهلال لدخول الشهر والحكم به أو إكمال العدة كما دلَّت على ذلك السنة، فإذن رؤية الأهلة وإهلالها هو مناط ما جاء الشرع به في هذه العبادة وأحكامها، ومن جهة المعنى فإن ذلك أيسر على الناس؛ لأن رؤية الهلال يتسنى للناس «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُبِّيَ علَيْكُم فأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» فالناس بين أمرين واضحين لا خفاء فيهما ولا إشكال، إمَّا رؤية الهلال أو إكمال العدة.
ثم جاء الشرع بنفي ما سوى ذلك وهو نفي الحساب، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي في الصحيح، «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا. يَعْنِي: مَرَّةً تِسْعَةً وعِشْرِينَ، ومَرَّةً ثَلَاثِينَ».
لَمَّا قال النبي «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ»، الأمية صفة ذم، والمقام هنا مقام مدح لهذه الأمة، فكيف يجمع بين ذلك؟
قال أهل العلم: إن المراد في هذا أمية في باب الحساب واعتباره في باب العبادة وذلك لأن الأمية هنا والجهل بها أتم لكثرة ما يحصل عند أهل الحساب والفلك من الاختلاف والتناقض، فلما كان هذا العلم في حساب الهلال ورؤيته وإهلاله من عدمه، وولادته وما يتبعه فيها أخذٌ ورد وتخالفٌ وتعارضٌ وتضاد عند أهل الاختصاص، فكان الجهل به أولى من العلم؛ لأن أمرًا يكثر ويظهر فيه التناقض يكون العلم به لا يفيد، والنبي صلى الله عليه وسلم حجب هذا الباب لكثرة الخلاف فيه، ولصعوبة مسلكه، ولأنه لا يعرفه إلا القلة القليلة من الناس، وعزا الناس وأرشدهم إلى ما هو أسهل وأيسر وأتم وأوضح ولا إشكال فيه وهو الرؤية أو إكمال العدة، فالأجل ذلك استقر رأي أهل العلم من الصحابة والسلف والأئمة الأربعة على أنَّ المعتبر رؤية الهلال، ولكن على اختلاف بينهم، هل الرؤية رؤية أهل الدنيا كلها؟ أو رؤية كل بلدٍ لحسبه؟ أو هم تبعٌ للإمام على اختلاف في ذلك؛ لكنَّ الإجماع في هذا منعقد.
متى اعتبر الحساب؟
اعتبر الحساب كما نصَّ على ذلك أهل العلم في المائة الثالثة، وأول ما اعتبر الحساب اعتبر في حال خاصة وهو إذا غُمَّ على الناس الرؤية ولم يستطيعوا لسحاب أو غيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنْ غُمَّ علَيْكُم فَاقْدُرُوا له قدره» فقالوا: «فَاقْدُرُوا له» ليس من باب التقدير الذي هو الإكمال وإنما هو من باب التضييق الذي هو الحساب، فنقدر ونحسب ونعتبر الحساب، ومن هنا وجد القول بالحساب، ولذا فهو قول حادث خلاف لقول أهل العلم.
الحقيقة انه اشتهر مع تتابع الأزمان وصارت كثير من الجهات تعتبره.
المسألة التي نحتاج إليها وهي مسألة دقيقة ومهمة لكثرة حاجة الناس إليها، وهو: يكون بعض الناس في بعض البلدان التي يعتبر فيها الحساب، فهل يصوم بصيامهم، أم يعتبر حكم نفسه، أم ينظر إلى غيره؟
هذه مسألة مشكلة، فمن جهة قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتموه فصوموا فهو معلق بالرؤية، فإذا قلنا إن رؤية أهل بلد رؤية لأهل الأرض كلهم، نقول: يصوم بصيامهم، وبذلك يرتفع شيء من الإشكال، ولكن يبقى في إشكال وهو مخالفة الناس وحصول الخلاف بين الناس، هذا يصوم وهذا لا يصوم إلى غير ذلك.
إذا قلنا: إنه لم ير الهلال فالأمر دائر بين أنه ينظر ويكمل العدة أو يصوم، ولكن لن ينفك مع كونه مطبقًا للأحاديث إلى المخالفة مع الناس، خاصة والنبي صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»، وقوله: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ»؛ فجعل الحكم لعموم الناس لا لآحادهم.
وفي الحقيقة هذه المسألة فيها نوع صعوبة ووعورة، فإما أن يصار إلى أن يحتاط الإنسان يحتاط، لكن إذا قيل يصوم مع حصول المخالفة فإنه لا ينبغي أن يفتات على الناس بالمنازعة ولا أن يظهر المباينة ولا نحو ذلك مما يكون سببا لحصول البلاء والشرور والنزاع، ولعلكم تنظرون ما يحدث في كثير من المواقع من بعض الناس ونحوه، ويرتد الأمر بدلا من أن يكون عبادة واستجابة لله ورسوله إلى نزاع وشحناء نفوس وتصفية حسابات وما سواها.
وإما أن يقال: إنه يتبع البلد الذي فيه ولو كانت بالحساب معتبرة، وهذا مخرج من الإشكال وله أصلٌ من السنة، وله اعتبار من أقوال أهل العلم المعاصرين.
أمَّا كونه يخرج من الإشكال، أي: يخرج من الضوضاء وغير ذلك، وأمَّا كونه له أصل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ»؛ فجعل الحكم لعموم الناس لا لآحادهم.
ثم أذكر أن شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى قد سألته عن هذه المسألة خاصة في شرحه لموطأ الإمام مالك في أول كتاب الصيام، فقال: يصوم مع الناس، قيل لمَ يا شيخ مع أن فيه الحديث؟ قال للشبهة في هذه المسألة، وتفسيري أنا لكلمة فيه شبهة- أي: فيها شبهة لاعتبار الحساب من قوله صلى الله عليه وسلم: «فَاقْدُرُوا له قدره» أي لما فيها من التقدير والحساب ولِمَا جاء عن بعض السلف أنهم كانوا يصيرون إلى الحساب بمعنى التقدير إذا غُمَّ عليهم لنحو قتر أو غيمٍ أو غير ذلك، فنقول هؤلاء غم عليهم ولم يستطيعوا الرؤية، فاعتبار الحساب لما آل إليه الناس قاطع للنزاع ومحصل لمصلحة الائتلاف وله شبهة في ذلك ليكون أولى في النظر وأقرب في الحال، والمسألة محل بحثٍ ونظر
إذن هذه هي المسألة الثانية.
أمَّا المسألة الثالثة فهي مسألة كثيرة الوقوع ويندرج تحتها مسائل كثيرة، وهي ما يتعطاها الصائم من أشياء يحتاج إليها في التطبب ونحوه، مثل: بخاخ الربو، قطرة الأنف في الأذن، أو قطرة العين، الحقن المغذية، وغيرها من المسائل الكثيرة، وإذا نظرنا في هذه المسائل فهي قديمة وهي جديدة، ومن حيث النظر الفقهي عند الفقهاء، فالأكثر عن قول الفقهاء أنهم يمنعون ذلك، من أين نأخذ هذا؟
النبي صلى الله عليه وسلم نهى الصائم عن الأكل والشرب وأن يصل شيء إلى الجوف، وهذا في الأحاديث الصحيحة وهو محل اتفاق، إلا من فعل ذلك ناسيًا، يقول صلى الله عليه وسلم: «مَن نَسِى وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ»، وقد نهى الشارع عن الأكل والشرب من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس، وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث لَقِيطِ بْنِ صُبْرَةَ «وَبَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا»، وهذا المدخل (الأنف) هو المساند فليس هو الرئيس المخصص للأكل والشرب، ومع ذلك لَمَّا كان يصل منه إلى الجوف منع منه؛ فأخذ الفقهاء رحمهم الله تعالى من هذا أن كل ما يمكن أن يكون مدخلاً حتى وإن كان ذلك على سبيل القلة والندرة في بعض الأحوال أو في بعض العلاجات التي يكون لها نفاذ أو نحوه؛ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوقي منها، حتى مع كونها عبادة ومأمورًا بها في الوضوء ومع ذلك حفظًا على الصيام من البطلان، فكان ذلك دالا على أن كل ما يمكن أن يكون مدخلاً ولو خفيًا ولو في بعض الأحوال فإنه يمنع منه في حال الصيام، وهذا ينطبق على مدخل الأنف وقطرة الأذن والعين، ومثل ذلك أيضًا ومن باب أولى الحقنة التي يتعطاها الإنسان سواء كانت مغذية أو غير مُغذية باعتبار أنها داخلة إلى الجوف.
وهناك من سلك مسلكًا آخر، وقد اشتهر به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في أنَّ مناط الحكم في المغذي من عدمه، لكن هذا المناط في الحقيقة لم يرد في الدليل ولم يرد في كلام أهل العلم، وعليه اشتراطات واعتراضات كثيرة، وإن كان ابن تيمية رحمه الله تعالى قد انتصر لذلك انتصارًا كبيرًا وأتى بخمس مسوغات لهذا الأصل، وقوَّى الأمر فيه وزاد من الكلام عليه.
وكونه مغذي أو غير مغذي هذا في الحقيقة مما لا ينضبط، فلذلك الشبعان إذا أكل ولا يتغذى،
ولأجل ذلك ورد على ابن تيمية وغيره لو ابتلع حصاة أو خيطًا أو نحو ذلك مما لا أثر له، ولكنها في الحقيقة دخلت إلى جوفه، وذهب بعضهم إلى أنها لا تفطر وينجر إلى ذلك إشكالات كثيرة ليست جارية على أصل أهل العلم، ولذلك لَمَّا ضَيَّق الفقهاء في هذه المسائل كان التضييق له وجه، فإذا أتيت مثلا إلى قطرة الأنف فهذه ظاهرة لأنه قد جاء بها النص، وأما عن العين والأذن فمن المعلوم أن لهما منفذ إلى الجوف، فبعض الأشياء لقوة نفاذها تصل إلى الجوف، فهو كما لو كان قد دخل من الأنف، فلماذا تقولون بالمنع مما يتعطاه الإنسان بالسعوط عن الأنف ولا تقولون مما يدخل إلى الجوف عن طريق الأذن أو العين؛ فكان هذا القول أثبت وأمثل وهو كذلك مطرد ولا ترد عليه شيء إشكالات ولا تنبعث عليه الاعتراضات.
نأتي إلى الحقن المغذية، وهي من غير مخرج، ولكنها أولا مغذية، وثانيًا فيها ماء حتى وإن كانت غير مغذية، وهي واصلة إلى الجوف، وقد مُنع من أن يوصل شيء إلى الجوف على اختلاف أنواعه، وبناء على ذلك فالمغذية ظاهرة تدخل في الحكم ولا شك على قول الجميع، بينما يرد الإشكال في غير المغذية، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يمنع منها، ثم قال الأحوط تركها.
وفي الحقيقة أن اشتمالها على الماء ودخولها في بدن الإنسان، وفي الغالب أنها تتحلل وتصل إلى مواطن لا ينفك من الحاجة إليها، بل هي لا يمكن الاستفادة منها إلا إذا كانت تجري في مجرى الدم، وإذا كانت تجري في مجرى الدم فتصل إلى الجوف لينتفع بها الإنسان؛ لأجل ذلك كان القول الذي عُهِدَ في أول الأمر من منع هذه الحقن حتى ولو كانت غير مغذية لكون أن جزءًا من أجزاء تركيبها يحتوي على الماء ولأنها لا تنفك من أن تتحلل في جوف الإنسان؛ وبناء على ذلك هي داخلة فيما ذكر الفقهاء فيمنع منها، وإن كان القول الذي عليه الفتيا ويقول به كثير من المعاصرين في التفريق بين الحقن المغذية وغيرها.
بخاخ الربو: هو في الحقيقة أشكل مما تقدم، ويقول أهل الطب في نوع منه: هو هواء لا يصل إلى الجوف، والنوع الآخر بودرة قريب من القول في قطرة الأنف والأذن ونحوها، ويقولون حتى لو دخل منه شيء فهو شيء يسير جدًا أقل مما يترك في الفم لمن تمضمض، وبناء على ذلك سهلوا فيه، وعلى هذا فتوى بعضهم من أنه يسهل فيه على الإطلاق أو يقال إن احتاج إليه الإنسان فلا يمنع منه، لكن نقول: نعم في الحقيقة يترك أقل مما يترك داخل الفم مع المضمضة، ولكن الذي بَخَّ هو يقصد أن يُدخلها إلى جوفه، فهو قصد الدخول إلى الجوف ولو بشيء قليل.
وكون يدخل إلى القصبة الهوائية والمريء فهذا شيء لا يُتبين، ولذا كان القول باتقائه أولى.
لكن تبقى مسألة إذا قيل بها يمكن أن تخفف فيه أكثر من ذلك، وهو إذا قيل إنه لا يدخل إلى الجوف وإنما يبقى هواء في الأنف ونحوه، فيمكن أن يكون من يقال إن وصول جزء يسير منه إلى الجوف مشكوك فيه في الأصل فلا يؤثر على صحة صومه، وهذا أقوى ما يمكن أن يعتمد عليه مع أنه ينبغي للإنسان أن يتقيه ما استطاع، فإن أذن المغرب واحتاج إليه يتعطاه فله مندوحة في الإفطار وله سعة في القضاء، والله يتولانا برحمته، وعلى كل حال كما قلت لكم: الفتوى في الجملة سواء من مشايخنا الشيخ ابن باز وغيره فيها نوع من التخفيف في مثل هذه المسائل.
مسألة القسطرة على الصيام
القسطرة: هو ما يجعل في الإحليل من إدخال دهن أو علاج أو نحوه عن طريق مدخل الذكر في المثانة.
هل القسطرة مؤثرة على الصيام أو لا؟
نقول: هذه المسألة منصوص عليها عند الفقهاء، من قطَّر في إحليله، والإحليل هو فتحة الذكر، ويقولون: إن فعل ذلك لا يحصل به فطر، وأصل ذلك كما يقولون أن المثانة لا تصل إلى الجوف، وأن نزول البول إلى المثانة إنما هو عن طريق التبخير، وبناء عليه فهو لا يصل للبدن وبالتالي لا يفطر.
وكذلك ما يستعمل في القسطرة لإجراء تحليل أو نحو ذلك من الأغراض الطبية، فما دام أنه لا يصل إلى الجوف وهو متفق مع أهل العلم فيمكن أن يقال: إنها لا تمنع من صحة صوم الصائم في تلك الحال إذا تعطاها.
ما يتعلق بالغسيل الكلوي للصائم؟
الغسيل الكلوي يحتاج إليه من عطبت كليته فلم تستطع أن تؤدي مهامها واحتاج إلى لفظ السموم التي تلحق ببدنه عبر المعالجات بالغسيل الكلوي ونحوه، وله أنواع مثل: البروتيني أو الدموي ونحوه.
أهل العلم المعاصرين يختلفون في كون ذلك مفسدًا للصيام أو لا مع أن في الغالب أن من يتعاطى ذلك يلحق به شيء من التعب وينبغي للإنسان ألا يكلف نفسه وهذا إن قلنا بصحة صيامه في ذلك الحال.
وما دام أنه في هذا الغسيل يخرج الدم إلى كلية صناعية ثم يعاد فيضخ في البدن، فيقال في هذا كأنه دخل شيء على البدن خارج عنه؛ لأنه انفصل منه فله حكم الخارج، فإذا دخل فهو كشيء جديد، كما لو بصق الإنسان ريقه ثم أخذه وأعاده إلى فيه – أكرمكم الله- يكون بذلك مفطرًا، فكذلك من باب أولى هذا الدم الكثير الذي أخرج إلى الكلية الصناعية ثم أدخل خاصة أنه لا ينفك من بعض الإضافات.
حتى النوع الثاني فإنه في قول أكثر أهل العلم لا ينفك من دخول وخروج؛ لأجل ذلك كان القول بأنه مفسد للصيام ظاهر جلي.
وبعض أهل العلم يبني هذه المسألة على مسألة الحجامة وغيرها، وفي الحقيقة أظن أن بناءها على ذلك تضعيف لها؛ لأنها شيء انفك عن الإنسان ثم عاد إليه، هذا شيء جديد أدخله إلى جوفه سواء كان من هذا الدم الذي هو دمه أصلا وقد نقي ثم رجع، أو كان من الإضافات، أو كان من النوع الثاني ما يدخل تبعا لذلك من الأشياء التي تدخل في حكم التغسيل، ولأجل ذلك لم يفرق جمع من المعاصرين وهذا صحيح بين النوعين في كونهما مؤثرين على الصائم في صيامه مانعين من صحته وسلامته من المفطرات.
مسألة تبرع الصائم بالدم:
تبرع الصائم بالدم راجعة إلى مسألة الحجامة، وعلى هذا هل يفطر الصائم بالحجامة أو لا؟
هذه المسألة فيها خلاف كبير بين الجمهور وبين الحنابلة، فالحنابلة يفطرون بالحجامة لحديث ثوبان وشداد «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ»، بينما ذهب الجمهور إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم احجتم وهو صائم، والحديث في البخاري، والسؤال هل هذا الحديث على وجهه أم فيه وَهْمٌ من الراوي وهو احتجم وهو محرم، وبناء على ذلك حصل الخلاف، وقد اجتهد الفقهاء باختلاف أقوالهم في تأييد واحد من هذين القولين اللذين حصل فيهما الخلاف.
إذن على قول الجمهور لا إشكال والأمر فيه أوسع، وحتى على قول الحنابلة فمسألة التبرع بالدم أسهل؛ لأن الحنابلة لَمَّا قالوا: إن مسألة الحجامة مفطرة للصائم، قالوا: لأن العلة تعبدية، يعني: لا يلحق بها ما يقاربها حتى مما يماثلها من الفصل والشرط اللذين هما نوع من أنواع التداوي بإخراج الدم، لكنها ليست حجامة لم ينص عليها الحديث. فمن باب أولى ما كان غير ذلك وهو التبرع بالدم.
لكن من قال بالإفطار بالحجامة ثم قال بالتعليل وهو ضعف البدن كما هو مسلك بعض متأخري الحنابلة كشيخ الإسلام وغيره، فهم الذين يمكن القول على قولهم من أن التبرع بالدم ممنوع؛ لأنه يحصل به ما يحصل بالحجامة من ضعف البدن وكسل الإنسان، وبناء على هذا يحصل الإفطار.
نحن كما بينا نحاول الإسراع في مثل هذه المسائل.
نأتي إلى مسألة الحج، والحج فيه مسائل كثيرة ونوازل متعددة، ولعلنا نبدأ بأكثر مسألة يكثر الحديث عنها، وهي: اعتبار جُدَّةَ ميقاتًا.
الآن كثير من الحجاج يأتي بالطائرة فينزل في جدة، فيفتى لهم بأن يحرموا من جُدة، فهل يكون ذلك سائغًا أم لا؟
أولاً: لو نظرت إلى المواقيت تجد أنَّ جُدَّة نائية عن حدود المواقيت، خارجة إلى جهة البحر في الجهة الغربية، ولكن هذا ليس مؤثرًا في الحُكم والمسألة، وهذا سبب الوَهَم عند بعض الناس، حيث قالوا: لو مددت خطًا من ذي الحليفة أو من الجحفة أو يلملم فستجد جُدة خارج، وعليه يمكن أن تكون ميقًاتا فيصح الإحرام منها.
نقول: إن هذا غير صحيح لهذه المسألة، بل المبنى الصحيح للمسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدَّد المواقيت الخمسة التي هي: (قرن المنازل – ذات عرق، كما جاء في الحديث عن عمر - الجُحفة – ذي الحليفة - يلملم في جهة الجنوب) .
فهذه المواقيت حددها النبي صلى الله عليه وسلم والأصل التزام تحديده، وقال: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» فإما أن تمر من هذه المواقيت فتحرم منها، وإن لم تمر بها فلابد من محاذاتها، وقد جاء عن عمر وجاء في الأثر: "فانظُروا حَذْوَها مَن طريقِكم"
فنقول ولا شك: إن الآتي من أي جهة من الجهات -إلا جهة واحدة- لابد أن ينطبق عليه أحد هذين الأمرين، إما أنه مرَّ بهذه المواقيت أو حاذاها، سواء جاء بالبرِّ أو جاء بالطائرة والجو، فإذا كان الأمر كذلك كيف يمر بذي الجحفة ويحرم من جُدة؟ أو يمر من قرن المنازل ويحرم من جدة؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ»، وعمر قال: "فانظُروا حَذْوَها مَن طريقِكم".
فإذا مررت بالميقات عليك أن تُحرم منه، وإذا مررت بحذوه فعليك أيضًا أن تُحرم منه، ولا يجوز لك أن تتجاوزه، وهذا شامل في كل الجهات، ويستثنى من ذلك جهة واحدة وهم أهل سواكن ومن في هذا النحو من جهة السودان، فإذا جاءوا عن طريق البحر فهم يصلون إلى جُدَّة قبل أن يصلوا إلى واحدٍ من هذه المواقيت، وقبل أن يُحاذوا أحدًا منها، فلمَّا كان الأمر كذلك، وهذا يدل على دقة الفقهاء رحمهم الله تعالى- قالوا: يحرمون من جُدة؛ لأن جُدة على بعد مرحلتين، وهي تساوى بـ (يلملم) أو بـ (قرن المنازل) لكونها على بُعد مرحلتين من مكة.
وبناء على ذلك نقول: من جاء من نحو سواكن أو قريبًا منها أو لم يمر بـ (ذي الجحفة) ولم يحاذه، ولم يمر بـ (يلملم) ولم يحاذه وجاء من جهة البحر سواء جاء بالسفينة أو بالجو، فيمكن أن تكون جُدة له ميقاتًا، أمَّا غير ذلك فهو لا يخرج ولا ينفك عن كونه دخل في الحديث الذي السابق ويكون قد مَرَّ بواحد من هذه المواقيت أو حاذاها، ومن مَرَّ بواحد من المواقيت أو حاذاه لزمه الإحرام وتعلق به، ولا يجوز له تأخيره إلى جُدَّة للإحرام منها.
هذا إذن باختصار فيما يتعلق بهذه المسألة.
في مسائل الإحرام وهي من المسائل التي كثر وقوعها وربما أفتى بها بعض العلماء، وهي الإحرام في الإزار المخيط، أو الإزار الذي استدار والذي يسمى بالتنورة، وربما كثر الآن تعاطي الناس له، وحتى أُلصقت به فتوى لبعض مشايخنا مثل: الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى-.
هذه المسألة ظاهرة عند الفقهاء لكن وقع فيها شيء من الإشكال، وكلٌ يُؤخذُ من قوله، وكلٌ يَفُوتُ عليه مع جلالته وفضله وعظمِ منزلته في العلم وأثره على الإسلام وأهله، وشيخنا الشيخ محمد بن عثيمين ممن عُرِف بالتدريس والجلوس للطلاب والتأديب وأخذ ونهل الناس منه كثيرًا، لكن لا يمنع أن تفوته المسألة والمسألتان، ويفوته شيء كثير.
هذه المسألة معروفة عند الفقهاء باسم النُّقْبَة، والنُّقْبَة قد حُكي فيها الإجماع على أنه لا يجوز الإحرام فيها، وأنها في حُكم المخيط؛ ولأن المخيط لا يُقصد به حصول الخياطة فيه، ولذلك يستشكل الناس ويتورعون أحيانًا من وجود خياطة ظاهرة فيه.
المقصود بالمخيط هو المفصل على عضو، ولذلك يُعبر بعض الفقهاء بالمحيط الذي يُحيط، وهذا مخيط باعتبار أنه مفصل على الجزء السفلي أو محيط به، ولذلك دخل في حكمه، وبناء على ذلك هو داخل حتى من جهة المعنى في المنع منه وعدم جوازه. وبناء على ذلك نقول: إن هذه النقطة لا تصح.
في بعض كلام الفقهاء يقولون: إن وصل إزارًا بإزار جاز الإحرام فيه، ولكن ليس المقصود بوصل الإزار بالإزار أنه كون مستديرًا كحال التنورة التي ترونها، لكن المقصود بذلك أن لو كان هذا الإزار لا يلف على الإنسان واحتاج إلى أن يصله فوجد فيه هذه الخياطة؛ فينص الفقهاء على جواز أن تخاط ويلفه الإنسان على نفسه ثم يعقده لئلا يقع لكن ليس على هيئة التنورة أن يكون مفصلا بحيث لا يكون فيه انفتاح لو فتحه ولا ينحلُّ إذا حَلَّه بخلاف هذه التنورة، ولذلك اشتبهت هذه الجملة على بعض الناس فظنَّ أنها مؤيدة لقول بصحة الإحرام في التنورة أو في النقبة التي ذكر الفقهاء، وعلى هذا فيتنبه لها على كثرتها وتعاطي الناس لها.
من المسائل كثيرة الوقوع، مسألة الطيب في الإحرام، والطيب في الإحرام من المسائل التي جاء النهي عنها وهو صريح لا إشكال فيه.
الطيب فيما مضى كان منه أنواع محدودة، لكن الآن دخل الطيب في أشياء كثيرة.
كيف يمكن لنا أن نعرف أنَّ هذا فيه طيب أو أنَّ هذا لا طيب فيه؟
الحقيقة أنَّ هذا فيه من الإشكال والدهاليز ولا ينفك الإنسان عن وجود الحرج فيه، لكن ذكر هنا بعض الفقهاء كالحنابلة قيدين اثنين، هما:
أحدهما: "ما كانت رائحته زكية ويتخذه الناس طيبًا". إذن بعض الأشياء لها رائحة زكية ولكن لا يتخذها الناس طيبًا فلا يمنع منها.
ثانيًا: يتعطاها الناس وليست لها رائحة زكية فلا يمنع منها.
إذن إذا اجتمع فيه هذان الأمران فيمنع المحرم منه.
الآن ما يغسل به الشعر مثل: الشامبو أو الأدهان أو الصوابين، كل ذلك دخل فيه المعطرات بشكل كثيف، ودخول هذه المعطرات مع الرفاهية صارت مقصودة، فلمَّا كان الأمر كذلك فالأصل أن الإنسان يتوقف عن ذلك كله؛ لئلا يخدش إحرامه، وألا يُؤثر في حجه.
فيما مضى سئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى نحوًا من هذه المسألة، قالوا: صابون (لوكس) وكان صابون لوكس قبل ذلك نوعًا واحدًا واليوم صار عشرات الأنواع، وأنا لا أقولها لتسمية شيء بخصوصه، لكن من باب التمثيل على أنه قد ورد وجاءت الإشكالات وتجددت.
فبناء على ذلك ينبغي للمسلم أن يتقي هذه الأمور ما استطاع حفظًا لإحرامه وطلبا لسلامة حجه، لكن ما كان من الأشياء التي الأصل فيها للدهان ولها رائحة ولكنها لا تتخذ طيبًا فلا يمنع منها، وإن كان -كما ذكرت لكم- أن هذا صار فيه تداخل، فالصوابين تُعطر والأدهان تعطر، فصار بعض الناس يدهن بما تكون رائحته زكية، أو يغسل شعره بما تفوح معه رائحة مسك وطيب منه، فإذا كان الأمر كذلك؛ فعلى الإنسان أن يتوقى جميع ذلك ما استطاع.
توجد بعض الأشياء التي يتيقن الناس أنه لا غضاضة في استخدامها واستعمالها ولا رائحة لها، أو رائحتها غير مقصودة؛ فهذه خارجة من الحكم، ولا جُناح على المحرم من تعاطيها واستعمالها.
مسألة توسيع أحواض الجمرات:
هذه من المسائل التي يُحتاج فيها إلى شيء من البحث، والجمرات وصفها الفقهاء وذكروا أوصافها، ستة أذرع ونحو من كل جهة لا غير ذلك مما ذكروه، وجمرة العقبة كانت نصف حوض؛ لأن النصف الجهة الأخرى وكانت جبلاً، وبناء على ذلك لا يُرمى إلا من جهة الوادي لكن هذه المعاني كلها قد زالت.
سؤال: هل اتساع الجمرات يغير الحكم أم لا؟
يقول أهل العلم: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وأنا أذكر الجمرات قبل أن تتغير إلى هذا النحو، وكنت ممن وفد إليها قبل بدء الحج لَمَّ جُعلت على هذه الهيئات الجديدة، وكانت في الحقيقة من حيث التصور من جهة النظر فيه إشكال أو صعوبة في معرفة الحكم الذي تعلق به الحكم الشرعي والواقع الذي يراه الناس، لكن بالنظر إلى حقيقة هذا الأمر فإنه لم يختلف عمَّا كانت أبدًا، بل هذا الموجود أدقُ ممَّا مضى.
فيما مضى كان الحوض صغيرًا يمكن أن ترمي الحجر فتتدحرج وتخرج، وللفقهاء ألا تدخل في حكم رمي الجمار، لكن الذي صار الآن أن هذا ليس توسيع لحوض الجمرة، وإنما هو تلقي للجمرات كي تسقط في الحوض، فهم جعلوه كهيئة المزلقان ووسعوا ما حوله بحيث من ألقى في هذا تدحرجت فوقعت في الحوض نفسه قطعا، ولا تثبت في هذا المزلقان ولا تخرج من الحوض.
إذن فالصورة الآن أن هذه الأحواض الجديدة في صورتها هي تسهيلٌ للناس ومنع من الازدحام وتيقن بإنها إذا وصلت لهذا الموضع الذي تتزالق فيه أنها تقع في الحوض قطعًا، فهي تمر هكذا ثم تستقر في حوضٍ صغير في أسفل وهو الحوض الذي كان في عهد النبوة ولا إشكال.
وبعد أن تستقر فيه الأحجار تسحب لئلا تجتمع فيه فتفيض عن موضعها، وكلما اجتمع شيء فيه سحب حتى يمكن لمن أتى لاحقًا أن يرمي الجمرة بعد ذلك فتقع في موضعها.
وبناء على ذلك فهذا الذي ترونه لا يعد توسيعًا للقدر الشرعي؛ لأن القدر الشرعي محدد ومبين، ولا يجوز الافتيات فيه على ما جاء به الشرع، وإنما هي صورة من صور التسهيل مع الإبقاء على الموضع الأصلي بحيث تتدحرج فتقع فيه، وقد نصَّ الفقهاء على أنه إذا رماها فتدحرجت حتى وقعت صحَّ ذلك، وبناء عليه تكون هذه الأحواض في صورته الحديثة على العهد الأول وعلى السنن الأولى وعلى الرسم الذي كان في عهد النبوة، فلا اختلاف فيه ولا إشكال في صحة الرمي، وما وضع هو تسهيل للناس ومنعٌ للازدحام وحفظ للنفوس، وهو من آثار هذه الحكومة الرشيدة التي سعت لخدمة الحجيج، جعل الله ذلك في موازين حسناتها وأعانها لكل ما يكون فيه أدا لهذه الشعيرة وقيام لها ، وتيسيرٌ للحجيج وحفظ لهم، ومنع ما يضرهم في أداء مناسكهم، والله يتولانا بالخير والهدى ويعيننا بالبر والرشد، ويسدد من قام على أمر الحجيج لما يكون فيه اقتفاء السنة وتيسير الأمور، والتسهيل على الحجيج، وموافقة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه هي المسائل التي أمكن بحثها واتسعت لها هذه اللبنات -لا نقول الصغيرة لكنها القصيرة- وهي بإذن الله عظيمة في محتواها، كبيرة في أثرها، ونسأل الله أنت يتيح أوقاتًا لاحقة في مناسبات متجددة عبر هذه الأكاديمية المباركة لزيادة في البحث، ولتنويع مسارات أخرى في التواصل معكم في العلم والتعليم والبحث والنظر في أقوال أهل العلم، ومدارسة مسائلهم والوقوف عليها على وجهها، وبحثها على أصلها، والله يتولانا وإياكم برحمته، ويجعلنا وإياكم من عباده المخلصين الموفقين، وأن يحجبنا عن الخطأ والخلل، وأن يحفظنا من السوء والزلل، وأن يجعلنا وإياكم من الموفقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك