الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

5036 6
الدرس الثالث

مسائل فقهية معاصرة

بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
أما بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل العلم ردءًا ودرءًا وحصنًا حصينًا ومانعًا لنا من البلاء والفتن، وأجرًا وثوابًا في الدنيا والآخرة، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا، وجميع المسلمين.
أيُّها الإخوة؛ في هذه اللبنات، وهذه اللقاءات، وفي هذه المدارسات؛ هذه مجالس كما ابتدأ الحديث فيها إنما هو حديثُ المدارسة والمعاربة والمناقشة للعلم ولمسائله، ولإحياء أصوله، واستنباط ما يُمكن أن يتفرَّع عليه، فليست مجالسَ للتقرير ولا للإفتاء، فلسنا بأهل لمثل هذه المنزلة، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يبلغنا في العلم منارات، يُستضاء بنا، ونستعين به على طاعة ربنا.
كنَّا في مسائل سابقة عرضنا لها عرضًا يسيرًا، وتيسيرًا لما يُمكن أن يستفيد منه طالب العلم فيما يدرسه من أصول المسائل بالنسبة لِمَا يعرض له في الواقع.
وذكرنا أنَّ جملةً من المسائل التي نعرض لها هي مسائل معاصرة، قد يكون لها أصلٌ خفيٌّ فيما ذكره الفقهاء السابقون، وقد يكون أصله ظاهرٌ عندهم لكنه عُبِّر عنه بغير تعبيره، أو تغيَّرت صورته، وقد يكون ذا وذاك، وقد يكون الأمر الآخر وهو أن تكون هذه المسائل ليست على مثالٍ سابقٍ مما عرضه الفقهاء فتندرج بعد ذلك إمَّا في ضوابط المسائل وأصول الاستنباط وعمومات الأدلة، وما يُمكن أن يستدل به من الاستحسان والقياس وسوى ذلك.
وكنا قد عرضنا لمسألة متابعة المؤذن عبرَ البث، وذكرنا لكم -أيُّها الإخوة- أن هذه المسألة مسألةٌ مبنيَّةٌ على: هل حكاية الصوتِ صوتٌ أو لا؟
فإذا تقرَّرَ معنا أنَّ بثَّ الصوت -كما هو الغالب- إنَّما هو لصوت مسجَّل، فهو حكايةُ صوت، وحكاية الصوت ليست بصوتٍ، فبناء على ذلك لا تدخل في قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ، فَقُولوا مِثْلَ ما يقولُ المُؤَذِّنُ» ، فتخرج من كونه أذانَ مؤذِّنٍ إلى كونه حكاية صوت، وهذا الصوت ذكرٌ لله -جَلَّ وَعَلَا-، فيُذكَّر به العبدُ الأذان ودخول وقت لصلاة، ومحاكاة الأذان الحقيقي.
ولذلك ينبغي أن يُقال هنا: يحسن في الميادين العامَّة وما سواها ألا يُلجأ إلى بثِّ حكاية صوتٍ إلَّا إذا تعذَّر صوتٌ حقيقي، وذلك إقامةً للسُّنَّة، وتحصيلًا لمصلحة الأذان، وحتى يُتاح للناس التَّكرار مع المؤذن والإفادة من ذلك.
ومع أن هذه المسألة قد تكون من المسائل التي فيها نوعُ وضوحٍ في بعض ما نعرضُ له من مسائل أخر مشابهة أكثر صعوبة ووعورة، وقد يكون التعقيد فيها ظاهرًا.
ومما حفظته من الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ- أنه قال: "يُردَّد مع المؤذِّن في حكاية الصوت، أو بث الأذان المسجَّل وسواه"، خلافًا للشيخ ابن عثيمين.
لماذا أذكر هذا الخلاف؟
لأبيِّن لك -أيُّها الطالب- أن المسائل مهما كانت تبدو ظاهرة أو فيها نوع جلاء، إلا أنها لا تنفكُّ من مآخذ، وأهلُ العلم يبذلون جهدهم، ويسألون التوفيق من ربهم -جَلَّ وَعَلَا- فيختلفون في ذلك، وربما تبين في ذلك آراؤهم، ولِمَّا تتجاذب أصول المسألة يتباين فيها قول أهل العلم.
وكما قلنا: إن هذه المسألة مع وضوحها اختلف فيها قولُ أناسٍ عرفوا بالعلم، ورفعوا مناره، وأخذ الناس عنهم ردحًا طويلًا من الزَّمن؛ فلأجل ذلك ينبغي أن تعظِّم المسائل، وألا تستهين بالقول فيها، وتستعجل بطرح الرأي، لا أن تستهجن القول المقابل ما دام أنَّ له أصلًا يُمكن أن يعتمدَ عليه.
مما يتفرَّع عن ذلك في مسائل الصَّلاة: إذا بُثَّت الصَّلاة إلى خارج المسجد؛ فهل يسوغ أن يُتابع معها شخص فيُصلي بصلاة أهل المسجد أم لا؟
هذه المسألة ربَّما تكون واقعة، وخاصَّة في المسجد الحرام ومسجد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وربما يلجأ إلى ذك بعض أهل جوار المساجد في أنهم يقتدون بالإمام، ويصلون في بيوتهم بصلاته، فإذا ركع ركعوا، وإذا سلَّم سلموا.
وهذه المسألة ينبغي أن يُعلَم أن لها مأخذٌ آخر، وهو أن صلاة الجماعة مع الإمام تعتمد على أمرين:
الأمر الأول: إمكان الاقتداء.
الأمر الثاني: مكان الصَّلاة.
ولذلك سُمِّيَت صلاة الجماعة، وذلك أن الناس يجتمعون في مكانٍ واحدٍ، فبناءً على ذلك؛ هل يسوغ أن يصلُّوا إذا كانوا خارج المسجد؟
ويُفهم من هذا أولًا أنه إذا كان أهل الصَّلاة في مسجدٍ واحدٍ مهما كبُرَ ومهما تباعدوا في ذلك المسجد؛ فالصَّلاة في ذلك صحيحة، لأن المسجد واحد، والجماعة بذلك تكون واحدة، ولا فرق أن يكون هؤلاء في مقدَّمة المسجد وهؤلاء في آخره، وهؤلاء في أدناه وهؤلاء في سطحه أو أعلاه؛ فتكون الصَّلاة صحيحة بالشروط المعتبرة في الصَّلاة بأن لا يكون الذي في آخر المسجد فذًّا أو نحو ذلك، فهذه مسألة أخرى، لكن ما داموا في مسجدٍ واحدٍ فصلاتهم صحيحة.
أما إذا كانوا خارج المسجد، فهنا اختلَّ ما يتعلَّق بمكان الجماعة، فإذا كان ذلك على وجه الحاجة كأن يكون المسجد ممتلئًا فتصح الصَّلاة بشرطها، وهي أن يكونوا خارج المسجد لا يفصل بينهم وبين المسجد شيء، وأن يُمكنهم الاقتداء، فإذا أمكنهم الاقتداء بأن رأوا الإمام أو رأوا مَن يصلي مع الإمام، فإذا ركعوا أمكنهم بركوع الجامعة التي مع الإمام وسمعوا الصوت؛ فبناءً على ذلك تكون الصَّلاة صحيحة.
ومن هذا أيضًا ما يحصل الآن في بعض الفنادق المحيطة بالمسجد الحرام من الصَّلاة فيها، فنقول: إذا كان المسجد ممتلئًا، ولم يحُل فاصلٌ بينهم وبين الإمام؛ فتجوز الصَّلاة.
هل وجود الفاصل مانعٌ من صحة الاقتداء أو عدمه؟
جمعٌ من الفقهاء يشترطون ذلك، ولأجل ذلك إذا وُجد ممر للسيارات أو نهر أو غيره -كما نصَّ على ذلك الفقهاء- فقد يُقال بالمنع من الصَّلاة في تلك الحال، وربَّما وسَّع بعض الفقهاء وقال: إذا كان فيه ممر ونحوه، فما دام أنهم يرون بقيَّة الجماعة فيُمكنهم الاقتداء، ولا يكون ذلك مانعًا من صحَّة الصَّلاة، وعلى هذا توسَّعت الفتيا بجواز وجود المصليات في المكان المحيط بالمسجد الحرام.
ولابد من العلم بمسألتين:
أولهما: أنَّنا إذا قلنا بصحة الاقتداء في تلك الحال؛ فلا يعني ذلك أنَّ الذي يُوجَد في هذا المكان كالذي يُوجد في المسجد الحرام.
بمعنى: أنَّ هذا إنما لحق فضل الصَّلاة من جهة إمكان صحة الجماعة، ودخوله في فضلها، أما ما يكون من دخول المسجد والبقاء فيه، وانتظار الصَّلاة في المسجد ونحوها؛ فهذا فرق شاسعٌ بينَ َن يُوجد في المسجد ومَن يوجد خارجه، ومَن تكلَّفَ ممشى وتقدَّم وبكَّرَ ودخل المسجد، ومَن تأخَّر حتى كان حظه من ذلك إدراك الصَّلاة ومتابعة الإمام.
وهنا يبغي أن يُعلَم أنَّه إذا قيل بالصَّحَّة في مثل هذه الحال لمن يكون خارج المسجد أو في بعض المصليِّات التي توجد بإزاء المسجد الحرام لا يعني ذلك أنها على حدٍّ سواء، فبعضها بعيد، فلو امتدَّت الجماعة حتى وصلتها أمكن القول بصحة الصَّلاة في تلك الحال، ولو لم يزدحم الناس وكان النفر قليلًا والعدد يسيرًا حتى كان مَن يُوجَد في بعض الأماكن بعيدًا بالمرة؛ فهذا لا شكَّ أنه خرج عن كونه في مكان الجماعة، فبناءً على ذلك لا يُمكنه الائتمام ولا الاقتداء بالإمام، وكان في صحَّة صلاته مع إمامه نظرٌ.
فإذا كان الأمر كذلك؛ فمن يصلي مع الإمام عبر وسائل البث -مثل التلفاز ونحوها- إذا كان بعيدًا أو في مكانٍ آخر؛ فهذا لا إشكال في أنه لا يصح منه الاقتداء، ولا تصح له صلاة جماعة في تلك الحال، لاختلال شرطٍ من شروط الصَّلاة، وهو كونه في مكان الجماعة، فهذا وإن أمكنه الاقتداء من كونه يسمع أو يرى الناس عبر الشاشة ونحوها؛ لكنه ليس في مكان الصَّلاة التي يجوز له الاقتداء فيها.
هذا ما يتعلق بمسألة بث الأذان متابعته.
ننتقل إلى مسألة أخرى، وهي أيضًا من مسائل الأذان، ونرجو أن نأتي على مجموعة من المسائل المتفرقة في أبواب متنوعة لتنويع ولعرض أبواب الفقه على حدٍّ قريبٍ من السواء، وأيضًا معالجة المسائل التي تكثر الحاجة إليها، ويكثر وقوعها.
المؤذن إذا أذَّن عبر مكبرات الصوت فهل إذا وصل إلى الحيعلتين يلتفت يمينًا وشمالًا أو لا؟
أولًا: من المعلوم المتقرِّر أنَّ التفات المؤذن في الحيعلتين سنَّة ثابتةٌ في الأحاديث الصَّحيحة، وقال بها أهل العلم، ويؤجر بها المؤذن إذا التفتَ، فهي من السنن المستحبة للأذان؛ لكن لمَّا وُجد مكبرات الصَّوت التي توصل الصَّوت إلى مكانٍ لا يكاد يوصله الإنسان بصوته المعتاد، فهنا يحصل فيه شيءٌ من التجاذب، وذلك أنَّ المؤذن إذا أذَّن عبرَ هذه اللواقط -أو المكبرات- فإن المقصود هو إيصال الصوت إلى الناس حتى يجتمعوا إلى المسجد ويأتوا الصَّلاة، فإذا التفت يمينًا وشمالًا فإذنه في مثل هذه الحال سيُبعدُ صوته ويضعف صولوه، فالمقصود الذي لأجله شُرِعَ الالتفات حصل نقيضه مع وجود هذه المكبرات؛ فهل نقول إنه يبقى على أصل السُّنيَّة فيلتفت حتى ولو فات الصوت أو ضعف؟ أو نقول إن المقصود هو إيصال الصوت، والإيصال يكون بعدم الالتفات في مثل هذه الحالة أولى فبناءً على ذلك لا يتلفت تحصيلًا للمصلحة المقصودة وهو إيصال الصوت وبلوغه البعدَ كما القريب؟
هذه راجعة إلى مسألة: هل الحيعلة سنة على الإطلاق، أم أن المقصود منها إيصال الأذان والجهات المختلفة؟
فمن الفقهاء مَن قال: إنها متعلقة بالأذان، فهي سنَّة فيه، لا تتعلق لا بإيصال صوتٍ ولا بسواه.
فإذا قيل بذلك فنحن نقول: إنَّه يلتفت على كل حال، ولا يُنظَر إلى كون الصوت يضعف في حال كون اللاقطة أمامه أم لا.
أما إذا قيل: إنَّ المقصود هو إيصال الأذان، وهذه علَّة مستنبطةٌ عندَ الفقهاء، وليست منصوصة، ولأجل ذلك حصل الخلاف، فبناءً على ذلك أيُّهما يُقدَّم؟
من أهل العلم مَن غلَّبَ جانب إيصال الصوت، وعلى هذا أفتت اللجنة الدَّائمة بدار الإفتاء التابعة لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بعدم الالتفات تحصيلًا للمقصود.
وقد يُقال: إنَّ العلة هذه مستنبطةٌ، وأنَّ وصول الصوت يتأتَّى حتى مع الالتفات، لأنَّه قد يلتفتُ مع ثبات جهته إلى جهة اللاقطة، أو وجود لاقطةٍ عن يمينه وشماله، فبناء على ذلك تتحصَّل المصلحتين من صولو الصوت ومن الالتفات الذي هو سنَّة ثابتة بالحديث عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كما أنَّ في الالتفات أيضًا تنبيهٌ إلى الأصم الذي يسمع، فإذا رأى شخصًا واقفًا لا يدري ما يفعل، لكنه إذا رآه يلتفت يمينًا، ثم يلتفت شمالًا؛ فيعلم أنه يؤذِّن، فتحصل بذلك مصلحةٌ أخرى.
ثم إنَّه جاء في السنَّة ما يسند ذلك، فعلى سبيل المثال: الرَّمل، كان القصدُ منه إظهار الجلد عند أهل الإسلام لما نزلوا المدينة وكانت محمومة، وظنَ المشركون أنَّ بهم ضعفٌ وأنَّ أثر الحمى قد لحقهم، وكذلك حصول الاضطباع؛ ثم انتهت هذه العلة، وبقي الحكم على ما هو عليه، وبقيت سنَّةً ثابتةً إلى يوم القيامة.
ففي مثل الحالة نقول: لا يبعد أن يبقى الأمر على ما كان من التفات المؤذن في مثل هذه الحال.
فإذا انضمَّ إلى ذلك أن وُجدت لواقط على ذات اليمين أو ذات اليسار، أو أمكنه أن يلتفت مع تحريكٍ يسير حتى يبقى قريبًا من اللاقط؛ فهنا ولا شك يحصل المقصود الأعظم من تحصيل السنة الأصيلة التي هي الالتفات في الحيعلة، ويحصل المقصود الذي يُراد وهو إيصال الصوت، فبناءً على ذلك لا يحصل تضادٌّ ولا تواجه ولا تجاذب في مثل هذه المسألة، فيكون الأمر في ذلك جليًّا وظاهرًا.
هذه مسألة تتعلق بالالتفات في حال الأذان، وهي مسألة لطيفة، ومع ذلك حصل فيها شيءٌ من هذا الاختلاف أو التجاذب.
المسألة التي نحبُّ بحثها تتعلق بمواقيت الصَّلاة، وهذا متعلِّقٌ بما ألِفَه الناس اليوم في العمل بالتَّقويم التي تثبِّت دخول الصَّلاة في كل يومٍ بحسبه، وكل صلاة بوقتها، فتجد في هذه البطاقة أن صلاة الفجر في هذه المدينة تكون في الساعة الفلانية، وطلوع الشَّمس يكون في الساعة الفلانية، ودخول وقت الظهر أو العصر...، إلى ما تعرفونه وتحفظونه، والآن تكاثرت، وازدهرت لحاجة الناس إلى ذلك، حتى نُزِّت عبر تطبيقات مختلفة في الجوالات وسواها.
وتعرفون أن الصَّلاة مربوطة بوقتها، فإن الله -جَلَّ وَعَلَا- قال في كتابه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتً﴾ [النساء: 103]، يعني مؤقَّتًا محددًا بزمانٍ لا لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، وقال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17]، إلى آخر الآية، وفيها إشارة إلى أوقات الصَّلاة كما ذكر ذلك جمعٌ من أهل التفسير، ولا يختلف في ذلك أهل العلم.
ونزل جبريل إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصلى به في أول وقت الصَّلاة وفي آخره، ثم قال: «الوَقْتُ بيْنَ هَذَيْنِ» كما في الحديث عند أهل السنن، والأحاديث في ذلك متكاثرة، وهو أن لكلِّ صلاة وقتًا لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، وأجمع أهل العلم أن شرط وقت الصَّلاة من أهم الشروط وأعظمها، فلأجل ذلك كانت اهتمام أهل العلم بأوقات الصَّلاة كبير، وبحثهم له طويل.
وآلة تقويم الوقت ودخوله الأمر فيها واسعٌ؛ فلأجل ذلك كان عند العلماء المتقدِّمين من آليات دخول الأوقات وحسابها ما له، وكان الناس في بساطة حياتهم وحاجتهم إلى متابعة تنوع أوقات أيامهم ولياليهم يعرفون زوال الشَّمس، ويعرفون طول الظل ونقصانه، لأنهم في بداية حياتهم وبساطتها لم تدخل عليهم الآلة ولم يختلف عليهم كثيرٌ مما اختلف في مثل هذا الزمان.
ثم تطوَّرت بعض الآلات، فوُجدت آلات حديثة، وكانت أسهل لهم في تعاطي الأوقات، ثم مع وجود هذه الإنارات ووجود الأبنية، واستغناء الناس عن مراقبة الشَّمس، وأوقات الليل ونحوها بما يحدث فيها من تغيُّرات؛ أصبح إدراك كثير من الناس لدخول الوقت عبرَ المحدِّدات التي جاءت بها السُّنَن ودلَّت عليها الأحاديث من وقت الزَّوال وغياب الشَّفق الأحمر ونحوه؛ لا يكاد يُميِّزها عموم الناس؟، فكانت الحاجة إلى مثل هذه التقاويم في هذه الأوقات آكد وألزم، وحتى مَن كان يعرف الأوقات ويُحسنها فإنه لا يتأتى له مراقبة الأوقات لوجود الحياة المدنية والإنارة التي تعكس الأضواء، فلا تتمايز أوقات الشفق، ولا أوقات طول الفجر وسواها كذلك؛ فزاد الأمر تعقيدًا!
فبناءً على ذلك: هل نقول بأن اعتبار هذه التقاويم صحيحٌ وأنَّ فعل الصَّلاة بناء على ذلك لا إشكال فيها؟ أم أن في الأمر تفصيل؟
قبل أن نتكلم في هذا الأمر؛ يجب أن ننبه على مسألة مهمَّة، وهي أنَّ هذه التقاويم مختلفة ومتباينة في ضبطها ودقَّتها، وصحَّة القول باعتماد التَّقويم في دخول الصَّلاة لا يعني ذلك صحَّة جميع هذه التَّقاويم، حتى نعرف دقَّة إتيانهم على الوقت وضبطهم له من سواه.
أيضًا إذا تحدَّثنا على أصل اعتبار التقويم، فنقول: إنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدَّد الصلوات وبيَّن أوقاتها -كما ذكرنا- فوقت العصر: ما لم تغرب الشَّمس، وجاء في حديث «ووَقْتُ العَصْرِ ما لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمس» ، وكلام أهل العلم في وقت الاختيار ووقت الضرورة، وما جاء في ابتداء الوقت من مصير ظل كل شيء مثله إلى الغروب.
وهذا مبناه على دوران الشَّمس وحركتها، وهذا قد يكون مضبوطًا من جهة أنه لا تقدم فيه ولا تأخُّر، ولا تباين فيه، فلأجل ذلك كان ضبطه أكثر سهولةً، والاعتماد على التَّقاويم يُمكن أن يكون دقيقًا، فبناءً على ذلك ما كان هذا سبيله فالأمر فيه أسهل، وهذا حاصل فيما يتعلق بطلوع الشَّمس، وانتهاء وقت النهي بعد ارتفاعها قيد رمح، وأيضًا ما يتعلق بصلاة الظهر دخولًا وخروجًا، وما يتعلَّق بدخول وقت صلاة العصر، وخروج وقت صلاة العصر الذي هو دخول وقت صلاة المغرب.
أما وقت صلاة الفجر من جهة خروجه فإنه يتعلَّق بطلوع الشَّمس، وهذا جلي لا إشكال فيه، ووقت دخول صلاة الفجر متعلق بتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ووقت دخول صلاة العشاء متعلق بغياب الشفق الأحمر؛ وهذه راجعة إلى أمرين:
الأول: حساب وقت.
الثاني: انعكاسات الضوء.
فحساب الوقت لا إشكال فيه، فهو إلى حدٍّ ما جلي، لكن ينضم إلى ذلك انعكاسات الضوء التي هي صفاء الجو من عدمه، أو حصول الأغبرة، أو وجود سحاب، فإذا وُجد شيءٌ من ذلك انكسرت بعض هذه الأضواء، فكان غياب الشفق فيه حركة يسيرة، أو تقدُّم أو تأخُّر، ومثل ذلك في دخول وقت الفجر.
وبناء على هذا يكون تقييم الوقت عبر هذه التقاويم هو تقريبي وليس قطعيًّا.
ويتلخَّص مما ذكرنا: أنَّ هذه التقاويم ظنَّيَّة، ولكن منها ما كانت درجة الدِّقة فيه عالية، كالتقويم الذي عندنا في المملكة العربية السعودية المسمَّى بتقويم "أم القرى"، وتعرفون أنَّ الجهات المنوط بها متابعة هذا التقويم وإخراجه وتصحيحه ومعالجة ما يكون فيه من نقص أو ما يحتاج إليه من مراجعة لدى جهة مختصة، وتشارك فيها جهات ذات اختصاص شرعي، وذات اختصاص فلكي، فيزيد التمحيص فيه، فبناء على هذا فهذا التقويم دقيقٌ للغاية.
وبناء على ذلك نقول: ما دام أن أصل الحسابات لدخول الأوقات ونحوها في سَعةٌ، وذكر الفقهاء على مر التأريخ أنواعًا من طرائق حساب الأوقات ونحوها؛ فيدل ذلك على أنه كيفما توصَّل الناس إلى آلة لدخول وقت صلاة وكانت مضبوطة؛ فالعمل بها صحيح.
وما دام أن فيها شيءٌ من الاجتهاد فمردُّها إلى الأمور الظَّنِّيَّة؛ وبناء على ذلك قد يُحتاج فيها إلى التَّيقُّن، وبناء على ذلك إذا كان وقت الفجر فنحن نقول: الوقت كما هو مبيَّنٌ، ولكن يحتاط الإنسان لنفسه الدقيقتين والثلاثة باعتبار أنَّه قد يحصل في ذلك تفاوت بنحو ما ذكرنا من انعكاسات الضوء، وضعف بعض الأضواء التي تمنع رؤية الخيط الأبيض أو عدمه كما نصَّ على ذلك بعض أهل العلم، وعلى رأسهم ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيكون الأمر في مثل هذا صحيح، والحاجة إليه ملحَّةٌ، واختبار هذه الآلة اختبارًا دقيقًا وثبتت مصداقيتها لدى أهل النَّظر الشَّرعي والاختصاص.
ولا ينفك هذا الأمر من معارض، وهذا من لدن قديم الزَّمان ويتجدَّد، وثَمَّ أُناسٌ لهم آراء، وهذه الآراء أحيانًا مبعثها إلى تقييم الوقت وطريقة حسابه، أو بعض النَّظر الآخر الذي هو تردد، أو عدم معرفة بحقيقة صور الأوقات ونحوها، فتثار مثل بعض الإشكالات والشُّبه، وما دام أنَّ أهل العلم استقرُّوا على ذلك ونظروه واعتبروه؛ فما اعتبروه ظاهرٌ، وما وصلوا إليه موثوق، ولا ينبغي التَّشكيك في نحو ذلك، وزيادة التَّشقيق لمثل هذه المسألة بما يُذهب طمأنينة الناس إلى عبادتهم وصحَّتها، وأذكر أنَّ شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ- سُئلَ مرَّةً عن شيءٍ من هذا، وكانت المسألة في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم؛ فما كان منه إلا أن قال: إنَّنا بعثنا لجنة، وكان في اللجنة الشيخ صالح الفوزان، وهو من أهل العلم المعتبرين، وذكر أنهم وصلوا إلى دقَّةِ ما يُوجد في مثل هذه التَّقاويم، وأنَّه لا يوجد فيها تقدُّمٌ ولا تأخُّر؛ خاصَّة فيما يتعلق بصلاة الفجر التي هي مثار الاختلاف أو الإشكال أكثر من غيرها.
ويتلخَّصُ مما تقدَّم: أنَّ هذه التقاويم أصل الاعتبار فيها أنها آلة لدخول الوقت الذي جاء به الشرع، وهذه الآلة اجتهادية، اجتهد أهل العلم على اختلاف أوقاتهم وأزمنتهم ومذاهبهم في اختراع واكتشاف آلاتٍ لتقريب الوقت، وتسهيل العلم بدخول وقت الصَّلاة؛ فكل ما كان كذلك وقد جُرِّب على أنه موثوق جازَ العمل، كان من أدقِّها ما آلَ إليه الناس في هذا الزمان من هذه التقاويم التي عبر حسابات فيها شيءٌ من الدِّقَّة بواسطة هذه الساعات التي تحسبُ أجزاء الدقيقة والثانية ونحوها؛ فكان العمل بها صحيحًا، مع ملاحظة أنها من أدق ما ذكره الفقهاء في طريقة حساب الأوقات ودخول الصَّلاة، مع اعتبار التَّحقُّق فيما قد يكون فيها تفاوت يسير كالدقيقة والدقيقتين والثلاث، حتى يتيقَّن الإنسان أنَّ صلاته وصقعت في وقتها بيقينٍ، ولا ينبغي بعد ذلك التَّشغيب بأنَّ هذه ليست صحيحة، أو أنَّ الأوقات متفاوتة، وهذا ليس محل بحثها، فقد أجاب عنها أهل العلم في حال النقاش فيها والمذاكرة، فلا نحتاج إلى بحثها أو زيادة الحديث فيها.
هذا ما يتعلق بالتقاويم التي تعتبر للصلاة.
بعد هذا تأتي مسألة ربما لا نحتاج إليها في كثير من بلداننا، لكن لا ينفك بعض المسلمين من الحاجة إليها، وهي: بعض الأماكن أو البلدان التي في أطراف الأرض حين يستمر عليهم الليل دامسًا لأيام طويلةٍ، أو لأشهر، أو يُقارب ثلاثة أشهر أو أربعة؛ وإذا جاء فصل الصيف حصل العكس، فاستمرَّ عليهم النهار وقتًا طويلًا حتى لا يروا الليل بالمرَّة؛ فبناء على ذلك كيف يصلي أهل هذه البلدان؟
هذه المسألة في أماكن صغيرة جدًّا باعتبار أن الشَّمس تمرُّ منهم في كل اتجاه فلا تغيب عنه ولو قليلًا، فيُقال: إذا حصل الأمر على هذا النحو الذي وُصِفَ فإنَّه لابدَّ من اعتبار التقدير لكل يومٍ بحسبه، وهذا يكاد يكون إجماعًا من أهل العلم -أو قول عامَّة أهل العلم- وله أصل صحيح جاءت به السُّنن وجاء به الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه لما ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث النَّواس بن سمعان أمرَ الدَّجال، وذكر مكثه في الأرض؛ فقال: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ»، فقالوا: يا رَسُولَ اللهِ، فَذلكَ اليَوْمُ الذي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فيه صَلَاةُ يَومٍ قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، اقْدُرُوا له قَدْرَهُ» ، فأخذ أهل العلم من هذا الحديث أنَّ مَن يستمرُّ بهم اليوم أوقاتًا طويلة فإنهم يقدرون لليوم والليلة قدرها، فيصلون فيها خمسة أوقات، وهذا لا إشكال فيه ولا اختلاف.
فإذا قيل بذلك؛ فكيف يحسبون هذه الأوقات؟
قال أهل العلم: يعتبرون بأقرب الديار إليهم التي يحصل فيها تمايزٌ بين الأوقات ومعرفة بدخول كل وقت وخروجه، فإذا كان بينهم وبين البلد التي تليهم فيها أوقات ظاهرة وطلوع وغروب وللشمس، وليل ونهار؛ فينظرون باعتبار أن قياس الشيء إلى أقرب ما يكون إليه أولى من قياسه إلى ما سوى ذلك، وهذا أصل معروف وظاهر في العقل، وفي كثير من النَّظر الشَّرعي في مسائل متعدِّدَة.
وهنا ويُمكن أن تظهر مسألة بينَ هاتين المسألتين، وهو أنَّه قد يتمايز بعض الأوقات وبعضها لا يتمايز، فيكون وقت الظهر متمايز عن العصر، لكن وقت المغرب والعشاء لا يتمايزان باعتبار أنَّ الظُّلمة تستمر بنحوٍ خفيف؛ فنقول: إذا ثبت الأمر في الجملة ثبتَ الأمر في التفاصيل بحسبها، فما كان من الأوقات يُمكن تمييزه يُعمل به، وما كان من الأوقات لا يُمكن تمييزه فإنه يُقدَّر بقدره على ما تقدَّم قبل قليل.
إذًا؛ هذه مسألة فيها حاجة إلى بحثها، مع أنَّ مَن يحتاج إليها قليل، ولكنه يكثر السؤال عنه، خاصَّة مع وجود وسائل التَّواصل، ومحبَّة بعض الناس للبحث عن غرائب المسائل والوقوف على ما لا يعتادونه من اختلاف الأوقات والأيام، وتباين فصول السَّنة باعتبار البلدان والأقاليم والقارَّات.
نأتي إلى مسألة من مسائل الصَّلاة، وهي: الصَّلاة في الطائرة.
الصَّلاة في الطائرة هل هي من المسائل الحادثة أم لا؟
من المعروف أنَّ الطائرة هي مركوب وصلت إليه التِّقانة الحديثة وصناعة الآلة في هذا العصر الحديث، وهو نُقلَةٌ في تيسير أمور الناس وانتقالهم، وسهولة وصولهم ووصول بضائعهم، وتيسير عناء السفر ومشقَّة الذَّهاب والمجيء فيما يقطعه الإنسان بالسُّرعة، وفيما يحصل له من السهول والرفاهية، وهذا فضل الله -جَلَّ وَعَلَا-، ولذلك قال الله في آية سورة النحل: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 8]، قال بعض أهل التفسير المتأخرين: ومن ذلك ما حدث من الطائرة وغيرها.
ويقولون: وفي تعميم قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، لم يقل "ويخلق الطائرة" ونحو ذلك؛ منعًا لأن يُكذِّب الناس حصول هذا، يعني لو قال إنها ستكون طائرة، وأنَّها ستقطع آلاف الأميال في دقائق أو في وقت قصير، وسينتقل الناس من شرق الأرض إلى غربها، ولم تغرب الشَّمس في ذلك النهار؛ لاستبعد الناس ذلك واستنكروه؛ فجعله الله -جَلَّ وَعَلَا- على سبيل العموم، ثم تبيَّن الناس بما وصلت إلى هذه الآلات الحديث من التيسير والرحمة التي أنعم الله -جَلَّ وَعَلَا- بها علينا.
الصَّلاة في الطائرة أقرب ما يشابهها ويقاربها الصَّلاة في السفينة، وهذه طريقة أهل العلم في النَّظر في المسائل، وهو جرُّ المسألة إلى شبيهها ومثيلها- ولذلك يبحثون مسائل الأشباه والنَّظائر، وينظرون فيما يتَّفقون فيه وما يختلفون فيه، وهذا نوعٌ من العلم لطيفٌ ودقيقٌ، ويزيدُ من مَلَكَةِ المتفقِّه، ويحسن بذلك نظره وتقوى بذلك ملكته، ويُحسن النَّظر في الفقه والعلم، ويكون أعون ما يكون له على الفُتيا والنَّظر في أحوال الناس، وردِّها إلى ما يُقاربها ويشابهها، وهذا له أصل في القياس وما تعرفونه في أصول الفقه.
إذًا؛ الصَّلاة في الطائرة أقرب ما يشابهها ويقاربها الصَّلاة في السفينة، لأنَّ الحالين هما حالان تكون فيهما الصَّلاة على ظهر لا يستقر، إما بالحركة والارتجاج وإما بالتَّحول عن القبلة والالتفات.
وبناء على ذلك: إذا أردنا أن ننقل هذه الصورة فنحن ننقلها إلى الصَّلاة في السفينة.
وكلام أهل العلم في الصَّلاة في السَّفينة جاء على نحوين:
- إذا أمكن أداء الصَّلاة على وجهها بكامل أركانه وشروطها جازت، ولذلك لما ذكرت الصَّلاة في السَّفينة عند أنس بن مالك، قال: "كنَّا مع فلان وفلان من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصلينا قيامًا مستقبلين القبلة، ولو شئنا لرفأنا"، يعني: لذهبنا إلى المرفأ، ومع ذلك لم يحتاجوا إلى هذا، لأنهم أدوا صلاتهم على أحسن حالٍ وأكمله، وهذا هو المقصود، وهو أنَّ الصَّلاة تؤدَّى بشروطها وأركانها، فكيفما أُدِّيَت صحَّت، سواء على سفينة أو على طائرة أو على أرض؛ ما دامت أنها تؤدَّى مكتملة شروطها وأركانها فتصحُّ بذلك الصَّلاة.
وقال النووي -رَحِمَهُ اللهُ: "لا يختلف أصحابنا أنها إذا صُلِّيت بتامِّ أركانها وشروطها صحَّت ولا إشكال في ذلك".
وهذا كما أنه يتأتَّى في السفينة فتأتِّيه في الطائرة كذلك.
وكانت السُّفن فيما مضى صغيرة وكثيرة الارتجاج والحركة، ويُخاف معها من الغرق، إذا قام الإنسان وتحرك يُمكن أن ترتجَّ ويسقط، ولذلك سئل ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن الصَّلاة في السفينة فقال: "يصلون قيامًا إلا أن يخافوا الغرق".
ومع تطور الآلة في الأوقات الحديث اختلف الأمر سواء في السفينة أو في الطائرة؛ والميزة في السفينة الآن أنها صارت أوسع، وصار صلاة الجماعة وتسوية الصفوف أكثر، أما من جهة الطائرة فهي أتم في جانب واحد أنَّ التفافها ليس سريعًا، بينما يُمكن للسفن أن تلتف بحسب بما تحتاج إليه وما يعترضها من جزيرة أو سفينة مقابلة أو سوى ذلك، فاستقرار الطائرة في استقبال القبلة أكثر.
وبناءً على هذا يُمكن أن يُقال في الصَّلاة في الطائرة -وبالله التوفيق: إنَّ الصَّلاة في الطائرة إذا أمكن على وجهٍ تامٍّ بالأركان والشروط والواجبات تُصلَّى، وتكون كما لو صلَّى في بيته، أو في مسجده أو سوى ذلك، ولا إشكال في ذلك، ومحل الكلام هنا هو صلاة الفريضة، أما صلاة النافلة فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في حديث ابن عمر أنه يُصلِّي على راحلته حيثما توجَّهت به، وذكر بعض الفقهاء كابن قدامة وغيره أنَّه حتى لا يشترط لذلك السفر الطويل، فتصلى النافلة حتى في السفر القصير حيثما توجَّهت به راحلته، وتسقط عنه كثير من الأركان من قيام ومن غيره باعتبار أنها نافلة، وباعتبار أنها سنَّة، وفي وجه عند الحنابلة صلاة النافلة على الراحلة حتى في غير السَّفر إذا ركب الدَّابة.
نقول إذًا: إذا أدَّى الفريضة في الطَّائرة كاملة وأمكنه ذلك فالحمد لله، أمَّا إذا لم يُمكنه فلا يخلو من حالين:
- إمَّا أن يُمكنه أن يصل إلى المدينة أو تقف الطَّائرة قبل خروج الوقت، فهنا يؤخِّر الصَّلاة حتى يتمكَّن من أدائها بأركانها وشروطها، وتحصيل مصلحة الأركان والشروط والواجبات أولى من المبادرة وتحصيل أول الوقت.
- أمَّا إذا كان يَصِل بعد الوقت، فله حالان:
الأول: إذا كانت هذه الصَّلاة مما تُجمَع مع التي تليها، كما لو كان في صلاة الظهر ويصل العصر؛ الظهر تُجمَع مع العصر، فيؤخرها حتى يجمعها مع التي تليها فيصليهما جميعًا، أو كانت صلاة المغرب فهي تُجمع إلى العشاء، فإذا كان يصل في وقت العشاء وهو مسافر له حق الجمع؛ فيؤخِّر الصَّلاة ويجمعها إلى التي تليها حتى يصليها تامَّة بأركانها وشروطها بعد وصوله.
الثاني: إذا لم يُمكن الصَّلاة تامَّة، وكان لا يصل إلَّا بعدَ خروج الوقت والصَّلاة لا تُجمَع إلى غيرها، أو كان لا يصِل إلا بعد خروج وقت الثانية التي تًجمع إليها، كالذي سافر المغرب ولا يصل إلا الفجر؛ فلابدَّ أن يصلي المغرب والعشاء في الطائرة، أو سافر الظهر ولا يصل غلا العشاء، فلابد أن يصلي الظهر العصر في الطائرة، فنقول في مثل هذه الحالة: يصلِّي حسبَ حاله، ويستجمع من الشروط والأركان والواجبات ما أمكنه، فإذا كان يُمكنه استقبال القبلة فيستقبلها وهذا غالب، لأنه يعرف أين اتِّجاه القبلة، والطائرة لا تتقلب كثيرًا، بل في الغالب إذا استقرَّت في السماء تكون إلى جهةٍ واحدةٍ حتى يقرب وقت وصولها.
أظن أن وقت البرنامج قد أزف، ولعله أن يكون من الشَّيِّق جدًّا انقطاع المسألة في نصفها، فيكون ذلك محفِّزًا للزملاء في النَّظر في تفاصيل ذلك وما يتعلق به، لا نقول إلا سمعًا وطاعة لوقت هذا البرنامج، حتى لا ندخل على غيرنا، ونقول لكم أيضًا: لِتتشوَّقوا إلى سماع هذه المسألة بكمالها في مستهل المجلس القادم، والله نسأل لنا ولكم التوفيق والسداد، والله يتولَّانا برحمته، ويُلهمنا الصواب، وأن يحفظنا من الزَّلل والبلاء والضَّلال، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. شكر الله لكم الاستماع والحضور، وشكر الله للقائمين على هذه اللبنات وهذه البرامج العلميَّة وهذه المجالس الشرعيَّة، والله نسأل أن يوفقنا جميعًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك