الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

4934 6
الدرس الرابع

مسائل فقهية معاصرة

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمدُ لله أفضل ما ينبغي أن يُحمَد، وصلَّى الله وسلَّم على أفضل المصطفين محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن تعبَّد.
نجتمع وإيَّاكم في هذا المجلس من مجالس اللَّبنات لنتواصى على العلم ونتدارسه، أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم من أهل العلم الراسخين، وأن يبعثنا معهم في درجات الجنة في عليين، وأن يجعلنا مع النَّبيِّين والصِّدِّيقين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذريَّاتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيُّها الإخوة طلَّاب العلم وطالباته، في مجلس من هذه المجالس المباركة التي نتعَارض وإيَّاكم ما يحضرنا من مسائل نردها إلى أصلها، ونتنبَّه إلى ما يؤثَّر فيها من الأحكام، وما يعترضها من العوارض في واقع النَّاس باعتبارِ ما جدَّ من الأحداثِ.
كنَّا في المجلس الماضي تحدَّثنا عن الصَّلاة في الطَّائرة، وذكرنا أصلَ ذلك من جهةِ ما يُشبهها في الصَّلاة في السَّفينة، وذكرنا ما يتعلَّق بذلك مما ذكره أهل العلم في الصَّلاة في السَّفينة، وما جاء عن الصَّحابة وغيرهم، وجاء أيضًا نحوًا منه عن عطاء في بعض الآثار، وكله على نحوٍ مما ذكرنا.
بقيت المسألة في كيفية الصَّلاة في الطَّائرة لمن احتاج إلى ذلك، فقلنا: إنَّ مَن عرضت له الصَّلاة في الطَّائرة لا يخلو من أحوال:
الحال الأولى: إمَّا أن يُمكنه أن يصل إلى المكان الذي يقصده قبل خروج وقت الصَّلاة؛ فيُؤخِّر الصَّلاة إلى ذلك ما دام أنه لا يُمكنه أن يؤدِّيها بأركانها وواجباتها وما يُكمِّلها.
الحال الثاني: أن تكون الصَّلاة مما تُجمَع إلى التي بعدها وهو ممَّن يصح له الجمع، فيُؤخر الصَّلاة إلى التي تُجمَع إليها، ثم إذا وصل صلَّى الصَّلاة وما جُمِعَ إليها بعد نزوله مكتملةً بأركانها وواجباتها، وما يكون به تحصيل الصَّلاة ومستحباتها.
الحال الثالثة: أن يحتاج إلى الصَّلاة في الطَّائرة لكون الوقت يخرج قبل وصوله أو ما يُجمَع إليها، ومع كونه لا يُمكنه أداء الصَّلاة على الوجه الأتم، كأن يمنعوه من أن يقوم في مقام يحتاجونه في خدمة، أو لئلا يمنع مرور الناس، وما قد يعرض هم من حوائج ونحوها، أو لحركة في الطَّائرة غير مستقرة يخافون على الناس أن يُضر بهم القيام والحركة ونحو ذلك؛ ففي هذه الحال نقول: الواجب عليه أن يؤدي الصَّلاة بحسب ما يقدر عليه ويستجمع ما أمكنه استجماعه من الأركان والواجبات.
وكما قلتُ لكم في مثل هذه الحال: إن كثيرًا من الناس لا يفقه ذلك، يظن أنه بمجرد أنه لا يمكنه الصَّلاة في مكان واسع أنه يصلي وهو جالس!
نقول: إنه يستجمع الصَّلاة بقدرِ ما يقدر عليه من الأركان والواجبات.
على سبيل المثال: إذا كان لم يُسمَح له بالصَّلاة في مكان واسع، فاحتاج أن يصلي في كرسيِّه، فإذا صلى في كرسيِّه فلا يمتنع عليه أن يتَّجه إلى القبلة، فإذا كانت القبلة عن يساره قامَ وهو في مكان كرسيه والتفت يسارًا بكليَّته حتى يكون مستقبل القبلة.
أيضًا القيام في كثيرٍ من الأحوال، إذا لم تكن الطَّائرة مرتجَّة وأُمرَ بربط الأحزمة ونحو ذلك؛ فإنه يُمكنه القيام، سواء كانت القبلة إلى وجهته التي يستقبلها، أو استدار بكليَّته، وصار ظهره إلى مقدمة الطَّائرة ووجهه إلى الوراء فصلى قائمًا، أيضًا الركوع ممكنه في مثل هذه الحال، ولكن الذي يتعذر عليه هو السجود، فإذا أمكنه أن يميل قليلًا ثم يسجد في الممرِّ ثم إذا قام رجع إلى المكان الذي هو فيه؛ فعلَ لكون حال السجود حال قليلة جدًّا، وقد لا يكون فيها منع للناس أو إضرارٌ بهم.
أما إذا كان لا يمكنه فنقول في مثل هذه الحال: يُومئ بالسجود في المكان الذي هو فيه.
إذًا؛ نلحظُ في مثل هذا أنه يصلي حسب حاله، ولكن كثير من الناس يظن أن حسب حاله أن يصلي وهو جالس فيقول: الله أكبر، ثم يُومئ بالركوع والسجود!
نقول: هذا خلل!
أولًا: فاتك الاستقبال وقد كان ممكنًا لك.
ثانيًا: فاتكَ القيامُ وهو ممكنٌ لك.
ثالثًا: فاتك الركوع: وهو ممكن لك في كثير من الأحوال.
والله -جَلَّ وَعَلَا- يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، فلا يسقط شيئًا من هذه الأركان إلا حيث لم يتمكَّن الإنسان.
وبناءً على ذلك نقول: ما دام أنه يُمكنك القيام في كرسيِّكَ تقوم، وإذا أمكنكَ الركوع ركعتَ، وإذا أمكنكَ السجودُ سجدتَّ، وإذا أمكنك الاستقبال استقبلتَ، ثم إذا تعذَّرَ عليكَ شيءٌ من ذلك صحَّت صلاتُكَ بما أمكنك، وأومأتَ فيما تعذَّر، لقول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.
وفي بعض الأحوال تكون المسألة مركبةٌ من الحالين، فيكون ممكنٌ له القيام وليس بممكن.
على سبيل المثال: إذا أُمرَ بربط الأحزمة لكون الطَّائرة في حال ارتجاج، فهو الآن سيصلي جالسًا، في أثناء الصَّلاة أذاع قائد الطَّائرة أنه أُذِنَ بفتح الأحزمة، فيفتح حزامه ويقوم، فإذا كانت القبلة وجهته توجَّه إليها، إذا كانت يسارًا استدارَ إليها، وصلى بحسب ذلك وركع.
إذًا؛ هذه الحال حالٌ مركبةٌ من الحالين، بعض الأركان أمكنه فعلها في بعض الصَّلاة، وبعضها لم يُمكنه، فبناء على ذلك يتكيَّف الإنسان بحسب ما قدر عليه في الصَّلاة كلها وفي بعضها لعموم قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.
وينبغي للإنسان أن يعلم أن الصَّلاة أعظم شعائر الدين، وأنه أعظم ما يكون من الأعمال، ولذلك إذا صلُحَت صلُحَ سائرُ عمله، فلا ينبغي له أن يتهاون بها فيؤخرها عن وقتها، ولا يجوز له أن يؤديها منقوصة من أركانها وهو قادرٌ على إتمامها، ولا يُخل بها شيئًا أمره الله به وأمره به رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يُمكنه أن يفعله، ويجب على المرء أن يجتهد في ذلك وسعه، حتى تبرأ ذمته، ويؤدي ما أمره الله به على أكمل وجهٍ وأتمِّهِ.
هذا ما يتعلق بصلاة الطَّائرة، وأنا أؤكِّد أنَّ الصَّلاة محدودةٌ بأوقاتها، ولا يجوز كما يفعل كثير من الناس أن يؤخِّروها حتى يصلوا إلى بيوتاتهم فيجمع صلاةً وصلاتين وثلاثًا وأربعًا، ولا يجوز لهم أن ينقصوها فيؤدوها بأسهل ما يكون وهم جالسين مع كونهم يُمكنهم القيام، ويُمكنهم أداؤها بكامل الأركان، أو أداء بعض أركانها، فيجب عليهم أن يجتهدوا ما استطاعوا، وان يبذلوا قدرتهم ما قدروا، والله -جَلَّ وَعَلَا- يتولَّاهم بالتوفيق والأجر والثواب، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
هذا ما يتعلق بالصَّلاة في الطَّائرة، ومحل الكلام -كما قلنا- هو صلاة الفريضة، أما صلاة النافلة فالأمر فيها في سَعةٍ بالمرَّة.
ربَّما أشيرُ إلى مسألة، وهي عندي في محل تردد! وهو أن يكون الإنسان في الطَّائرة وهو ممَّن لا يُمكنه جمع الصَّلاة، وهذا قليل جدًّا، ولكنه ممكن في طلعات تدريبيَّة في نفس المدينة، نصف ساعة أو ساعة، فهو لم يخرج من المدينة، ولم يقطع المسافة التي يُحكَمُ فيها بالسفر، أو طيران المتعة، أيضًا طيران الهليكوبتر في المهمَّات التي قد ينتقلون فيها من مكانٍ إلى مكان، أو غير ذلك من الدواعي؛ فهل يجوز له أن يجمع لمجرد أنه لا يُمكنه أداء الصَّلاة بأركانها أو لا؟
هذه المسألة محل بحثٍ ونظر، فيُمكن أن يُقال: إنه يؤدِّي الصَّلاة في وقتها لكونه ليس من أهل السفر الذين يجمعون، ويُمكن أن يُقال: إن الجمع في مثل هذه الحال وهو وإن لم يكن مسافرًا فهو ممن شمله حديث ابن عباس "أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء؛ من غير سفر ولا مرض"، أو "من غير سفر ولا مطر" كما في حديث مسلم، فقيل: ما أراد يا ابن عباس؟ قال: "أراد ألَّا يُحرِّجَ أمَّته"، فبعض أهل العلم -خاصَّة الحنابلة رحمهم الله تعالى- وسَّعوا في باب الجمع لِمَا يعرضُ للإنسان من الحاجات، كالمريض، ومَن خاف تلف ماله كالخبَّاز ونحوه، فقد يكون ذلك منه، وهو محلُّ بحثٍ، وطرحته لزيادة البحث، لأنَّني ذكرتُ كلمة قلتها وهي: (ممن يُمكن له الجمع)، فقد يستشكلها بعض الطلاب، فأردتُّ أن أُبيِّن ما الذي يخرج من هذه المسألة، وهي ما ذكرناه الآن.
بعد ذلك نأتي إلى مسألة وهي ليست من النوازل، وليست من العوارض؛ لكنَّها مما تكثر الحاجة إليها، وهي: حكم خطبة الجمعة بغير اللغة العربية.
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطبَ بلغةٍ عربيَّةٍ فصيحةٍ، فأسمعَ الناس ووعظهم كما دلَّت على ذلك الأحاديث، وجاءت به السنن، فهذا هو فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فمن فعل ذلك فقد تمَّت صلاته، وصحَّت جمعته، وأدَّاها على الوجه الأكمل الأتمِّ.
لكن مَن لم يعرف العربيَّة، أو مَن كان معه أناسٌ لا يُحسنون العربيَّة؛ فالأمر دائرٌ بين أمرين:
- بين أن يخطبهم خطبةً تصحُّ معها الصَّلاة، ولا يحصل معها الوعظ والتذكير الذي هو مقصود الجمعة.
- وإمَّا أن يؤدِّي الخطبة بلغتهم، فيحصل بذلك وعظهم وتذكيرهم والخير لهم فيما تشتمل عليه الخطبة من قول الله -جَلَّ وَعَلَا- وقول رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولكنه يفوته اللغة العربية.
لقائل أن يقول: هل أنتم تعظِّمون اللغة العربيَّة؟ وهل لها خصوصيَّة؟ ولماذا مثل هذه المسألة؟ ولماذا مثل هذا الكلام والمقصود أن يتَّعظَ الناس، وأن يتزَّودوا من الخير ومن العلم، ومن الهدى والسنن؛ فبأيِّ شيءٍ كان حصل ذلك؟
نقول: محل الكلام في هذه المسألة من جهةِ أنَّ جمعًا من أهل العلم قالوا إنَّ الخطبةَ من الصَّلاة، فلذلك جاء عن عائشة أن "الخطبة عِوضٌ عن ركعتي الظهر التي هي أربع"، فجُعلت الجمعة ركعتين.
إذًا؛ لمَّا كانت مبناها على العبادة، والعبادات عند الفقهاء على التوقيف؛ جرى الخلاف، فهذه العبادة التي جرت في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جرت باللغة العربيَّة، فكما أن الصَّلاة لا تصح إلا بقراءة الفاتحة والتسبيح -لمن قدر عليه- والتكبيرات على اللغة العربيَّة لكونها عبادة ومبناها على التوقيف، فكذلك الخطبة، فهذا هو محل الخلاف.
فنقول بناءً على هذا: مَن كان لا يقدر ولا يُحسن العربيَّة، فالله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، فكيفما تحصَّلت الخطبة بأي لغة كانت، سواء بالإنجليزية أو بالفرنسية أو الفيتنامية أو سواها من سائر لغات العالم ولهجاتهم؛ كان ذلك محصِّلًا للمقصود، ومتَّقيًا لله ما استطاع، وتبرأ الذِّمَّة -ولله الحمد.
أما مَن كان يُحسن العربيَّة لكن الأمر دائرٌ بين إفهام الناس وبين أدائها باللغة التي أدَّى بها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فالجمهور من الفقهاء على أنها لابد أن تكون بالعربيَّة، للتعبُّد بذلك ونحوه.
أما الحنفية وهو قول لبعض المحققين، وفتوى لمشايخنا كالشيخ ابن باز: أنَّ المقصود من الخطبة هو الوعظ والتذكير والتعليم، فبأي لغةٍ كانت حصل المقصود.
على كل حال نقول: مَن استطاع أداؤها باللغة العربي فيؤديها بها، ويُمكن أن يكون ذلك مقتصرًا على ما تقوم به الخطبة من الآية والحديث، والشروط الأربعة والصَّلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووعظ الناس، ثم بعد ذلك يعظهم بلغتهم.
وإذا قيَّدَ ذلك مَن قيَّده اتِّباعًا لمذهب جمهور العلماء، فيحسنُ أن يكون بين الخطبتين أو بعد الخطبة ترجمةٌ وتوضيحٌ لمن لا يُحسن العربيَّة، ليحصل المقصود الأعظم من الخطبة، وهو تعليم الناس، ويحصل أداء الجمعة بيقين، وهو أداء الخطبة باللغة العربية.
ومَن سلكَ ما ذهب إليه الحنفيَّة من أنَّ المقصود هو الوعظ، فبأي لغةٍ حصل المقصود، وعليه فتوى الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ- خلافًا لمذهب الحنابلة والجمهور، فأدَّوها بلغتهم؛ كان ذلك صحيحًا، ولهم مندوحة، ولقولهم اعتبار واعتماد، فالأمر في ذلك لا غضاضة فيه ولا إشكال.
وتجدون على سبيل المثال في إندونيسيا باعتبار أنهم شافعيَّة، وأهلها لا يعرفون العربيَّة؛ تجد أن الخطيب يجعل ما تقوم به الخطبة باللغة العربيَّة، ثم يوضحها بلغتهم، ثم يُكمل ذلك توضيحًا وشرحًا وبسطًا وإسهابًا بلغتهم التي يعتادونها ويفهمونها، فيكون بذلك نحوٌ مما ذكرناه في تحصيل المقصودين.
إذًا؛ هذا ما يتعلق بخطبة الجمعة بغير العربية.
ويُهمُّني في هذا ما ذكرتُ لكم، وهو: لماذا الخلاف؟
بعض الناس يقول: لماذا هذا الخلاف؟ وربما ينضم إلى ذلك بعض العبارات والاسترسال في الأحاديث أو الاتهامات! وهو بعيد عن معنى تقييد الفقهاء لهذه المسألة بالعربيَّة ونحوها، فهذا مهمٌّ لك -أيُّها الطالب- وهو أن تكون على درايةٍ به وعلم.
لا يزال الحديث موصلًا في هذه المسائل التي نطرحها تباعًا في أحكام الصَّلاة، مما أعدَّه الزملاء في هذه الأكاديمية، فهو انطلاقة للعلم، وتوضيح له، ولم يزالوا يجتهدون في برامج متنوِّعة تقربُ من الطلاب، وتلبي حاجتهم، وترفع من أدائهم، وتبلغهم -بإذن الله جل وعلا- في العلم مكانًا، سواء كان ذلك في اللغة العربيَّة، أو كان في التوحيد والعقيدة، أو كان ذلك في الفقه وأصوله، أو كان ذلك في مسائل أدب الشرع، وما يتعلق به من أحكام، وآداب العلم، والحديث والسُّنن، وغير ذلك، وهي أبواب عزيزة عظيمةٌ رفيعةٌ من العلم، هنيئًا لمن انضمَّ إلى هذا اللواء، وتابعَ مثل هذه الأعمال، ولم يزل يترقَّى في منازل العلم ودرجات أهله، بلَّغكم الله في العلم مبلغًا عظيمًا، وجعل عملنا وعملكم فيه خالصًا.
المسألة التالية: صلاة الكسوف بموجب العلم الفلكي المسبق.
من العلم أن صلاة الكسوف لها سببان:
- سببٌ حسِّيٌّ حسابي يعرفه أهل الاختصاص من أهل الفلك، ومَن سبَرَ هذا العلم ودرسَه.
- سببٌ شرعيٌّ كما جاءت بذلك الأحاديث في الصَّحيحين وغيرهما، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِن آيَاتِ اللَّهِ، لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولَا لِحَيَاتِهِ، ولَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بهَا عِبَادَهُ» ، فدل على أن لها سبب شرعي، كما أن لها سبب حسي.
تعرفون أن أهل الفلك يحسبون ذلك ويُخبرون به، وهذا ليس حديثًا، فهذا معروف في الزمن الأول عند علماء الفلك منذ قديم الزمان، وهو ليس مما تعقَّد من هذا العلم؛ بل مَن عرف في هذا العلم درجات ليست كثيرة أمكنه حساب خسوف القمر وكسوف الشمس ونحو ذلك.
فعلى كل حال: إذا أخبرنا أهل الفلك بحصول شيءٍ من ذلك؛ فهل يسع الإنسان أن يصلي بهذا الخبر أو لا؟
نقول: إنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ربطَ الصَّلاة بسببٍ ظاهر، فقال: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ منها شيئًا فَصَلُّوا» ، فالعلة والمناط ليس هو حصول الشيء، وإنَّما رؤيته وتعلقه بعلم المكلَّف.
فبناء على ذلك لو أن الشمس قد انكسفت والغيم قد سترها، أو الغبار قد حجبها؛ فلا تجب الصَّلاة، لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ»، فعلَّ ذلك برؤية الناس وإدراكهم له.
وبناءً على هذا نقول: إنَّ علم أهل الفلك وإخبارهم بذلك لا يزيد من الأمر شيئًا ولا ينقصه، وإنما يقربه ويسهله، فبناء على ذلك لو أخبرنا أهل الفلك وقالوا: في الساعة التاسعة وخمس وثلاثون دقيقة ستنكسف الشمس، فإذا جاءت الساعة التاسعة والخمس وثلاثون قال الإمام: الله أكبر. نقول: لا، هل رأيتَ؟ هل أدركتَ؟ هل وضحَ لك؟
فبناء على ذلك يكون مناط الحكم، وهو الرؤية كما في الحديث، وهذا قول أهل العلم، و-كما قلنا- مع علم العلماء السابقين بأن ذلك مدركٌ عند أهل العلم والفلك بحصول الخسوف والكسوف ونحوه، فإنَّ أحدًا منهم لم ينص على أنه يُصلَّى بمجرد قول أهل الفلك، ولأنه يحصل بذلك بعض الأخطاء، فيقول بعضهم بانه يحصل ولا يحصل، فأيضًا هذا مما يزيد من أنه لا يُعتمَدُ على قولهم في شيءٍ من ذلك البتَّة.
بل نصَّ أهل العلم كما نصَّ على ذلك ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- وجماعة من أهل العلم على أنَّه لا يُعتمَد على قول أهل الفلك في إقامة الصَّلاة وأداء هذه الشَّعيرة، بل إذا رُئِيَ ذلك وعلم الناس علمًا يقينيًّا بإدراكهم له ومعرفتهم به.
وقال أهل العلم: إن علم أهل الفلك يُقرِّب، فبناء على ذلك إذا قال علماء الفلك: إنه في الساعة الواحدة وعشرون دقيقة من هذه الليلة سيكون خسوفٌ للقمر، والناس في الغالب يكونوا نيامًا؛ فتحصيلًا للسنَّة وأداءً لهذه الشَّعيرة يقوم القائم ويستعد للعبادة حتى يؤدِّيَ ما أمر به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولكن ينظر، فإذا رآه كما أخبروا به؛ أوقع الصَّلاة وفعلها، وإلا فلا.
إذًا؛ كما قلنا هو مسهِّلٌ لأداء هذه الشَّعيرةِ ومقرِّبٌ لها، لكنه لا يُعتمَد عليه، ولذلك قال جماعةٌ من أهل العلم: لا بأس بالاعتماد على قول أهل الفلك في الاستعداد للعبادة والاهتمام بها، والمبادرة حتى يكون أسرع للإنسان في الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكن قيام الشَّعيرة مربوط بحصول ذلك المحسوس، ورؤية الناس له، فإذا رأوه تعلَّق بهم حكم الصَّلاة وفعلوها.
وأذكر في مثل هذا أنه في سنةٍ ليست قريبة أخبر مَن أخبر من بعض أهل الفلك أنه يحصل شيءٌ من الخسوف أو الكسوف، وأذكر في هذا أنَّ مسجدًا قريبًا من منزلنا صلى لمجرَّد حصول الخبر في الوقت الذي ذكروه، ولما قطَعَ في الصَّلاة شوطًا الناس لم يروه، ولم يصلِّ أحدٌ من الناس، فلم يكن هذا الخبر دقيقًا ولا علم أهل الفلك صحيحًا، فبناءً على ذلك كأنه صلى صلاةً في غير موضعها، فهذا مما يؤكِّد أنه لا يُعتَمَد عليهم لمجرد خبر أهل الفلك، ولكن قد يُستفاد من هذا تسهيل العبادة وتقريبها، والاستعداد لها والمبادرة إليها، لكن العبادة منوطة بالرؤية وتحقق ذلك، وهذا هو المستقر عند أهل العلم، والذي لا يختلفون فيه.
إذًا؛ هذا ما يتعلق بصلاة الكسوف.
فيما يذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في كتاب الصَّلاة: كتاب الجنائز، باعتبار أنها مشتملةٌ على صلاة الجنازة.
وكتاب الجنائز فيه مسألة يُحتاج إليها، وهي: حكم تشريح الجثَّة -أو تشريح الميت بعدَ موته.
من المعلوم أنَّ الميِّت له حُرمةٌ عظَّمها الله -جَلَّ وَعَلَا- وعظَّمها رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى الكافر في حال الحرب، فقد نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن المثلة، وهو أن يُمثَّل بجثثهم، فلا تقطَّع جثثهم ولا يُفعل بها ما لا يُحسن فعله، فإذا كان معصومًا وكان مسلمًا فحرمته أعظم وأتم، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسرِهِ حَيًّا» ، فمنع من الاعتداء على الأموات، كما هو ممنوع من الاعتداء على الأحياء، فهذا متقرِّرٌ شرعًا.
ويعظم هذا الأمر من جهة أنَّ هذا الميت لا يستطيع دفعًا عن نفسه، فيكون متعلَّق الحكم ما بين أهل الإسلام من الأخوة، فيُدفَع عن الميت الإضرار به أو أذيَّته أو الاعتداء على جثَّته، أو تعريضه لما لا يحسُن من حق الميتِ من الإكرام والحفظِ والصَّلاة والتغسيل والتكفين والدفن.
إذًا؛ هذا هو أصل المسألة، وهو أنَّ الميت حرمته محفوظة في حال موته كما هي في حال حياته.
والتشريح هو علمٌ من العلوم الحديثة التي توصَّل إليها العلم ليُستفاد من معرفة أسباب الوفاة، لكن لا يتأتَّى ذلك إلا بفتح الميت، وبروز بعض أعضائه، وحرمة الميت مستقرة شرعًا، والتشريح له فوائد، فهل يكون ذلك جائزًا؟
نقول: من حيث الأصل هو ممنوع، ولكن إذا احتيج إلى ذلك فيُنظَر فِيمَ تكون الحاجة، يقول أهل العلم: إن التشريح يكون لفوائد متنوِّعة، فقد يكون التشريح لمعرفة سبب الوفاة، وهو باب من أبواب الأدلَّة الجنائية والعلم الجنائي، فهذا ماتَ ولم يُعرَف سببه، وتوجد تهمٌ بوجود خنق له، أو أكل شيءٍ مسموم دسَّه له صديق أو خادمٌ أو سواه، فيُحتاج إلى معرفة ذلك السبب، فهنا اختلف أهل العلم المعاصرون في ذلك، والذي استقر عليه قول أهل التحقيق في المجامع الفقهيَّة وقول أهل الفتيا أنَّ منع الاعتداء على الميت تحقيقًا لمصلحته، لكن المصلحة الحاصلة بتشريح جثَّته لما يترتَّب على ذلك من تتبُّع الجاني وملاحقته وإلقاء القبض عليه وتعليق العقوبة به، وما يترتَّب على ذلك من مصلحةٍ أعظم وهو حفظ أمن الناس وعدم الاعتداء عليهم أعظمُ مما يكون من تشريح جثَّته.
وبناء على هذا قالوا: يجوز في مثل هذه الحالة ولا غضاضة، لعظم المصلحة المترتَّبة على ذلك، ولعظيم الأثر الذي يحصل بمثل هذا التشريح، وينقطع به دابر الإجرام وأهله، ويُقام الحق والعدل، ويظهر الأمن في الناس، ويُمنع الاعتداء عليهم في الخلوات.
أيضًا لو كان التشريح لأجل التعليم، وهذا يحصل في كليَّات الطب، والمتدربين فيه تُعرَض لهم بعض الأعضاء وتُشرَّح، فهذا درجةٌ أخف من الدرجة التي قبلها، فبعض أهل العلم منع منه اعتبارًا بالأصل، وهو حفظ حق الميت وكرامته، وبعضهم قال: إن المصلحة المتحققة في ذلك أعظم، وأنَّ حصول تعلُّم أبنائنا للطبِّ ضرورة لما يترتَّب على ذلك من حماية الناس وحفظهم، وأنه يتعلق بذلك حفظ الأحياء، وحفظ الأحياء أعظم مصلحةً من حفظِ الأموات، فإنَّ الميت لا يزالُ حتى يتعفَّن بدنه وينهشه الدود ونحو ذلك، فقالوا إن المصلحة المتعلقة بذلك من مكافحة الأمراض ودفع الأوبئة الذي لا يتأتى إلا من خلال تشريح الموتى ونحوه مصلحة كبيرةٌ.
قالوا: ومما يدل على ذلك: أنَّ الميِّتة لو ماتت وفي بطنها حملٌ أمكن استخلاصه فإنه يُفعَل، مع أنه لا يتأتى ذلك إلا بفتح بطنها، وفتح بطنها اعتداءٌ عليها في حال موتها، ومع ذلك تحصيلًا لمصلحة هذا الحي الذي بطنها، فكذلك ما يترتب على هذا من المصالح بالنسبة للأحياء، وبناء على ذلك قالوا: يُمكن القول بتصحيح ذلك بالنسبة لجثث المعصومين، فيُفعل ما احتيج إليه تحصيلًا للمصلحة العظمى.
مع أنه لا ينبغي أن يُحتاج إلى مثل ذلك إلا في حال الاضطرار، فإذا وُجدَ ممن بذلوا أنفسهم من غير المسلمين، أو ممَّن لا حرمة له ونحوهم ممن تحقق عليهم ذلك بانتفاء الحرمة؛ فيكون أبعدَ من حصول الإشكال، وتحصيلًا للمقصود من تعليم الطب والإفادة فيه، وأيضًا ما ماثل ذلك من الأحوال التي يلزم لها تشريح الجثث.
مناط المسألة التي نحب أن يكون مستقرًّا لدى طالب العلم هو: حُرمَة الميت، وعدم الاعتداء عليه، وما جاء عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسرِهِ حَيًّا»، وما جاء في أحاديث كثيرة من عدم الوطء على القبور، وما جاء من حفظ الإنسان في نفسه وفي بعضه، حتى جاء عن ابن عمر وغيره أنه إذا وقع من الإنسان سنٌّ أو ظفر دفنها تعظيمًا لأعضاء الإنسان المنفصلة منه في حال الحياة، وهي قد تكون مما لا حُرمَة له ومما يتقذَّر منه الإنسان، فكيف إذا كان ذلك في حال أن يكون اعتداءٌ على الميتِ في كليَّته أو في جميعه.
المسألة التي بعدها تتعلق أيضًا بكتاب الجنائز، وهي: ما يحصل بكتابة التعليمات والإرشادات في المقابر.
أصل هذه المسألة: هو ما جاء في الحديث عند مسلم في صحيحه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نهى أن يُكتب على القبر أو أن يُجصص"، النهي عن تجصيص القبور وتعظيمها والكتابة عليها أصل في الشريعة، منعًا للغُلوِّ في الموتى والتعلُّق بالأموات ونحو ذلك، والكتابة على قبر الميت سواء كتابة اسمه أو التعريف به أو بعض الثناء عليه أو رثائه أو ما يشبه ذلك منهي عنه، وهذا النهي عند جمهور أهل العلم على الكراهة، وقد ذهب ثُلَّةٌ قليلة من أهل العلم إلى تحريم ذلك والتَّشديد فيه، وعلى كل حال هو منهي عنه لِمَا يُفضي من التعلق بالأموات وغيرهم، وإذا احتاج الإنسان إلى أن يتعرَّف على قبر قريبه ونحوه فيكون ذلك ببعض العلامات بدون ما كتابة، لئلَّا يحصل في ذلك المنهي عنه من الغلو في القبور والتعلُّق بها، وتمايُزها، وما يتبع ذلك من الاستهانة ببعضها، وكل ذلك مما جاء الشرع بمنعه والبُعد عنه.
أما التعليمات التي توجد في المقبرة، سواء كانت للجهات أو للخروج، أو لأماكن الجلوس، أو لبعض ما يُحتاج إليه مما يُدفن به الميِّتِ كَلَبِنٍ أو حجَرٍ أو ماءٍ أو غيره، فيُشار إلى الناس بلوحة مكتوبة بأن هذا يوجَد في كذا، فنقول: لا شكَّ أنَّ مثل هذه الكتابات ليست من الكتابة على القبر، وليست مما في معناه من جهة ما يحصل به من التَّعلُّق بالأموات وتعظيمهم، فيكون الأمر في ذلك أوسع وأسهل.
لكن لو كانت الكتابة في المقبرة على نحو ما يحصل من الكتابة على القبور؛ فيُمكن أن يُقال من أنه داخل في النهي والمنع منه.
مثال ذلك: لو كُتِبَ "هذه قبور الصالحين"، أو كُتِبَ "هذه الجهة قبور كذا وكذا من الأولياء وغيرهم"؛ فهذه الإشارات والكتابات مدعاةٌ إلى التعلق بهذه القبور، وما جُبل عليه كثير من الناس من التعلق بالأموات هو أصل فتنة بني آدم كما جاء ذلك في أثر ابن عباس في قصَّة صلحاء قوم نوح، وهي قصَّة مشهورة معروفة، فبناءً على ذلك: إذا كانت الكتابة في المقابر على هذا النحو، فلا شكَّ أنها تأخذ ما ذكرناه أولًا، وربما زادت على ذلك لعظم ما يتعلق بها من الغلو، وما يحصل في القلب من الميل إلى القبور والتعلق بها، والذي جاء الشرع بالنهي عنه وسدِّ بابه، حفظًا لجناب التوحيد، ومنعًا لتعلُّق الناس بغير الله -جَلَّ وَعَلَا.
إذًا؛ هذه من المسائل التي تتعلق بكتاب الجنائز.
نأتي بعد ذلك إلى جملة من المسائل التي تتعلق بكتاب الزَّكاة.
والحقيقة أن في الزَّكاة جُملةٌ من المسائل كثيرة فيها إشكالٌ، لكن سنأخذ نبذة من المسائل تزيد من فقه الطالب، وتعيد ما غبرَ عليه الزَّمن من نسيانٍ لأصول هذا الباب، أو الحاجة إلى ما يكثر تداعي الناس إليه اليوم وتعاطيهم له من المسال الواقعة المعاصرة في هذا الوقت.
من أهم هذه المسائل التي نحتاج إلى الحديث عنها هي: زكاة الراتب الشهري، أو زكاة الحساب الجاري.
جدَّت في الأوقات البنوك، وصار الناس يجعلون أموالهم فيها، وصارت هذه الأموال لا تُحفَظ بأعيانها، وإنما تُحفَظ بأرقامها، فإذا طلبت مليون فربما تُعطَى المليون الذي جاء به فلان، أو المليون الذي حُفِظَ في البك وديعة لفلان، إلى غير ذلك من الأشياء.
وعالم البنوك عالم متطورٌ جدًّا لم يكن في سالف الأزمان، فكان في الأصل مثل هذه اللوحة أو الطاولة الذي يتبادلون من خلاله العملات، ثم تطورت حتى آلت إلى علم البنوك، وحفظ الأموال، وتوليد النقود، وما يتبع ذلك من الإقراض والاقتراض ونحوه، وللأسف لما كانت هذه الفكرة مجتلبة؛ كانت قائمة على كثير من المخالفات الشرعيَّة، أولها الربا بالإقراض والاقتراض، إلى غير ذلك من مخالفات كثيرة، فلم نزل في خير في النأي بأنفسنا في كثيرٍ من مؤسَّساتنا الماليَّة عن مواقعة المحظورات، ولم يزل كثيرٌ من الإشكالات محتفٌّ ببعض هذه التَّعاملات، نسأل الله الإعانة والسَّداد.
عندنا زكاة الحساب الجاري وزكاة الرواتب، وهما مسألتان متقاربتان، تتفقان في كونهما لا يُحفظ فيهما عينُ المال، فلأجل ذلك كان من الصعوبة معرفة دوران الحول عليه، فإن من شروط الزَّكاة دوران الحول، عن عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّه قال: "ليس في مالٍ زكاةٌ حتى يحولَ عليهِ الحوْلُ" ، كما جاء عند أهل السنن، وهو محل إجماع عند أهل العلم، إلا ما يستثنى من ذلك من زكاة الحبوب والثمار في قوله الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]، فبناءً على ذلك: كيف تُزكَّى مثل هذه الأموال؟
الراتب الشهري في طريقة حسابه صعبٌ جدًّا في وجوب الزَّكاة عليه، فمن المعلوم أنَّ كلما تتحصَّل عليه من المال:
- إما أن تنفقه: وهذا إشكال فيه.
- وإما أن يدَّخر الإنسان جزءً منه، فإذا ادَّخر كل شهر خمسة آلاف ويصرف الباقي، فالخمسة آلاف في شهر محرم بدأ حولها في شهر محرَّم، والخمسة آلاف التي ادَّخرها في شهر صفر يبدأ حولها في شهر صفر، ولا يُمكن أن يُقال بأنَّ حولَ ما ادَّخرت في شهر صفر هو حولُ ما ادَّخرته في شهر محرم، لأن هذا المال ليس نماءً لذلك المال وربحًا له، فعروض التجارة أمرها يسير، باعتبار أن أصل المال بدأ فيه الحول، فما نما عليه من ربح لا يُحتاج فيه إلى حول؛ بل حوله حول أصله، لكن هذا الراتب الشهري هو نماء عملك، فأنت استحققت هذا المال بعملك، فلا ارتباط بين المالين، فكان الأصل أن لكل مدَّخر في هذه الأشهر حول ونصابٌ وزكاة مخصوصة.
إذًا؛ كيف سيُزكي الإنسان؟
نقول:
الحال الأولى: إما أن يكون عند الإنسان اثنا عشر حساب، كل شهر يدخر فيه ما بقي عنده في هذا الشهر، فإذا تمَّت السنة سيعرف أن في شهر محرم فيه حساب كذا وهو نصاب تجب فيه الزَّكاة، وهذا شهر صفر لم يدَّخر فيه إلا ألف ريال، فهذا ليس نصابًا، وفي شهر ربيع كان ثمانية آلاف قد بلغ النصاب وسيؤدي فيها الزَّكاة، وهكذا..
وهذا في الحقيقة فيه صعوبة كثيرة وإشكاليَّة، فقد لا يضبط الإنسان الحساب، وقد تكثر عليه التَّداخلات، ولكن هذا هو الواجب، وأصعب من ذلك لو كان الإنسان يتعاطى أمولًا بطريقةٍ يوميَّة، فيكل يومٍ له حكم إذا انضمَّ إليه نصاب، فلا شكَّ أن مَن استطاع فعله فقد أدَّى ما عليه، وأدَّى زكاة كل مالٍ وجبت عليه الزَّكاة باكتمال نصابه وحول الحول عليه.
الحال الثانية: هي الحال التي يتعاطاها كثير من أهل العلم لتعسُّر الحال الأولى وتعذُّرِ إمكانِ العلم بها، فيجعل له وقتًا واحدًا منذ بلغ النصاب عنده، فإذا كان قد بلغ النصاب في عشر من ربيع الأول؛ فإذا جاء من السنة القادمة عشر ربيع الأول أدى زكاة جميع مدَّخراته، فمنها ما يكون قد دار عليه الحول فهو مما وجبت فيه الزَّكاة، ومنها ما لم يدر عليه الحول لكن تكون زكاته زكاةً معجَّلة، وإن كان التعجيل ليس هو الأولى كما ذكر بعض أهل العلم، ولكن قال به العلم لمسيس الحاجة إلى ذلك، أو لكونها ضرورة لعدم إمكان قدرة الإنسان على الإحاطة بتفاصيل تلك الأموال ودخولاتها، وما بقي منها وبلوغه النصاب وحول الحول عليها.
ويُمكن أن يكون عنده ورقة، كلما ادَّخر شيئًا كتب تاريخه، ثم إذا انضمَّ إليه شيء كتبه بتاريخه، وينظر ما الذي بلغ النصاب ويؤدي زكاته، وهي -كما قلنا- عمليَّة فيها صعوبةٌ إلى حدٍّ ما.
هذا ما يتعلق بزكاة الراتب الشهري، ولعلنا نكون -بإذن الله- أنهينا ما يتعلق بهذه المسألة، وإن كنَّا سنحتاج إلى إعادتها بشكل مختصر مع الكلام على الحساب الجاري في مستهل الحلقة القادمة.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة والخير والرشاد، وأن يغفر لي ولكم ولجميع المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك