الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

4957 6
الدرس الأول

مسائل فقهية معاصرة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله أفضل ما ينبغي أن يُحمد، وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تعبد، أما بعد.
فأسأل الله -جل وعلا- أن يبلغنا العلم وأن يزيدنا فيه، وأن يرفع بنا منارة، وأن يجعلنا من أهله، وأن يحشرنا في زمرة العلماء، إن ربنا جواد كريم.
أيها المشاهدون طلاب العلم وطالباته في مجلس من مجالس العلم، وفي هذه الأكاديمية والبناء الذي لم يزل يبني العلم ويعتاده ويتحرى طرائقه تسهيلًا للعلم وأهله، وتسهيلًا لطلاب العلم حتى يبلغوا فيه مبلغًا يبلغهم في بيوتاتهم ويصل إليهم في أماكن عملهم، ولا يحال بينهم وبينه ما داموا يرغبون فيه، يصلهم عبر هواتفهم، يصلهم عبر هذه القنوات، يصلهم في كل حال وآن، فماذا بعد ذلك إلا القيام للعلم والحرص عليه والإقبال على بابه لعل الله -جل وعلا- أن يبلغك فيه مبلغًا عظيمًا يكون رفعة لك في الدنيا ونجاة لك عند الله -جل وعلا- في الآخرة.
في لبنات العلم وقيام سوقه وترتيب بنائه وتقويم حائطه حتى يبلغ مبلغه، وحتى يكتمل بناؤه بلغة للطالب -بإذن الله جل وعلا- يتبلغ به ليتتابع عليه العلم وتتكامل فيه مسائله ويطلب فيه المزيد من فضل الله -جل وعلا- ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]، مهما فرح الناس بمتعهم وشهواتهم ورغباتهم فلن يكون ذلك بأعظم من الفرح بفضل الله، وفضل الله في كتابه وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وفي طلب الحق والهدى والاستمساك بالعلم، والتعبد لله -جل وعلا- على بصيرة، ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، ولإن كانت البصيرة أصل في العلم وفي هداية الناس، فإنها أعظم ما تكون في هذا الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى هذا العلم، لما كثرت الشبهات ولما عظمت الشهوات ولما ادلهمت الظلمات حتى أحدقت بالناس في كل حدب وصوب.
أيها الإخوة، أيها الطلاب لا أريد أن استرسل في مثل هذه المقدمات، لكن ما أحسن أن يجد الإنسان في نفسه ما يشجعه ويزكي في نفسه الهمة والرغبة والعزيمة والإقبال والطلب والفرح بما هو فيه، لأن أقبلت على هذا المجلس، لأن جلست في بيتك وأنت ترى من حولك يذهبون أو يجيئون، أو يبيعون ويشترون، أو يمرحون ويتشهون، فلا تأسى على ذلك، فإن من العبرة إنما هي بالنهايات وبالوصول إلى الغايات وبالفرح بقدر الله -جل وعلا-، وكل المتع تذهب ولا يبقى إلا أثرها وتبعتها، فلربما كان كثير من الناس في تبعات وحساب ومسائلة عند الله -جل وعلا-، وكان طالب العلم ومن رغب فيما عند الله ومن أقبل على عبادة أو هداية أو درس من الدروس، فإنما ذلك أجر ومثوبة ونور وبصيرة وخير له في الدنيا والآخرة.
في مثل هذه المجالس أيها الطلاب قضايا معاصرة انتقلنا بعد مجالس متنوعة في دراسة كتب أهل العلم ومسائلهم التي خطوها ومسائلهم والفروع التي كتبوها لننتقل إلى مسائل تحتف بنا، تكثر الحاجة إليها، يعتاد الناس السؤال فيها، ولربما ظنوا هذه المسائل بعيدة عن ميدان الفقهاء وكلامهم فيها والحديث عنها، ولكن من نظر في الفقه وراجع كلام أهل العلم فإنه يجد أنهم أحاطوا بكثير من هذه المسائل، إما على سبيل التنصيص الواضح وإما على سبيل التعليل، وإما على سبيل الإشارة، وإما أن يكون ذلك أصلًا يشمل هذه المسألة ويشمل غيرها فينصون على صورة وتبقى الصورة الأخرى وإن لم تكن ظاهرة في هذا الكلام، لكنها منطلقة من حيث المعنى في ذلك المعنى الذي ذكروه.
ولَمَّا كان الأمر كذلك وتنويعًا من الزملاء في هذه المؤسسة وفي هذا البناء وفي هذه الأكاديمية وفي هذا الصرح العلمي الذي يأتي على ما يحتاج إليه الطلاب وينوع عليهم ويروح عنهم في العلم، حتى لا يزالوا يقبلون عليه ويرغبون فيه، فلما كان منهم ما كان خصصنا هذه المجالس بمثل هذه المسائل تسهيلا على الطلاب وتقريبًا لما درسوه من أصول العلم وما يحتاجون إليه في واقعهم من مسائل قد تكون بعيدة أو لم ينص عليها الفقهاء صراحة في كلامهم وكتبهم.
قبل أن نتكلم عن هذه المسائل، اعرف أن هذا المجلس هو جزء من مجالس في دورات مختلفة لا يجب أن ينفك هذا عن تلك، وهذا المجلس عن تلكم المجالس، فعلى الطالب الذي درس تلك المجالس وحضرها أن يستذكرها وأن يراجعها وأن ينظر فيها، لأن هذه اللبنة مكملة لتلك اللبنات، وهذا المجلس أيضًا سلسلة وحلقة في حلق متتابعة متكاملة تضفي على الطالب من الترقي في درجات العلم والوصول إلى أعلى منازله -بإذن الله جل وعلا-، ومن كان من الطلاب لم يتسن له حضور تلك المجالس ولا الوقوف عليها، فإنه يحتاج مع استماعه لمثل هذه المجالس أن يستعيد ما فات عليه، أن يراجع ما ثبت على منصات التواصل ونحوها من هذه -ولله الحمد- المقربة للعلم المسهلة له، حتى -بإذن الله جل وعلا- يكتمل له أو يلحق ما فاته ويكتمل له ما أراد، ويبلغ -بإذن الله جل وعلا- مبلغًا طيب.
هذه المجالس للقضايا المعاصرة أو فقه نوازل متجددة ليست نوازل بمعنى أنها ليس لها سابق حدوث فيما مضى من العصور، ولكنها يعني ربما مثلما قلنا خفية أو فيها نوع خفاء أو لها صورة من الصور التي لم توجد فيما مضى، لكنها بلا شك داخلة فيما ما ذكره العلماء والفقهاء.
حاجاتنا إلى دراستها هو تنويع في توسيع مدارك المتفقه وتنبهه على أهمية ما درس وليربط الواقع بالأصل وليرجع المسألة التي يعالجها ويحتاجها إلى ما أسسها وبناها في أصل دراسته وما سبق من تعلمه، فلأجل ذلك كان هذا الأمر مهم، لكن بين يدي ذلك أحب أن أنبه إلى أن المسائل التي تعرض هي ليست من مسائل صغيرة في العلم ولا سهلة ولا يسيرة ولا بسيطة، وإن كان العلم كله ليس فيه يسير ولا سهل.
جاء أحد الطلاب إلى شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -يرحمه الله تعالى- فسأله كأن الشيخ كان مستعجلًا أو مشغولًا، فقال يا شيخ هذه مسألة بسيطة، قال: يا ولدي العلم ما فيه بسيط، العلم كله صعب، العلم كله عظيم، وما عظمه إلا من مصدره، كتاب الله -جل وعلا- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والله -جل وعلا- يقول لنبيه في كتابه: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلً﴾ [المزمل: 5]، هل هذا الكلام ثقيل؟ هو كغيره من الكلمات لكنه ثقيل في معناه، ثقيل فيما يحتمله، ثقيل في تدبره، ثقيل في حدوده وأحكامه ومسائله وما يجب به، وإذا كان الله -جل وعلا- قال ذلك لنبيه الذي أرسله إلى عباده وهو ثقيل عليه، فمن باب أولى أن يعلم أنه ثقيل على كل من تلقاه، وهو ثقيل لكونه أمانة فيما يجب من صيانته ورعايته وتلقيه على وجهه وأخذه على نحو ما شرعه الله وشرعه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو ثقيل أيضًا في تبليغه وتوضيحه وتصويره وبيانه على وجهه الذي أراده الله وأراده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد درس كثير منكم وقرأ ما جاء في كتب السنن والأحاديث وما ذكره البخاري في صحيحه حينما ذكر حال النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ألقي عليه الوحي، وفي ذلك أحاديث كثيرة وكان من أعظمها أنه يتصفد وجه وجبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العرق، من شدة ما يجد عند تنزل الوحي ووصوله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولربما كان ذلك في اليوم البارد أو الليلة الباردة جدًا، وكل هذا يرجع إلى ما ذكرناه من تعظيم العلم وعدم التسرع فيه والتثبت في تلقيه وأخذه على وجهه، فكان من الأمور العظيمة أن نعرف هذا الأصل الأصيل، وإذا ما عظَّمنا العلم فإن ذلك أعظم له، وأعظم لأن نسلك سبيل أهله ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30]، ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، فلم يكن لشخص أن يستهين أو يستخف أو يتساهل أو لا يبالي بأقوال الله وأقوال رسوله وأحكامه وشرعته وما جاء في سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يكون أمره إلى وبال وأمره إلى سفال وأمره إلى ضلال، ولا يكاد يوفق في هذا الباب ولا هذا الطريق.
وَلَمَّا كان الأمر كذلك وهو تعظيم الشرع وتعظيم الكتاب وتعظيم السنة وتعظيم تلقيهما، فأعلم أيها الطالب أنك لما تصديت لهذا الطريق فإنك تصديت لأمر عظيم، فأعطه حقه وتأهَّب لهذا الأمر أهبته، وتبلغ فيه خير وأطلب من الله -جل وعلا- التوفيق، فإن الأمر -بإذن الله جل وعلا- خير عميم وأمر كبير يوشك أن يكون بركة لك في نفسك وبركة لك في دينك، وبركة لك في زوجك وأهلك، وبركة لك في مالك، وأجر وبلغة عند ربك -جل وعلا- في آخرتك، فهذا الأمر لما كان بهذه المثابة فلابد أن تعلم وأن تعرف كيف تَلَقَّاه العلماء، وكيف أخذه السلف، وكيف تبناه السابقون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن التابعين ومن الأئمة الأربعة ومن أتى بعدهم من أهل السنة والجماعة، الذين أخذوه على وجهه وبذلوا فيه مهجهم وحياتهم وأنفاسهم وأوقاتهم وتلقوا في ذلك من الصبر والتعب والمشاق ما الله به عليم، حتى إن ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا ابتدأ طلب العلم وتلقيه كان يأتي عند عَتَبَة بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيتوسدها ينتظر بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تحرقه الشمس ويسفه التراب حتى يخرج فيتبلغ منه السنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عظموا العلم وعظموا أهله وتذللوا في طلبه، وطلبوا في ذلك طريقة فبلغهم الله -جل وعلا- مبلغًا عظيمًا، فكان ابن عباس -رضي الله عنه- من خاصة أهل العلم في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونقل عنه العلم الوفير، ثم لم يزل الأمر كذلك من سلف ومن تبعهم على هذا النوح، مَنْ عَظَّم العلم عظمه، ومن أخذه على وجهه تبلغه، ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظمهم، ولكنهم هانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهم.
فوجه آخر من أوجه بعض طلاب العلم أنهم لم يأخذوه على وجهه وتساهلوا به، فحادوا عن الطريق وانحرفوا عن السبيل، وحصل لهم من الضعف فيه أو الانحراف أو الضلال ما الله به عليم.
أيها الإخوة كلنا يحفظ ويعرف ويردد ما جاء عن التورع في تلقي المسائل وأخذها والكلام فيها إلا على علم يقين وبصيرة ظاهرة وتبلغ فيها على وجه أصيل من كتاب الله -جل وعلا- ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن أقوال أهل العلم راسخه، وكلنا يحفظ ذلك، كلنا رجع إلى ما ذكره أهل العلم وما قرره على سبيل المثال ابن القيم في إعلام الموقعين من ورع الصحابة وذكر في ذلك من الآثار والأمثلة، وما ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وأهله، وما ذكره كثير من أهل العلم في مناسبات وفي مواضع وفي شروحات لأحاديث وآيات يبينون فيها عظم العلم وعدم التجرأ عليه، ولم يزل أهل العلم يتلقون هذه المسألة، ولم يزل الناس يحفظوها، فيقولون: إن من المسائل لو ألقيت على بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجمع لها أهل بدر، وإن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُسأل عن المسألة فيقول: لا أعلم، وابن عباس -رضي الله عنه- يقول: "مَنْ تَرَكَ قَوْلَ: لاَ أَدْري، أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ"، والإمام مالك -رحمه الله تعالى- آتاه آتٍ من مكانٍ بعيدٍ، فسأله عن سبعين مسألة، فكان قوله في قرابة أربعين مسألة: الله أعلم، فقال: يا إمام أرجع إلى الناس وأقول: الإمام مالك قال الله أعلم، قال: بل قل لهم: الإمام مالك يقول: لا أدري والله أعلم، ليُعلم في ذلك أنهم كانوا يتراوا.
ومع علمنا بهذه كلها وتردداها والحديث عنها لم نجد أكثر في هذا الزمان من الجرأة على المسائل والقول فيها والدخول في تفاصيلها والحكم على المسائل والحكم على قائلها، حتى أن صغار الطلاب والأحداث منهم إذا جاءت بعض المسائل يقول هذه كذا، تقول له: قال الشيخ فلان أو نقل عن الفقيه فلان، يقول: لا، أو خطأ، أو الراجح كذا إذا تورع وتأدب، وإلا فالتخطئة والتسفيه والإعجاب بالرأي هي سمة من سمات هذا العصر عند بعض الطلبة أو الأحداث، أحداث الأسنان فيهم، وربما بلغ ذلك عوام الناس حتى إنهم إذا سهل لهم تلقي العلم عبر هذه المنافذ والقنوات أو البحث في جوجل أو نحوها، تجد أنه إذا طرأ في المسألة طرف من أطرافها ظن أنه أحاط بها، فلم يزل يتكلم فيها كما يتكلم العلماء الراسخون، وكل ذلك مزلق من المزالق وبلاء من البلاء يوشك أن يلحق بصاحبه الفتنة وأن يقع في البلاء العظيم في الدنيا والآخرة.
ولَمَّا كان الأمر كذلك كانت هذه المقدمة أصل أصيل لا ينفك عمَّا نحن بصدده، وإذا قلنا: إن أهل العلم تورعوا ولم يتجرءوا وخافوا على أنفسهم وأحجموا واستحضروا قول الله -جل وعلا- ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، فالقول على الله بغير علم هو من أعظم الفواحش وأكبر الضلال.
ونقول أيها الإخوة أيها الطلاب، أيها الطالبات، هذا الحديث إنما هو حديث على سبيل التفقه والتعلم وإنشاء المسائل، ولذلك كان حقيقًا بها ولصيقًا بها أن تكون في مثل هذه الدورة التي سميت لبنات، فنحن إذًا لسنا في مورد القطع ولا الإفتاء ولا النص على هذه المسائل بما لا حديث بعده، ولكن هو ربط لهذه المسائل بأصولها وإحياء التكلم فيها وبمثابة حرث الأرض حتى تبين إشكالاتها، أي إشكالات المسائل كما يتبين في حرث الأرض ما يختبأ فيها مما يؤثر على الزرع ويمنع البذر، وهذا هو مثالنا هنا.
فلأجل ذلك كثيرًا ما يقع هذا الإشكال، إذا كان طالب العلم مأمورًا بالتورع وعدم التعجل في مسائل العلم وهذا أصل أصيل لا يختلف فيه كما تقدم، وإذا كان الطالب لا ينفك عن مسائل في واقعه وأشياء تحدث له ويريد أن ينظر فيها ويستفيد مما تعلمه، فنقول ثمة مسالك.
المسلك الأول: أن يظن أنه قادر على الحكم في هذه المسائل، فيحمله ظنه الفاسد على أن يتجرأ ويقول، فيحصل بسبب ذلك الضلال، ويحصل بسبب ذلك البلاء، وهذا ما حصل في أوقات قريبة سببت كثير من الأزمات للناس أجمع في مثل هذه الأوقات، لَمَّا حصل استباحة الدماء في هذه الأزمنة إنما مبدأها هذا المسلك، أن سلك العلم أناس لم يبلغوا فيه إلا مبلغًا صغيرًا إن بلغوا، ثم اجتمع لهم بعض مسائل ونظروا فيها بمحض عقولهم ونظرهم دون أن يرجعوا إلى ما قرره أهل العلم على أصله واستدلوا به على وجهه، فجنحوا كما جنح غيرهم، فحصل الضلال، فاستباحوا الدماء وكفروا المسلمين وحصل بسبب ذلك البلاء العظيم.
ومثل ذلك أيضًا الذين وقعوا في الشهوات بناءً على شبه، فإن أناس كثير دخلوا في بعض مسائل العلم، فظنوا أن هذا ليس فيه ما يدل على الحرمة، فتوسعوا في هذه المسألة، ثم ألحقوها بغيرها، ثم لم يزل التوسع سبيلًا لهم حتى وقعوا في الإرجاء الذي هو مسلك من مسالك أهل الضلال، ثم استباحوا كثير من المحرمات أو استصغروها، فحصل بسبب ذلك البلاء والشر، وكله مبني على هذا المسلك الذي هو مسلك التجرأ والإقدام على ما لا يقدر عليه الإنسان، فحصل بسبب ذلك الضلال.
المسلك الثاني: الإحجام، وهذا الإحجام إذا حصل معه أن الإنسان ما يبحث هذه المسائل، ما يدرسها، ما ينظر فيها، فات عليه التعلم، فات عليه النظر فيما يصلح في الواقع، ما الفائدة أن أدرس مسألة ذكرها الفقهاء قبل خمسين أو مائة أو خمسمائة سنة ولا أثر لها هنا، ثم آتي إلى مسألة يحتاج الناس إليها في كل يوم ولا أبحثها، فيقع عند الإنسان الإحجام، فينكفئ فيفوت عليه خير كثير.
إذًا هذان مسلكان وكلاهما ليس بصحيح والأول لا شك أنه أخطر، لكن المسلك الصحيح بين هذين المسلكين أن الطالب يأتي إلى هذه المسائل فينظر فيها على سبيل التعلم والتدبر، لا على سبيل الحكم والتجرأ، فينظر في هذه المسائل على سبيل التعلم والتدرب لا على سبيل القطع والتجرأ، إذا حفظت هذا القدر فأعلم أنك وفقت -بإذن الله جل وعلا- إلى خير كثير، فمهما وصلت إليه من حكم في هذه المسائل، فإنما هو حكم قاصر لا يزال محلًا للنظر والمراجعة والتكميل وأن تتبعه بنظرة أخرى وترجئ المسألة إلى أن تكبر وتنظر حتى -بإذن الله جل وعلا- يكتمل الأمر.
فعند ذلك لا تكون ممن تجرأت ولا تكون ممن أحجمت وتحفظ نفسك أن تكون قلت على الله -جل وعلا- بغير حق وبغير علم، وأن تكون تعلمت وتدربت وتدرجت في مسائل العلم وتنقلت في مراحله، -فبإذن الله جل وعلا- من كانت هذه حاله ثم طلب مع ذلك الإخلاص، ثم كان معه التأني في العلم والمتابعة فيه يوشك أن يصل إلى الغاية وأن يبلغ الأمر المنشود -بإذن الله جل وعلا- وأن تطيب نفسه ويطمئن قلبه على قول أصيل من أهل العلم مسلوب لا مهجور ولا شاذ ولا ضلال ولا بلاء، فيقع بذلك الخير والتمام.
هذا المسلك هو الذي نرجو أن نسلكه ونحب أن يكون هو باعثنا وهو الذي نستصحبه معنا، كان شيخنا الشيخ صالح الأطرم -رحمه الله تعالى- يتحدث إلى الطلاب، فيقول: إن المسألة التي نلقيها عليهم وهو مثال لطيف للغاية، يقول: هو بمثابة نطفة التي تلقى في رحم المرأة، نطفة تلقى صغيرة، فالمرأة تتلقاها ثم لا تزال تنميها حتى تكبر فتكون ولدًا ينبض بالحياة ويتنقل في مراحلها ويكبر ويشب ويشيب، لو أن المرأة ألقتها من بطنها لأول وهلة لخرجت ميتة، ولو أن المرأة تركتها بدون تنمية فيوشك أن تموت في بطنها، فهي لا ذلك على هذا النحو ولا هي على هذا النحو وإنما ترعاها وتعالجها حتى تكبر وتبلغ مبتغاها، فكذلك المسائل التي يلقيها الأستاذ أو الشيخ ولست بشيخ وإنما أنا طالب علم أدارسكم لكن نتكلم إذا ألقى الأستاذ أو الشيخ أو العالم المسألة على الطالب، فإنما ينبغي للطالب أن يتلقاها على هذا الوجه وأن لا يزال يراجعها وينميها وينظر فيما ذكر في ضوابطها في قيودها، في شروطها، في واجباتها، فيما يخرمها، في بعض استثناءاتها واستدراكات أهل العلم عليها، حتى -بإذن الله جل وعلا- تكتمل المسألة من كل وجه.
وكم من المسائل -ولو سألتم كثيرًا من طلاب العلم- كم المسائل إن لم تكن أكثر المسائل أو كلها تلقيناها في أول الطلب على وجه حتى إذا قطعنا في العلم شوطًا، تبين أنها على وجه آخر أو على وجه ناقص فلم نزل نراجع ونرجع إلى المسألة ونكملها، وكم من المسائل وأنا أقولها لهم واسمعوا ذلك جيدًا: كم من المسائل التي سُئلنا عنها في هذا الوقت وأجاب الإنسان لأول وهلة إما استعجال أو رأفة بحال السائل أن يؤجله، لكنه لما أغلق السماعة وراجع بعض ما ينبغي أن يراجعه، تبين أنه فاته عليه في ذلك ما يجب أن يعيده ويعيد النظر فيه وأن يكمل المسألة على وجهها، فإن كان الأمر كذلك وقد يكون الإنسان يعني بلغت عنده هذه المسألة مبلغًا كثيرًا ونمت عنده وقتًا طويلًا ومع ذلك لا ينفك أحيانًا من وجود الإشكال، فبناءً على ذلك إذا كان هذا على هذا النحو، فمن باب أولى لطالب العلم في أول وهلة أن يكون أكثر حرصًا في عدم الاستعجال وفي التريث والتأني في تلقي هذه المسائل ودراستها.
وأيضًا لن ننفك من ذكر شيخنا -رحمه الله جل وعلا رحمة واسعة- الشيخ عبد العزيز بن باز كان في درس يُسأل أحيانًا عن بعض المسائل، وهذه حضرتها ليست مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا خمس ولا عشر، عشرات المرات ويُسأل عن مسائل -كما قلت قبل قليل- قد نراها أو نعبر عنها بأنها يسيرة أو بسيطة، لو سُئلتها ذلك الوقت قبل أن يسألها الشيخ يمكن أقول لكم أني أجيب السائل، ثم نفاجئ أثناء الدرس أن الشيخ إذا سُئل هذه المسألة سكت، ثم أطرق برأسه، ثم يأخذ ينظر ويتأمل، ثم لا يزيد أن يقول للطالب أكتبها، فيكتب الطالب المسألة فيأخذها الشيخ ويضعها في جيبه، حتى إذا جاء من الغد قال: إني راجعت المسألة والذي يظهر كذا وكذا وكذا، فهل تعجب من تأني الشيخ مع كثرة علمه أو ورعه وعدم الاستعجال في العلم مع ما جمع الله له!؟ أم نعجب مما يقر في قلوبنا ولله الحمد كان درسًا لنا من التساهل في أن الإنسان ربما تجرأ في مثل هذه المسائل أو أسرع إلى الكلام فيه، مع أنه إن كان عنده علم ولكنه لم يحط بها.
ولذلك تجد الناس في مسائل كثيرة من مسائل الطب يكون عندهم معرفة بهذه الحال أو بهذا المرض أو لعلاج ذلك الأثر أو نحو كثير، لكن لا يمكن للناس أن يتطببوا في مريض وليسوا أطباء، ولا يمكن لمريض أن يتلقى من إنسان ليس بطبيب، وإن تحدثوا في ذلك أحاديث جانبية لكن إذا جاء تطبيق لم يأخذوه إلا عن أهله، فكذلك ينبغي أن يكون العلم، والعلم أعظم وأشرف هو علم بالله وعلم بكتاب الله وعلم بسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ألا نستعجل فيه ونتأني حتى نوفق -بإذن الله جل وعلا- للحق والهدى.
هذه الحقيقة مقدمة أراها مهمة وأرانا لابد أن نتكلم بها وأن نستحضرها ما دمنا نعرض لهذه المسائل في كل مسألة تذكر هذه المقدمة، فإنها لا تنفك عنها، فحديثنا حديث مذاكرة، حديث مراجعة، حديث تأسيس، حديث توضيح لبعض ما يحتف بالإنسان في الواقع من مسائل معاصرة لها أصول عند أهل العلم يتمرن ويتدرب في ردها إلى أصولها ولا يزال يكبرها فتكبر بكبره -بإذن الله جل وعلا- حتى يكون أصلًا فيها، يفتي الناس ويعلمهم إذا بلغ في العلم مبلغًا، وإذا أتت ثمار أكلها -بإذن الله جل وعلا- طيبة مباركة على أصل صحيح واستنباط وثيق وعلى استمداد من الكتاب والسنة ومن أقوال سلف الأمة.
في مثل هذه المجالس نحن استعرضنا بعض المسائل من أبواب متفرقة من الفقه، ليتنقل الطالب بين هذه الأبواب وأيضًا لدراسة هذه المسائل التي كثرت الحاجة إليها ونحن في ذلك لا نزعم استقصاءً أو إتيانا على الجميع، ولا يعني أيضًا أن ما أتينا به هو أهم مما أغفلناه، ولا يمنع أيضًا من أن يكون للطلاب مشاركة فيما إذا رأوا أهمية بعض المسائل أن يرسلها إلى الزملاء وأن إذا قدر لذلك -بإذن الله جل وعلا- وقت ومجال أو رُأي استبدال بعض المسائل بما عرض له الطلاب، فإن ذلك مما ينبغي أو مما يمكن عرضه -بإذن الله جل وعلا- في هذه المجالس، خاصة أن الحديث لمجتمعات مختلفة وربما تعرض لبعض الزملاء في مجتمعاتهم ما لم نقف عليه وما لم يكن لنا في بال، فالتواصل بهذا الشأن مما تزكى به المسائل الواقعة وأيضًا تغذى به هذه المجالس -بإذن الله جل وعلا- وتكون نواة لما يدرس أو لما يعرض في هذه المجالس المتتالية بتوفيق الله -جل وعلا- وإعانته.
من المسائل التي عمل عليها الزملاء في اللجنة العلمية في هذه الأكاديمية:
المسألة الأولى: حكم استعمال مياه الصرف الصحي، ومياه الصرف هي المياه التي تكون عقب استعمالات الناس إن كان ذلك في نجاسة أو كان ذلك في أمر مقدور أو غيره، ولما كانت هذه المياه تختلط مع بعض ويكون لها مصب واحد، فمع تطور المدنية والحاجة أيضًا إلى المياه مع قلتها مثلًا في بلدان كثيرة من العالم وتطور التقنية أمكن استصلاحها وتنقيتها مما علق بها، هذه التنقية لها مسلكان.
المسلك الأول: هو تنقيتها مما قد يؤثر على صحة الإنسان ويكون ممرضًا له ولغيره.
والثاني: هل هذه التنقية التي يتعاطاها أهل الاختصاص ترفع هذه المياه من الحكم بنجاستها؟ وهل يمكن استعمالها فيما يستعمل فيه الماء الطهور من رفع الحدث وإزالة النجاسات واستعمالها فيما يكون به التطهير ونحوه وأيضًا استعمالها شربًا وأكلًا وغير ذلك.
فهذه مسألة من المسائل الواقعة وكطريقة في التعقيم والتنقية هي مسائل جديدة، لكن هي لها أصل عند الفقهاء في تطهير المياه المتنجسة، وإنما الخلاف في أن ذلك التطهير كان على سبل معلومة ومعروفة وتقليدية في مثل ما يقال، وهذه أمور فيها شيء من استعمال الماكينة والتقنية الحديثة.
الذي ذكره الفقهاء أنه يمكن أن يطهر الماء بإضافة ماء كثير إليه، فإذا أضيف إليه ماء كثير والمتنجس كثيرٌ، فإنه يطهر إذا زالت النجاسة بأوصافها، وأوصاف النجاسة إما طعم أو لون أو رائحة، فإذا زالت هذه الأوصاف الثلاثة، فبإجماع أهل العلم أنه لا يبقى للنجاسة وجود، فتطهير الماء بالماء هذا ظاهر.
ومثل ذلك أيضًا أن ينزح من الماء الكثير ما وقعت فيه النجاسة حتى يبقى الماء الآخر لم يتغير في طعمه ولا لونه ولا رائحته، هذا أيضًا يحكم بنجاسته عند الحنابلة وجمع من أهل العلم أو جمهور أهل العلم، لكن هل إضافة التراب أو غيره لهذه المياه يمكن أن يعيد طهوريتها واستعمالها؟
هذا أصل هذه المسألة التي نحن بصددها؛ لأن المسألة التي نحن بصددها أن هذه المياه متنجسة يستعمل فيها مراحل يُسمونها الترسيب، ثم التهوية، ثم قتل الجراثيم، ثم التعقيم بأدوات كيميائية وبطرائق معروفة عند أهل الاختصاص.
هذا بالتراب وهذه بالمعقمات، طبعًا الفقهاء لَمَّا لم يقوموا بتنقية المياه بالمكاثرة بالماء وبتنقيتها بالمواد الكيمائية؟ لأن عندهم أن الماء له قوة في دفع النجاسة، وأن ما سواه لا يساويه بقوته في دفع النجاسة، حتى السوائل الأخرى، ولذلك لا يتأتى عادة وإن كان في بعض الأشياء أنه قد يزيل النجاسة مثلًا بالمشروبات الغازية أو نحوها، لأنها في فطرة البشر أن الماء جعلت له من القوة في إزالة النجاسة وروائحها ما لا يجعل لغيرها، هل يمكن أن نقول إن هذه تقع موقع الماء؟ فمن قال من أهل العلم إنه لابد من الماء في إزالة النجاسة يتوقفون في حصول طهورية هذه المياه في هذه المراحل التعقيمية.
وأما من قال: إن الماء يطهر بتغير نجاسته بنفسه أو باستحالة النجاسة، ما معنى الاستحالة؟ الاستحالة مأخوذة من التحول، وهو أن تتحول النجاسة إلى شيء آخر لا يكون نجسًا، كما لو جُعلت فأرة وهي نجسة ميتة في مملحة، الملح عادة أن كل شيء يقع فيه يصير ملحًا، فلو صارت هذه الفأرة ملحًا، بهذا التحول هل تزول نجاستها؟
فالمشهور عند الحنفية -رحمهم الله تعالى- كما هو قول لبعض أهل التحقيق واختاره شيخ الإسلام وغيره أنها تزول، فإذا قلنا: إن التحول مؤثر في طهارة الماء، فمعنى ذلك أن مثل هذه المياه تطهر، ولأجل ذلك لَمَّا بحثها المعاصرون والفقهاء في المجامع الفقهية وهيئة كبار العلما سلكوا بها هذا المسلك، فلما رأوا أن قول جمع من أهل التحقيق في طهارة الماء بتحول النجاسة وتغيرها عن حقيقتها، فخلصوا بذلك إلى القول بطهورية هذا الماء وإن كان استعماله في الطهارة واجتناب النجاسة، وفي ذلك قرارات في المجامع الفقهية المختلفة ويكادون يتتابعون على ذلك.
لا يهمنا الحقيقة النتيجة أنه طهور أو ليس بطهور بقدر ما يهمك أيها الطالب أن تعرف مأخذ هذه المسألة أين؟، الذي درسته في كتاب الطهارة من طرق تطهير المياه هل تنطبق عليه؟ لما لم تنطبق ما يمكن أن يؤخذ وما يمكن أن ينظر، وهذا هو محل البحث في مثل هذه المسألة.
طبعًا يمكن طولنا في أول مسألة مع أننا نحب الحقيقة المسائل تؤخذ بشيء من الاختصار حتى نأتي على الأبواب المختلفة، لكن في البداية عادة أن تكون العقول والفهوم تحتاج إلى شيء من الربط وشيء من البسط والتسهيل حتى نأتي على المراد ونصل إلى ما نريد.
المسألة الثانية التي ذكرها الزملاء: العطور المشتملة على الكحول، الكحول هي كلمة انجليزية وهي مأخوذة من العربية التي هي الغور، فحرفها الانجليز إلى الكحول لأن الكحول مأخوذة مما يحصل به السكر، والسكر يكون به زوال العقل، فهذه الكحول تزيل العقول وتحجب الحجة والعقل.
إذا اشتملت العطور على مثل هذه المواد هل نحكم بأنها مشتملة على خمر؟
إذا قلنا: إنها مشتملة على خمر فيترتب على ذلك مسألتان:
الأولى: أن الخمر نجس، وإذا كان نجسًا فلا يجوز للإنسان أن يتعطر بالنجاسات ويتلبس بها؛ لأنها تعكير وتكدير وليست بروائح زكية في مثل تلك الحال.
والثاني: أن الخمر مطلوب اجتنابه ومطلوب إراقته، ومطلوب إزالته، فإذا كان كذلك فكيف يترك؟
فهذه الحقيقة من المسائل التي جَدَّ فيها الكلام بناءً على اشتمالها على هذه المادة، يقولون إنها تعطي ثبات وتعطي فوحان، فلأجل ذلك لا ينفك صانع العطور من استعمالها.
فنقول أولًا في قول أكثر أهل العلم بل هو قول عامتهم: إن الخمر نجسة، لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام: 145]، فبناءً على ذلك هي نجس، فيأتي الإشكال من كونها نجسة وكونها موجودة في هذه العطور.
هل يجوز أن ينشرها الإنسان على نفسه ثم يشتريها يتاجر بها، ذلك متفرع على قولنا من أنها نجس.
الثاني: الاجتناب والأمر بالإراقة، فالبنظر حقيقة إلى هذا، فإن من أهل العلم لما تقرر أنها مشتملة على ذلك حكم بنجاستها واجتناب هذه العطور وعدم تداولها وعدم جواز بذل المال فيها إلى غير ذلك من أشياء كثيرة، ومن أهل العلم من سلك مسلكًا آخر، طبعًا القول بطهارتها هذا مع كونه قولًا لبعض المعاصرين لكنه قول بعيد، وليس معتبر عند أكثر أهل العلم، لكن ثم مسلك آخر في هذه العطور، وهو أن هذه العطور وإن اشتملت على الكحول لكنها قد تحولت واستحالت من حقيقتها، ولأجل ذلك حتى عند أهل صناعتها سواءً في الغرب الذين هم مصدر أكثر هذه العطور وأكثرها أو ما آلت إليه من انتشارها حول العالم، فإنهم يضيفون إلى مادة الكحول مادة أخرى تختفي بها مادة الكحول، لأن ليس من أجل أمر شرعي، لكن لأن عندهم ضرائب على الكحول وتداولها، فلأن لا تدخل في هذا المسار يضيفون لها المادة فتكون..
فإذا قلنا: إنها تحولت وأن تحولها لا يبقي أنها مسكرة ولا يمكن لأي أحد أن يتعاطاها للإسكار، بل هي قاتلة عند كثير من الأمور، وبناءً على ذلك نقول إنها متحولة وما دام أنها يمكن الحكم على قول الحنفية وقول بعض أهل التحقيق أنه يطهر الشيء بالاستحالة، فمعنى ذلك أنه يمكن القول بطهارتها، فبناءً على ذلك لا شيء فيها، هذا من حيث الأصل العموم، لكن يا إخوة هذه مسائل مشكلة، لماذا؟ لأن العطور لا حد لها، يمكن يأتي لنا عطر ما تحول، يعني يمكن أن طريقة تكوينه وتركيبه عند هذا المصنع أبقته على مادته وطريقته الأصلية، فلو خفف شرب معه بعض جعل إلى ما يمكن أن يكون مسكرًا ونحو ذلك، لكن نحن نتحدث على من حيث الأصل، من حيث الأصل أن أكثر هذه العطور قد تحولت ولا يمكن استعمالها وربما يتعدى حتى إعادتها إلى كونها مسكرة بعد أن أضيفت إليها هذه التركيبات الكيميائية سواءً التي تخرجها من مادة الكحول أو التي أيضًا تضيف إليها الرائحة الزكية وغير ذلك، فتمنع ذلك.
فبناءً على هذا قال من قال من أهل العلم بجواز تعاطيها واستعمالها وأيضًا ما يتبع ذلك من البيع والشراء والإتجار بها، هذه المسألة مثل ما قلنا لها جانبان حكم، وهذا الحكم ليس هو الذي نريد أن نصل إليه هو يؤخذ من أهل العلم والفتوى، لكن الذي يهمني في مثل هذا المجلس أن تعرف أصل هذه المسألة ومأخذها عند أهل العلم والفقهاء السابقين.
مسألة مهمة راجعة إلى التأصيل السابق: هي أن تعلم أيها الطالب أنك في وقت التعلم لهذه المسائل يمكن أن تتمرن وأن تتدرب وأن لا تقطع، إذا احتجت إليها فلازم أن تعرف الحكم فيها، إذا احتجت إليها وتعمل لا تعمل بما وصلت إليه، وإنما ثم حال منفكة عن هذه الحال، حال تعلمك مسار وحال استعمالك مسار آخر، فيجب عليك استفتاء من هو من أهل العلم وتحصل عندك الثقة بعلمه وأمانته وديانته، فتأخذ به في هذه المسألة التي أحتجت إليها، إلا أن يكون الطالب قد قطع في العلم طريقًا ووصل إلى أن يكون ممن يعتمد عليه، فيأخذ أو يكون من أهل العلم فله أن يختار في نفسه، وهذه المسالك يبحثها أهل الأصول وينظر فيها أهل العلم.
هذه يعني الحقيقة إطلالة يسيرة في مقدمة هذه اللقاءات، لعلنا -بإذن الله جل وعلا- نكون في المجالس القادمة أسرع في عرض هذه المسائل والله أسأل لي ولكم التوفيق والسداد والهداية والإعانة وألا يخذلنا وأن يجعلنا من أهل العلم الذين أخذوه على وجهه وسلكوا به مسلكًا ولم يحيفوا أو ينحرفوا أو يضلوا أو يضلوا، إن ربنا جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك