الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

4934 6
الدرس الخامس

مسائل فقهية معاصرة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمدُ لله أفضل ما ينبغي أن يُحمَدُ، وصلَّى الله وسلم على أفضلِ المصطفين محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن تعبَّد.
أما بعدُ، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم ممَّن أُعطيَ فشكر، وممَّن أذنبَ فاستغفر، وممَّن نسيَ فتذكر، وأن يجعلنا من عباده الصالحين وأوليائه المتقين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا أجمعين.
أيُّها الإخوة طلَّاب العلم وطالباته؛ في مجلسٍ من هذه المجالس المباركة نتدارس وإيَّاكم هذه المسائل، ونتعارض الحديث فيها، واللهَ نسألُ أن يُلهمنا الصَّوابَ، وأن يوفقنا للحق، وأن يفتح فهومنا، وأن يزيد من فقهنا، وأن يعفو عنَّ التقصير والخلل، وأن يُجنِّبنا البلاء والزلل، وأن يجعلنا ممَّن تفقَّه ففُقَه، وعمل فأحسن وأصاب، وألا يجعلنا ممَّن خُذِلَ فضلَّ فزاغَ عن الهدى والصواب.
كنَّا في المجلس الماضي ابتدأ مسائل تتعلق بكتاب الزَّكاة، وذكرنا أول مسألة من تلك المسائل، وهي مسألة حساب الزَّكاة في الرواتب المستفادة، وهذه مسألة -كما تقدمت الإشارة إليها- أنَّ فيها نوعُ صعوبةٌ ووُعورة من جهة أن حساب الأموال كلٌّ على حدة، بمعنى أنَّ كل مالٍ مستفاد لا ارتباط له بالذي قبله، فبناء على ذلك يستوجب نصابًا جديدًا وحولًا جديدًا، فقد يتعذَّر في كل ما يجتمع للإنسان من مالٍ من راتبه، أو مما يعمل عليه ببدنه، أو مما يفد إليه من هديةٍ أو هبة أن يحسبه بدقَّةٍ، وأن يضبطه مع ما يعرض لهذه الأموال من نفقات، ومع ما يستجد لها من اعتبارات، فكان الأمر مشكلًا من جهة أن ضبط حولها مع ضبط نصابها فيه شيءٌ من الدقة، ويحتاجُ إلى حسابات ومتابعة دقيقة قد يشق ذلك على عموم الناس، وغلا فهذا هو الأصل وهو المعتبر، وهو الذي يكون به كمال سلامة الذِّمَّة والخلوص من التَّبعة.
لكن ذكر الفقهاء تسهيلًا على الناس وتقريبًا لهم ما ذكرناه سابقًا، من أنه يُمكن أن يُعتبرَ يومٌ واحدٌ في السنة في أول ما يكتمل به النصاب ويدور عليه الحول، فيُزكَّى، وما اجتمع بعد ذلك، فيكون الذي زُكِّيَ مما لمْ يدُرْ حوله ممَّا تُقدِّم وتُعجِّلَ به في الزَّكاة، وذلك أمرٌ جائزٌ ومشروعٌ عند الحاجة إلى ذلك، وإن كان هو خلاف الأولى -كما نص على ذلك الفقهاء رحمهم الله.
ذكرنا أنه مما يتفرع على هذه المسألة مسألةٌ أخرى، وهي مسألةٌ متعلقةٌ بالحساب الجاري، فالحساب الجاري نحوًا مما ذكرنا فيما يتعلق بالراتب، من جهة أنَّ هذا الحساب الجاري هو بمثابة المحفظة للإنسان، وتعرفون فيما مضي أن الإنسان كان يحفظ ماله هذا في صرة، وهذا في ربطة، وهذا في جهة، فيعرف هذه الأموال ويُمكنه أن يُمايز بينها، وإذا أخذ من هذا عرف ممَّ نقصَ وعرف ممَّ بقي، لكن في الحساب الجاري يدخل ستة آلاف ريال، ثم يدخل بعده أقل أو أكثر، ثم يُنفق منهما، فلا يدري هل حصلت النفقة من المتأخر أو من المتقدم، لأنه ليس بثابت، وإنما هو حساب رقمي موجود لدى المصرف، وهم أيضًا ربما قلَّبوه، وربما تصرَّفوا فيه، فهو متعلقٌ بذممهم.
وبناء على ذلك يرد في مثل هذه الحال ما يرد في نحو مسألتنا في زكاة الرواتب من جهةِ أنه يشقُّ حساب الزَّكاة لكل مالٍ وردَ على هذا الحساب الجاري، ما دام أنَّ هذا الحساب الجاري إنما هو أموال تُودَع فيه، أما إذا كان متعلقًا بترخيص جارٍ وترد فيه لأموال وتخرج للتجارة ثم تعود، فهذا من تقليب الأموال في التجارة، فحوله واحد، وما يستجدُّ عليه تبعٌ له، فلا يكون في ذلك إشكال، لكن الحسابات الجارية التي تتعلق غالبًا بالأشخاص وحاجاتهم الفعليَّة اليوميَّة هو الذي يرد في هذا الكلام غالبًا.
على كل حال؛ أيَّ حساب ورد على هذا النحو مما يدخل فيه بعض المدخرات التي لا تعلق لبعضها ببعض بأن لا تكون نماء ربحها ولا حولها حول أصلها -كما تقدم- فيرد فيه ما يرد في زكاة الرواتب -على ما تقدَّم ذكره.
فبناءً على ذلك: إما أن يكون الإنسان على دقَّةٍ واضحةٍ بحيث يكون عنده ورقة، فإذا أدخل في اليوم الفلاني كتب ذلك ودوَّنه، ثم إذا أضاف إليه شيئًا كتب إلى ذلك ووضَّحه، ثم إذا أنفق كتب الوقت الذي أنفقه، ومما قصدَ الإخراج فعند ذلك يكون على حسب ما دوَّن وبيَّن ووضَّح، ويُخرج الزَّكاة في حينها لكل مالٍ وردَ، ولكل مالٍ اكتمل نصابه وحوله على حدة.
أما إذا لم يُمكنه -وهذا هو غالب حال الناس إن لم يكن الحال الأولى متعسرة أو نادرة الوقوع- فإنه يُجعل لها ما يُجعل لزكاة الرواتب من أن يخصها بيوم هو أول مالٍ وجبت فيه الزَّكاة بأن بلغت النصاب وحال عليه الحول، ثم يُزكي ما دخل في هذا الحساب مما حال عليه الحول، وما لم يحل عليه الحول يدخل فيما ذكرناه من أنه زكاة معجَّلةٌ -بإذن الله جل وعلا.
وينبغي للإنسان في مثل هذه الأحوال أن يتوقَّى ويحتاط، فإذا ظنَّ أنه قد يرد مالٌ أكثر، أو قد يكون ما تجب فيه الزَّكاة أوفر؛ فيزيد ما تبرأ به الذِّمة، ويخلص بذلك من التبعة، ويكون ذلك من مكملات الزَّكاة، فإن كانت الزَّكاة كاملة كان ذلك من الصدقة المستحبَّة المكمِّلة لما وجبَ، فيُؤجر عند الله -جَلَّ وَعَلَا- أجر الصدقة الواجبة والمستحبة.
هذه المسألة على نحو ما ذكرنا في المجلس الماضي وأتممناها هنا، وهي تشمل المسألتين جميعًا.
بعد ذلك نأتي إلى مسألةٍ من المسائل المهمَّة للغاية، وتمسُّ الحاجة إلى بحثها، ولا تنفك من وجود إشكالٍ دقيقٍ، وتحتاج إلى فهمٍ وتفحُّصٍ ونظرٍ يليق بطالب العلم، وتقوى معه ملكته، ويرجع إلى أصول المسائل التي دوَّنها الفقهاء وبحثوها، وهي: زكاة الأوراق النقدية.
هذه الأوراق النقديَّة لا نقول من أنها موجودة فيما مضى، ولا نقول إنها مستحدثة من كل وجه، ولكنها أموال تطوَّرت وتركَّبت من حالين:
الحال الأولى: هي حالٌ من قديم الزمان وتليده، وهي موجودة بوجود الإنسان، وهي اعتبار الذهب والفضة أثمانًا للأشياء وقيمًا لها، وهذا وُجد من القرون المتقدِّمة كثيرًا عند أهل الإسلام وغيرهم، وضربوا لذلك الدنانير والدراهم، وتطورت في مسارٍ واحد.
الحال الثانية: مسار الفلوس، وهذا مما ضربه الولاة والسلاطين من غير الذهب والفضة، سواء من النحاس أو الحديد أو ما شابه ذلك، وجعلوا له قوة يتعامل الناس بها، أيضًا تكون في قِيَم الأمور وأثمانها.
يُلاحظ هنا: أن هذا المسار وُجد مع هذا المسار، وعَمِلا على حدٍّ سواء، يستعملون هذا ويستعملون ذاك، لكن على مرِّ التأريخ كان الذهب والفضة أقوى وأوثق وأكثر ولا يتباين فيه الناس مهما اختلفت حضاراتهم أو دولهم أو غير ذلك.
أما الفلوس فكان فيها:
- اختلاف، فتُضرَب سِكَّةٌ لهذه الفلوس ثم تنتهي، ثم تُضرَب سِكَّة أخرى، فلا يعود الناس إلى التعامل بالأولى، فلم تكن عندهم من الثِّقة بها ما وُجدَ في الثِّقةِ بالذهب والفضة، فكان يُوجد عليها شيءٌ من التَّغيُّرات.
- هذه الفلوس كان الناس في الغالب إنما يعتمدون عليها في الأشياء الصغيرة اليسيرة، كشراء حاجياتهم، وما يحتاجون إليه من طعام وشراب ونحو ذلك، وقلَّ أن تستعمل في الأمور العظيمة كشراء البيوتات والمزارع وما شابه ذلك، بل كانت تلك في الغالب أنها مخصوصة بالدراهم والدنانير التي هي من الذهب والفضة، فكانت محل ثقةٍ من الناس واعتبارهم.
استمرَّت هذه باستمرار الحضارات والأمم على اختلافها، تتنوَّع وتتجدد ويثق بها الناس، وكما قلنا إنه يوجد هذان المساران بإزاء بعض، لكلٍّ مساره واعتباره، فكان تداول الفلوس أكثر من جهة عامَّة الناس ودهمائهم، أما الذهب والفضة فكان أقل، ولكن الثقة به أكثر.
إلى أن جاء العصر الحديث قبل عشرات السنين تقارب القرن ونحوه فوجدت الأوراق النقدية، والأوراق النقدية مركبةٌ من الحالين جميعًا، فلا هي فلوس تأخذ أحكام الفلوس التي ذكرها الفقهاء، ولا هي ذهبٌ وفضَّة في كل الأحوال حتى تأخذ أحكام الذهب والفضة، وإن شئم قولوا إنها ملفَّقة، أو أنها مركَّبة، أو أنها خنثى بين الذكر والأنثى -بين الفلوس والذهب والفضة- فالذهب والفضة ذكور في باب الأموال والأثمان والفلوس دون ذلك.
هذه الأوراق بين الفلوس وبين الذهب والفضة، لأنَّ أول حصول هذه الأوراق وتعاطي الناس لها كان يقابل ذلك ما يكون من الذهب والفضة، فكانت نسخةً من الذهب والفضة، وردجَ الناس على ذلك، فضُمَّ إليها بعض المعادن الثَّمينة، ثم تطوَّرت هذه العملة إلى أن صار ضربها وطبعها يُقابل مجموعة أشياء لدى كل بلدٍ ودولة ممَّا يكون في مخزونها من الذهب والفضَّة ما يكون من القوة الاقتصادية، وما يكون من المواد الخام لدى البلد، وما يجتمع إليها من جملةِ أشياءٍ كثيرةٍ، وتتحكَّم في ذلك جهات ذات حوكمة عالية في البنوك المركزيَّة ومؤسسات النقد، وما يشبه ذلك، ولها عمليات معقَّدة في حسابها وضبطها لئلا تكون مضرة بالناس في لتَّضخُّم، ولئلا تنقص عن حاجة الناس في الاستعمال والتبادل.
إذًا؛ هنا لم يعُد مقياسها أو معيارها واضحًا، فلا هي فلوسٌ تأخذ أحكام الفلوس في كونها عروض تجارة -كما ذكر ذلك جمعٌ من الفقهاء- ولا هي ذهبٌ وفضَّةٌ خالصةٌ فيكون اعتبارها بالذهب والفضة، ولذلك اختلف المعاصرون فيها اختلافًا كثيرًا، لكن ومما لحظته في تتبع لا أقول إنه مستقصيًا، لكنه أتى على جملةٍ ممن طرح هذه المسألة، فإنهم لم ينصُّوا على ما تشتمل عليه هذه الأوراق من الذهب والفضة، فلأجل ذلك هم في الغالب نقلوه إلى الفلوس، ثم أعطوه قوَّةً من جهة المعنى في كونه مماثل لقوَّة الأثمان أو الذهب والفضة لثقة الناس بها كثقة الذهب والفضة، ولكثرة تعاطيها أكثر من تعاطي الذهب والفضة، فبناء على ذلك أخرجوها عن الفلوس، ولم يُدخلوها في الذهب والفضة.
والذي نقوله هنا وبالتتبع الدقيق: إنه حتى عند الدول العظمى التي كان لها قوَّة استقرارٍ في اقتصادها، حتى إنها تطبع هذه الأوراق منفكَّةً عمَّا يُقابلها أو وجود رصيد لها لدى البنوك المركزيَّة أنها لم تنفك من وجود ذهبٍ وفضَّة.
إذًا؛ هذه الأوراق النقدية في بعض الدول ضعيفة الاقتصاد تجد المقابل لها من الذهب والفضة ترقى إلى درجات كبيرة، ثم تتناقص في الدول العظمى والدول ذات السيادة والدول ذات الاقتصاديات القويَّة، فتنقص ما يقابلها من الذهب والفضة، لكن لم نجد دولةً من الدول لا العظمى ولا سواها يُمكن أن تذهب إلى الطباعة بدون أن يكون مخزونًا من الذهب والفضة، ولذلك في كل وقت نجد أن هذه الدول العظمى وسواها تصرح بمخزوناتها من الذهب والفضة، وأيضًا يوجد هناك جهات تتابع المخزونات، وتصدر قوائم سنويَّة وربع سنويَّة بهذه الموجودات.
فبناء على ذلك نقول: هذه الأوراق بعضها ذهب وفضَّة، والحقيقة أن فيه نوعُ جهالةٍ في قدر ما يُقابلها، لأنها في بعض الدول أكثر من بعض، ثم إنَّ الدولة الواحدة يتراوح ويتفاوت وجود الذهب والفضة فيها ووجود الوراق، فإذا طبعوا تلك السنة أكثر وعندهم ما يقابلها من غير الذهب والفضة أشياء؛ وهذه الورقة لها مقابل، جزء ذهب وفضة، وجزء من قوة الاقتصاد، جزء من مواد خام؛ هذه الأجزاء تتفاوت، فبناء على ذلك يحصل الإشكال.
نقول بناء على ذلك: إن هذه المسألة معقدة بالمرة، ولكن فيما ذهب إليه المعاصرون وهو له أصل جيد يمتد ويطَّرد في باب الربا، وهو إذا ما قلنا من أن العلة في الذهب والفضَّة هي الثَّمنيَّة الغالبة فإنها ستمتدُّ هذه العلة لتشمل الأوراق النقديَّة، وإن كان هذا القول ليس هو القول الأشهر عند الفقهاء، لكنه لا ينفك من الحاجة إلى القول بذلك، لأسباب:
أولًا: لما وصلت إليه هذه الأوراق من الثقة والتعاطي والاستعمال وغيره، حتى إنه -ولا شك- تلاشت استعمالات الذهب والفضة في كثير من تعاطيات الناس بقوَّة لهذه الأوراق حتى وصل الحد إلى أن بعض الناس ربما تعطيه ذهب وفضة فيقول: لا، أعطني أوراقًا نقدية، ريال أو دولار أو يورو أو سواه.
ثانيًا: قياس الأوراق النقدية في البنوك المركزيَّة وبورصات الأعمال وغيرها تكون أكثر استعمالًا وتداولًا ونحوه من الذهب والفضة، فتعاطي الناس لها صارَ أكثر، والثقة بها كانت آكد، حتَّى تحجَّم الذهب والفضة إلى الاستعمالات في الحلي والصاغة ونحوها، وفي المخزونات الحكوميَّة وشبهها للأثرياء ورجال الأعمال، وتقل الاستعمالات كأثمان عند عموم الناس، أو لا يكاد يوجد.
إذًا؛ إذا قلنا من أن العلة من الذهب والفضة في باب الربا الثَّمنيَّة الغالبة، فتنجر إلى الريالات والدولارات واليورو ونحوها، فبناء على ذلك: فالثَّمنيَّة الموجودة في الذهب والفضة تعلق بها الربا كتعلقه بالذهب والفضة، وتعلق بها أحكام الزَّكاة ونحوها.
وأيضًا لأن هذه الأوراق لا تنفك من وجود ذهب وفضة تقابلها.
ثالثًا: أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- في آياتٍ كثيرة نصَّ على الأموال، وهي مالٌ، وأعظم الأموال وأزكاها، ولذلك يتفاخر الناس بهذه الأوراق وكثرتها عندهم أكثر من تفاخرهم بموجداتهم من ذهب وفضة وما يُقاربها، يقول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 103]، فهي داخلةٌ في مسمَّى الأموال التي أمر بأخذ الزَّكاة منها، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34]، هي أيضًا جزءٌ منها ذهبٌ وفضَّة، فكانت داخلةٌ في ذلك، وأيضًا لا يُمكن تسويتها بالفلوس لضعف الفلوس وعدم ثقة الناس بها على مرِّ التأريخ والقرون المتعددة إلا في الأشياء التافهة واليسيرة وما شابهها، ويقل تعاطيها في الأمور الكبيرة بخلاف هذه الأموال، فكان اعتبارها بالذهب والفضة آكد وأدق.
وعلى هذا عامَّة الفقهاء المعاصرين، وأيضًا المجامع الفقهيَّة في هيئة كبار العلماء والمجمع الفقهي وسواه، ولأننا لو قلنا بسوى ذلك لأفضى إلى أن لا تجب الزَّكاة على أهل التجارات والأموال، لأن غالب أموالهم من هذه الأوراق وليست من الذهب والفضة، فلا تكاد تجب عليهم الزَّكاة غلا إذا كانوا يتخذونها للتجارة، مع انهم ربما توجد عندهم ملايين الأموال وثروات طائلة هي مدَّخرةٌ في البنوك ومستعملةٌ على حينِ أنها ليست مما اتُّخذت للتجارة، فلو قيل بذلك لأفضى إلى فوات مقصود الشَّرع بتحصيل الزكوات من أموال أهل الأموال والتجارات والإفادة منه للأصناف الثمانية من الفقراء والمساكين، ومَن في حكمهم في باب الزَّكاة.
ومما قيل في بعض تعليلات أهل التعليل: أن زكاة الأوراق النقدية هو قائمٌ بذاته مستقل، لا يرجع إلى الذهب والفضة ولا إلى الفلوس النافقة.
وهذا القول فيه ضعفٌ ظاهر، من جهة أنه لا يُمكن إخراجه من الذهب والفضة ومن الفلوس وجعله أصل، فإذا قلنا إنه أصل فإلى أي شيءٍ يرجع ذلك الأصل، فإذا أرجعته إلى كونه مالًا فأنت إذًا أرجعته إلى الذهب والفضة بشرط أن تكون العلَّة التي ذكرنها، أما أن تكون هو أصله بذاته ثم تقول تجب فيه الزَّكاة ويقع فيه الربا بدون أن يمتد إلى ما دل الشرع على اطراد علَّة فيه تتعلق به سائر الأحكام؛ لم يكن ذلك وجيهًا، ولم يكن القول بذلك دقيقًا، ولأجل ذلك كان القول بأنها مركَّبةٌ من الذهب والفضَّة ومن الفلوس النافقة التي اعتادها الفقهاء، فتتجاذبها الأحكام من هنا ومن هنا، ولكن -كما قلنا- إنه لما كان يُقابلها ذهب وفضة، ولما كانت الثَّمنيَّة فيها ظاهرة وثقة الناس بها غالبة، وغلبت الذهب والفضة في كونها أثمانَ الأشياء، وفي تعاطي الناس لها، وفي تداولها؛ فبلا شك أن إلحاق الحكم هنا أولى وأتم، وهذا مما حفظناه من بعض مشايخنا الذين كانوا على مذهب فقهاء الشافعيَّة، وقالوا: إن الثَّمنيَّة قاصرة -يعني متعلقة بالذهب والفضة-، فقالوا: إنَّ مَن علل بذلك لم يكن ليتصوَّر أن توجَد أثمانٌ يُمكن أن تبلغ مبلغَ الذهب والفضة في الثقة والقوَّة وتعاطي الناس كما وُجد الآن، وإلا فلو وُجدت لا يُمكن أن يقولوا بقصر الثَّمنية على الذهب والفضَّة، وإخراج هذه الأوراق منها، وذلك ظاهرٌ من خلال تعليلاتهم، ومن خلال الضوابط التي ذكروها، واستنباطاتهم التي عللوا بها كثرًا من الأحكام التي تفرَّعت عن ذلك. فعند ذلك يتبيَّن معنى ما يتعلق بهذه الأوراق والكلام فيها.
وكما قلتُ لكم أولًا أُعيدُه لكم ثانيًا: لا يَعدُ أن يكون مثل هذا الكلام هو نوع تفقٌّهٍ ونظر وإعادة بحث، يُمكن أن يأتي مَن يُكمِّل ذلك، ومَن يعترض على بعضه، ومَن يُرمِّمه، ومَن يُحسِّنه، أو يحصل للمسائل العلمية من نضجٍ وكمالٍ وتمامٍ بتطارُح الآراء فيها، وليس قولي هنا إلا على ما ذكرناه سابقًا من أنَّ الكلام إنَّما هو بحثٌ للمتفقِّه، وردٌّ للفقه إلى أصله، ونظرٌ بما يحتاج إليه المتعلم في واقعه، وكل ذلك يتنامى ويتكامل بمرور الوقت وتمام النظر، وتفحُّص المسائل، ومراجعة مثل هذه المسائل والمدارسة لها.
بعد ذلك ننتقل إلى مسألة هي مسألة جديدة وهي مسألة قديمة، مسألةٌ يتعاطاها الناس في الواقع، وهي موجودةٌ فيما مضى، لكن فيما مضى تكون من جملة أعمال الناس وتعاطيهم، والآن صارت من كيانات الاقتصادات العالميَّة وحركة الأموال، فتوجَّت إليها الدُّول والأفراد والشَّركات والتَّجمُّعات، وصارت محلًّا لقياس أداء الاقتصاد في الدول وفي الجهات، وهي ما يتعلق بالشركات المساهمة والأسهم فيها، وتوزيعها عبر منظومةٍ متَّسعة من الجهات، يدخل في ذلك الجهات الرسميَّة والحكوميَّة، وتدخل في ذلك شركات الأعمال الكبيرة، وتدخل في ذلك قوى الأثرياء ونحوهم، حتى يدخل في ذلك عموم الناس، ومَن لديه مدَّخرات قليلة، كلهم يجتمعون في شركةٍ واحدة، ربما لا يعرف بعضهم بعضًا، لكن هذه الشركات ينظمها نظامٌ، وتحكمها إدارة لها صلاحياتها، ويدخل الناس فيها.
ومن ذلك سُميت "أسهم"، وصارت لها أسواق وبورصات وتعاطيات، ولها حَوْكَمَة عالية من جهة الأداء الإداري والاقتصادي، وما يتبع ذلك من المحاسبات وغيرها، ووجود جهة تخضع هذه الشركات لرقابتها ومحاسبتها والنظر في شفافيتها وما يتبع ذلك مما يضمن تحصيل المقصود وعدم الافتيات على الناس أو الغش أو الخداع لهم، وما يُكمل ذلك بانتظام هذه الأعمال.
إذًا؛ من دخل في هذه الشركات بأسهم محددة سواء كانت قليلة أو كثيرة. كيف يُزكِّي ماله؟
الأصل أنَّ هذا جزءٌ مشاعٌ مشتركٌ في شركة، فالحكم بالنسبة للزكاة راجعٌ إلى نوع الشركة ونشاطها، فإن كانت هذه الشركة من الشركات التي تنهجُ منهج الأصول والتأجير، فيكون زكاتها زكاة المؤجَّرات، ومن المعلوم أن المؤجَّرَ لا تجب الزَّكاة في أصله، وإنما تجب في ريعه إذا تم له الحول، كما هو قول عموم الفقهاء وأكثرهم من المتقدمين والمتأخرين.
وإما أن تكون تلك الأنشطة لهذه الشركات زراعيَّة، وزكاة الزروع والثمار له ما يحكمه مما ذكره الفقهاء مما يدخل في اسم الزَّكاة، وتلحقه علته، ويتعلق به حكمه، للفقهاء في ذلك تفاصيل محلها باب زكاة الحبوب والثمار.
وربما تكون عروض تجارة، فكذلك تدخل في باب عروض التجارة.
وربما تكون تلك الشركات في الصناعة والمصانع والآلة وغيرها، فتجب في منتوجاتها لا في آلتها وصناعتها، فما يكون من إنشاء المصانع ولو ترتَّبَ عليه مبالغ كبيرة نحوها لا تجب الزَّكاة فيها، كآلة الصباغ ونحوه على ما ذكر الفقهاء أنه لا تجب فيه الزَّكاة، ثم تتعلق الزَّكاة بهذه المنتوجات، سواء كانت سيارات، أو سواها.
إذًا؛ حكم الزَّكاة تبعٌ لهذا الحكم، ومَن ولي هذه الشركات، يجب عليه كما يجب عليه تصريفها والقيام عليها حساب زكاتها وإخراجه، فإذا كانت الشركة تتبع هذا النحو تلتزم هذا المنهج فإذا زكَّت الشركة فهو زكاة لكل أفرادها، لكن بشرط ينبغي التنبيه عليه، وربما يقل التنبيه عليه مع أهميته، والفقهاء الأولون نصُّوا عليه، أنه لابد للمشترك أن ينوي إخراجهم للزكاة على سبيل الوكالة، لأن تعلق الزَّكاة بالشخص تعلُّق تعبُّد، والعبادة لابد لها من نيَّة، والنيَّة إمَّا أن يكون قد أخرجها بنفسه ناويًا، وإمَّا أن يكون قد أخرجها موكَّلًا، فإذا وكَّلَ فقد نوى، فبناء على ذلك لابد أن يستحضر جميع من ينتمي إلى هذه الشَّراكة أن فلانًا يُخرج الزَّكاة، فإذا نوى ذلك وأخرج الوكيل أو المدير أو مَن له الصلاحية أو الإدارة المالية؛ برأت الذِّمَّة، أما إذا لم يُخرجوا فيجب عليكَ إخراجُ ما يُقابل قدر شراكتك، أو أنهم أخرجوا ول لم تكن نويت فإنَّ ذلك تفويتٌ منك، فإذا كانوا لم يُخبروك أو أنت لم تنوِ لتفريطٍ منك في المتابعة وغيرها فيلحق مَن فرَّط، سواء من جهة الإدارة أو من جهة الشريك؛ كلٌّ بحسبه، فمَن فاتَ عليه فيلزمه الإخراج، فإن كان منه التفريط فلا رجوع له على أحد، وإن كان التفريط من غيره فله أن يرجع على مَن فوَّتَ عليه هذه النيَّة أو مَن أخرجَ ماله بغير قصده، فيكون في ذلك هو الفيصل والحاكم لهذه الأمور، فإذا كانت منصوصات الشراكة في أوراقها ونحوه حصول ذلك؛ فذلك كافٍ، ولكن لابدَّ أن يستحضرَ المكلَّف ذلك، فإذا كان يُوقِّع وهو ما يدري فيُخشَى أنه لا يتأتى له حصول النية وتحقيق القصد فيفوت عليه، فيكون هو المفرط في ذلك.
الحال الثاني: وهي الحال التي تكون فيها هذه الشركات لها مجال عمل وتوجُّه سواء كان صناعيًّا أو كان زراعيًّا أو كان في بهيمة الأنعام أو نحوها من الأعمال، ثم أريد إخراج الزَّكاة، وهذا الذي دخل لم يكن ليقصد في دخوله الاستثمار في مدَّة طويلة، وتقبُّل العوائد التي تكون موزَّعة على الشركاء بحسب حصصهم ونصيبهم، وإنما دخل وشرى هذه الأسهم التي ستباع، ثم أراد أن يعرضها بعد ذلك ويبيعها، فهو اشترى بقصد عروض التجارة، فالشركة من جهة قيامها وأصلها لها اعتبار في وجوب الزَّكاة، وهذا من جهة استثماره وطريقةُ شرائه وبيعه له مسلك آخر.
فهنا عند المتقدمين خلاف: هل تجب عليه الزَّكاة الأصلية التي وجبت في أصل المال؟ أو يتعلق به حكم زكاة أخرى وهي عروض التجارة؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- أن الأحظَّ الأتمَّ للفقراء أن هذا الشخص التي تنازعته جهتان: جهة بيع وشراء وعروض تجارة فتجب عليه زكاة عروض التجارة، وجهة زكاة حبوب الثمار أو بهيمة الأنعام؛ فبناءً على ذلك يُنظر إلى الأحظِّ للفقراء فتكون زكاة عروض التجارة، لأنها 2.5 % فتكون أبلغ وانفع، فبناء على ذلك تجب عليه في مثل تلك الحال.
وبناء على ذلك: مَن كان يجمع إلى محفظته بعض هذه الأسهم، ثم يُعيد بيعها غذا ارتفعت؛ فتتعلق به زكاة عروض التجارة في الأصح من قولي أهل العلم، وعلى ذلك فتوى كثير من المعاصرين، فيلحقه بذلك هذا الحكم.
وهذا مناسبٌ في مثل هذا، وفيه تحصيل لبركة ذلك المال، قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾، فهذا ممن تعاطى هذه الأموال ونمَّاها، وله عوائد منها، فيدخل في عروض التجارة، فكما لو دخل إلى السوق فاشترى هذه السيارات، ثم أعاد بيعها، أو اشترى هذه الحقائب ثم تربَّصَ الربح فيها؛ فكما أنها تجب في ذلك، فمشتري الأسهم بنحو هذا وزيادة، فلا أقل من أن تجب فيه الزَّكاة كما تجب على مَن يدخل الأسواق ويشتري فيها، ثم يُعيدُ بيعها ويُدريها ويعرضها على ما ذكر الفقهاء من حديث سمُرَة وفيما ذكره عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرفوعًا: "كنا نخرج الزَّكاة مما نعده للبيع"، فهذا مما يُعد للبيع، فيدخل فيه حكمُ الزَّكاة في تلك الحال.
ثَمَّ مسألةٌ من المسائل المهمَّة، وبحسب ما تتبعته وربما يكون التتبع مني قاصرًا في الواقع وليس في أصل المسألة أنَّ بحثه قليل، وأنَّ النَّظر فيه لم توجَّه على وجه التدقيق والتركيز، وهو حقيقٌ بالاعتبار، ومن هذا المنطلق ومن هذا المكان لعلَّ طلة العلم يُعيدون البحث في هذه المسألة، ويزيدونها نظرًا وتوضيحًا وتحقيقًا لمناطها، واعتبار ما يليق بها، وهي: زكاة من عليه دين.
زكاة من عليه دينٌ مسألة مبحوثةٌ عند الفقهاء الأولين، ممتدَّة إلى الفقهاء المعاصرين، ولا ينفكُّ كتابٌ في زكاة أو مسألةٌ بُحثت في باب، أو برنامج للفتيا من أن تعرض فيه هذه المسألة ويأتي السؤال عنها، لكن ما الذي يُحتاج إليه؟
جمهور الفقهاء يرون أنَّ من عليه دين، فإنه يُنقص وعاءه الزَّكوي بقدر الدين، ثم يُخرج الزَّكاة مما بقي، فإذا كان عليه خمسمائة ألف وعنده سبعمائة ألف ريال، فيُخرج زكاة مائتين ألف، لأنَّ الخمسمائة ألف كأنه مقابل ذلك الدين، فيكون كأنه لا يملكها.
وهذا على تفاصيل عندهم، هل يُفرَّق بين الأموال الباطنة والأموال الظاهرة أو لا، كما هو عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى.
لكن فقهاء الشافعية يسلكون مسلكًا آخر، وهم يرون أن وجود دينٍ على الإنسان لا يؤثر في لزوم الزَّكاة عليه، ويأتون إلى الأثر: "هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليقضِ دينه، ثم ليؤدِّ زكاته"، يعني: إن قضيتَ الدين قبلُ انتهينا، وإلا ما دام أن عندك مال فعليك زكاته.
وكما قلتُ: إن هذه المسألة من جهة بحث الفقهاء الكلام فيها طويلٌ ومبثوث ومبحوث، ومعروف عند طلبة العلم، لكن ما سبب البحث هنا؟
سبب البحث هنا هو مسألةٌ يجب أن تتنبَّه لها، وهي: أنَّ الديون فيما مضى كان الأصل فيها أنها تكون للمحتاج، فمَن عليه دينٌ فهو محتاج، ومن لا دين عليه فهو غني، وكلما كان الإنسان أكثر ثراءً كان أبعد عن الديون وانشغال الذمم، والعكس بالعكس، كلما كان الإنسان ضعيفًا أو قلَّت حاله احتاج إلى الاستزادة من الشراء على ذمَّته وإشغالها بالقروض والديون والبيوعات المؤجلة وما سواها، لكن الواقع في هذا الزمان وفي حركة الأموال والاقتصاديات أنَّ هذا المعنى انقلب.
فالمعنى الأول: مَن عليه دين فهو محتاج وفقير وليس بغني، فيليق به أن يُقال: لا تجب عليه الزَّكاة، وأن الدين مؤثر في وجوب الزَّكاة. ومَن لا دينَ عليه فهو غني وعنده مال، فتجب عليه الزَّكاة، وهذا لا إشكال فيه.
المعنى الثاني: أن مع هذه البنوك والأعمال ونحوها، صار مَن عنده مال هو الذي تُقدَّم التسهيلات له، ويُقدَّم له التمويل عبر قنوات ومسارات معروفة، بعضها بالمسار الربوي البحت، وبعضها محوَّرة لأن تكون موافقة للأمر الشَّرعي ولا مخالفة فيها، فيشترون له البضائع، ثم يُعيدون بيعها عليه.
إذًا؛ صار الآن أكثر الناس ثراءً ذممهم مشغولة، ولو ذهبتَ إلى مراكز الأعمال والأموال تجد أن أكثر أهل الأموال هم الذين عليهم التزامات وديون وقروض للبنوك، وربنا وصل الأمر ليس فقط ديون للبنوك الداخليَّة؛ بل حتى الخارجيَّة، وصارت البنوك تتقصَّد أصحاب هذه الأموال لما يسموه ببذل التسهيلات وإعطاء فرص للتمويل، فكان هذا أسرع في تجاراتهم وفي تنمية أموالهم.
فالذي حصل أن أصحاب الأموال هؤلاء الذين في أصل الشرع تجب عليهم الزَّكاة صار عليهم الديون، وربما كانت الديون مساوية لهذه الأموال؛ فلم تجب عليهم الزَّكاة مع هذا القول، فلما كان الأمر كذلك صارت المسألة محل إشكال!
- فإما أن يُقال بقول الشافعية، فعند ذلك ينغلق الباب على أصحاب هذه الأموال فلا يجدون مسارًا في التثاقل عن أداء الزَّكاة وبذلها.
- وإما أن يُقال إن الديون مؤثِّرة في الزَّكاة، وأن ذلك متعلقٌ بالديون الحالَّة، فمن كان عليه دين حالُّ يقضي ولا تجب عليه الزَّكاة.
- أو نقول: إن هذا المال بمثابة الذاهب عنه، فلم تجب عليه الزَّكاة إذا سهَّلنا قليلًا.
وإما أن يُقال من أن هؤلاء مجرَّد وجود ديونٍ عليهم لا تجب عليهم الزكوات: فهذا قد يُفضي إلى منع المقصود الأعظم من وجوب الزَّكاة، وهو وجوبها في أموال الأغنياء لتؤدَّى إلى الفقراء، ومَن في حكمهم من الأصناف الثمانية؛ فتقضي حاجتهم ويحصل المقصود الشرعي في مثل هذه المسائل.
إذًا؛ هذه المسألة -كما قلتُ- مما ينبغي زيادة التركيز عليه، وإعادة بحثه وتحريره، ويتفرَّع على ذلك مسائل، سواء كانت الأموال الظاهرة أو الباطنة، وهل تكون مؤثِّرة أو غير مؤثِّرة، الديون الحالَّة من الديون المؤجَّلة، ثم يُمكن أن ينضمَّ إلى ذلك هل تُقابل هذه الديون فقط بالأموال الزَّكويَّة أو بعموم ماله، لأن هذه مسألة دقيقةٌ بالمرة، ونصَّ عليها الفقهاء المتقدِّمين، ولكن على قصدهم فيما مضى أن الدَّين يُنقص الإنسان.
مثلًا: هذا الشخص يكون عنده عشر عمائر معدَّة للإيجار، تساوي مثلًا عشرين مليون، وعنده أموال تُدار للتجارة سواء كانت في عقارات أو في سيارات بمبلغ عشرة ملايين، ثم هو عليه دين للبنك بعشرة ملايين، فهنا الزَّكاة تجب في العشرة ملايين، وعليه دين عشرة ملايين، وعنده عشرين مليون، فمجموع أمواله ثلاثين مليون، فهل نقول إن هذه العشرة تقابَل بالعشرين، فبناء عليه تجب عليه الزَّكاة في العشرة الباقية؟
المتقرر عند الفقهاء أن ما يُقابل الدين هو المال الزَّكوي، فهذا يزيد من الإشكال، وكثير من هؤلاء يوثِّقون ديونهم بأصولهم، ثم تكون عندهم أموال متَّخذة للزَّكوات، فتضيق بذلك عند أهل التجارات وجوب الزَّكاة فيها.
فبناء على هذا جاءت مسألتنا، وهي أنَّ إعادة النظر في الديون التي تكون مانعة من وجوب الزَّكاة محلُّ بحثٍ ونظر، وما ذكرناه لكم هو أصل يُمكن أن يعتمد عليه المتفقِّه في زيادة البحث والنظر، وفي إعادة هذه المسائل، والتَّمحيص فيها، وما يدرسه في كتب الفقهاء، ثم النظر فيما يُقابلها في الواقع ليس على سبيل التقرير ولا على سبيل القطع ولا على سبيل الإفتاء، فليس هذا موضع إفتاء، ولستُ من أهل الفتيا، لكن مجال للبحث والمدارسة والمراجعة، وذلك حقيقٌ بنا لتحصيل المقصود الشرعي من وجوب الزَّكاة.
ومما وقفتُ عليه من أقوال بعض مشايخنا المعاصرين على سبيل المثال الشيخ صالح الفوزان مع كون المذهب عند الحنابلة أن الديون تمنع وجوب الزَّكاة في الأموال، إلا في نحو هذه المسائل قال بوجوب الزَّكاة اعتبارًا بهذا النظر، ولاختلاف الحقيقة، فإن الزكوات لا تجب على المساكين، لكنها تجب على أهل الأموال، وهذا من أهل الأموال، ولئلا يُمكن أن نأتي فنقول: إن هذا الدين مانع لوجوب الزَّكاة عليه.
أسأل الله أن يُتمَّ علينا وعليكم التوفيق، وأن يزيدنا من الفقه، وأن يبلغنا الخير والهدى.
وأذكركم بما ابتدأناه في مثل هذه المجالس: أن الفقه صعب، وأن العلم ليس باليسير، وأذكر أن شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ- جاءه سائل يسأله عن مسألة، فكأن الشيخ كان مشغولًا، فقال: يا شيخ مسألةٌ بسيطة. فقال الشيخ: يا ولدي ما في العلم بسيط.
فمهما قلتَ وإذا ما نظرتَ وجدتَّ في العلم صعوبة، قال تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 35]، فعسى الله أن يجعلنا ممن تلقى العلم ووفق له وهدي إليه، لا تُؤْتَ هذه المسائل بمحض النظر وقوَّة الذهن، ولا تُعطَى بالحفظ وإدامة النظر، ولكنها تُعطَى بهذين مع ما ينضم إليهما من صلاح المرء وطلبه لمرضاة ربه، وحسنِ قصده، وإخلاصه في عمله، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا ممن وُفِّقَ للإخلاص، وأُعينَ عليه، وأن لا يخذلنا وأن لا يصرفنا في قليل ولا في كثير، وأن يجعلنا في الإخلاص في الخلوة وفي الجلوة وفي عمل الإنسان في نفسه، وأمام الناس وفي كل أحواله، وأن يُتمَّ علينا الهدى، وأن يغفر لنا الزلل، وأن يوفقنا وغيَّاكم لصالح القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ويتجدَّد اللقاء بكم في حلقة قادمة بإذن الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك