الدرس السادس
فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن تركي الخثلان
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم -أيُّها المشاهدون الكرام- في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء
العلمي".
نسعدُ وإيَّاكم باستكمال درسنا الأسبوعي في تفسير آيات الأحكام، مع فضيلة الشيخ
الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعيَّة الفقهيَّة
السعوديَّة، وأستاذ الفقه بكليَّة الشَّريعة بجامعة الإمام، باسمي وباسمكم جميعًا
-أيُّها المشاهدون- نرحب بفضيلة الشيخ، فمرحبًا بكم يا فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا، حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{كنَّا قد وصلنا إلى قول الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ
أَذًى﴾، تحدَّث الله -عَزَّ وَجَلَّ- في هذه الآية إلى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ
عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ عن أحكام الحيض وأحكام
الإيلاء، نستأذنكم فضيلة في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود -بإذن الله- لاستكمال
الشَّرح والتَّعليق.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)﴾.
تفضَّل يا شيخنا بالشَّرحِ والتَّعليق}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه،
ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فهذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ
أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾.
فقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾، يدلُّ على أنَّ سؤالًا أتى للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وذلك لأنَّ اليهود كانوا إذا حاضت عندهم المرأة لم يُؤاكلوها ولم
يُشاربوها ولم يُجامعوها، وعزلوها في مكانٍ، فسأل بعضُ الصحابة النبيَّ -عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عن فعل اليهود هذا؛ هل هو صحيح أو ليس بصحيح؟ وكيف يكون
التَّعامل مع المرأة الحائض؟ فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه الآية:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾.
وهذا يدلُّ على أنَّ الحديث على أحكام الحيض ونحوها لا بأس به ولا يُستحيى منه؛
لأنَّه من شرع الله، ومن دين الله، فالله تعالى تكلَّم في القرآن الكريم عن أحكام
الحيض.
ونجد أنَّ مِنَ النَّاس مَن يعيب على بعض المشايخ وبعض الفقهاء الذين يتكلَّمون عن
أحكام الحيض، والأحكام التفصيليَّة له؛ وهذا الذي يُعبُ هو المعيبُ حقيقةً، فهم
يتكلَّمون عن شرع الله، وكلُّ مَن تكلَّم عن مسألةٍ من مسائل الشَّرع لا يُعاب، ولا
يُقال له كيف تتكلَّم عن أحكام الحيض والنفاس وأنت ترى مآسي المسلمين!
نقول: أحكام الحيض والنِّفاس من شرع الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهل معنى ذلك أنَّ الناس
يُعطِّلون الكلام عن دين الله وعن شرع الله، ويحصرون الكلام على جانب مُعيَّن! هذا
غيرُ صحيح، وطريقة التَّفكير هذه غير سويَّة وغير صحيحة.
وبعضهم ذهب إلى ما هو أسوأ من هذا، فيلمز الفقهاء الذين يتكلَّمون عن أحكام الحيض
والنِّفاس، ويقول: هؤلاء فقهاء الحيض والنِّفاس!
وهذا كلامٌ معيبٌ وغيرُ لائقٍ، فهم يتكلَّمون بما تكلَّم الله به، وما تكلَّم به
رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالله تعالى قال في القرآن:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ﴾،
وذكرَ أحكامه، فليس للإنسان أن يعيبَ الكلام عن هذه الأمور؛ لأن هذه الأمور تحتاج
لها شريحة كبيرة من المجتمعات الإسلامية؛ بل نصف الأمَّة الإسلامية نساء يحتجنَ إلى
بيان هذه الأحكام، فلابدَّ من تبيينها وتوضيحها، والله -سبحانه وتعالى- تولَّى
بنفسه -جلَّ وعلا- بيان هذه الأحكام الدَّقيقة للحيض، فقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾.
وقوله: ﴿عَنِ الْمَحِيضِ﴾، "المحيض" مصدر ميميّ بمعنى: الحيض.
قوله: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾، فالحيض أذى للمرأة، وتتأذَّى به؛ لأنَّه يكون مُؤلِمًا
لها؛ لأن الحيض يكون عندما تنفجر البويضة، فالمرأة يخرج منها كل شهرٍ تقريبًا
بويضة، وهذه البويضة إن لم تُلقَّح تنفجر، فإذا انفجرت خرج منها دم الحيض، والغالب
أنَّه يستمر مُدَّة سبعة أيام، وقد تزيد وقد تنقص، لكن غالب النساء تكون عندهن سبعة
أيام، وهذا الانفجار للبويضة يُؤلم المرأة، وأحيانًا يكون الألم شديدًا عند بعض
النساء، والألم يكون حِسيًّا ويكون أيضًا ألَمًا نفسيًا، وتضطرب الهرمونات لدى
المرأة، وتضطرب نفسيتها، فالمرأة تتأذَّى من الحيض، ولذلك وصفه الله تعالى بالأذى.
ولَمَّا دخل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أم المؤمنين عائشة
-رَضِيَ اللهُ عَنْها- في حجَّة الوداع، وكانت عائشة قد أحرمت بالعمرة تريد
التَّمتُّع، فلما وصلوا إلى مكان يُقال له "سَرِف" دخل عليها النبي -عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وهي تبكي، فقال: «مَا يُبْكِيكِ؟» قُلْتُ: لَوَدِدْتُ
وَاللَّهِ أَنِّي لَمْ أَحُجَّ العَامَ، قَالَ: «لَعَلَّكِ نُفِسْتِ؟»[40]، أي:
حضتِّ. فقالت: نعم، عرف النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هذا، إمَّا أنَّه
وقت عادة عائشة، وإمَّا أنَّ الدورة تأتي إليها مُبكرًا بسبب الإجهاد في السفر،
فقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- جابرًا لخاطرها: «ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ
اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ»، والشيء الذي يشترك الناس فيه تخفُّ مصيبته عليهم، ثم
قال لها -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ ،
غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»، فهذا أمرٌ قدَّره الله
وكتبه على بنات آدم؛ فإن المرأة إذا كانت لا تحيض -أو حتى كانت دورتها غير منتظمة-
لا يُمكن أن تحمل؛ بل لا يُمكن أن تحمل والحيض مُضطرب، ولذلك تجد أنَّ المرأة عندما
تسعى للحمل تسعى لاستقرار دورتها الشهرية وعدم اضطرابها، وإن كان الحيض انقطع عنها
تذهب وتسعى لاستجلابه؛ لأنها لا يُمكن أن تحمل وتُنجب إلَّا إذا أتتها الدورة
الشهرية بصورة منتظمة.
إذًا؛ قول الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾، تعبير دقيقٌ يصف المرأة عندما يأتيها
الحيض، فالمرأة تتأذَّى من ذلك.
فتأمَّل دقَّة التَّعبير في قوله: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾، فهو ليس ضررًا على المرأة،
فهو شيء طبيعي قدَّره الله تعالى على المرأة؛ بل إنَّ المرأة لو ما أتاها الحيض
لعُدَّت غير طبيعية، والآن عندما ينقطع الحيض عن المرأة تذهب للطبيبة وتسأل.
إذًا؛ الحيض ليس ضررًا على المرأة، ولذلك لم يقل الله: "قل هو ضرر"، فهو مجرد أذى،
وهو شيء طبيعي للمرأة، ولكنها تتأذَّى به وتتألَّم منه، وما يُصيبها من الأذى
يُكفِّر الله تعالى عنها به، لقوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا
يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى
وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه»،
فكيف بهذا الأذى الذي يأتي المرأة بسبب الحيض، آلام الحيض، والأذى النفسي الذي
يأتيها؛ فهذا يكون كفارة لها، وهذا مما يجبر خاطر أخواتي النساء، فنقول: لا
تتبرَّمي من هذا؛ لأنَّه شيء قد كتبه الله على بنات آدم، وأنتِ يُكفِّر الله تعالى
عنكِ من سيئاتكِ بهذا الأمر، ولله تعالى الحكمة البالغة.
قال: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ﴾، أمرَ الله تعالى باعتزال النساء، وفسَّر عدم القربان بقوله:
﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، والسُّنَّة دلَّت على أنَّ المقصود بالاعتزال وعدم القربان:
تركُ الوطء، وأنَّ المرأة الحائض يعتزلها زوجها في الوطء فقط، بل له أن يباشرها،
تقول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: "كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ"، فلا بأس أن يستمتع بها
وهي حائض، لكن من غير وطءٍ.
وعلى هذا يُفسَّر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾، أنَّ المقصود بذلك الوطء
وليس المباشرة، بدليل تفسير السنَّة لذلك، فالسُّنَّة مفسِّرَة للقرآن.
وهذا فيه ردٌّ على اليهود الذين كانوا إذا حاضت المرأة كأنَّها مُذنبة، عزلوها ولم
يؤاكلوها ولم يُشاربوها، ولم يقربوها، فيعزلونها في مكانٍ كأنَّها مُجرمة،
ويحتقرونها بهذه الطريقة، فهذا ليس من شريعة الإسلام، فالمرأة مكرَّمة في شريعة
الإسلام، فإذا أتتها الدورة الشهرية يجتنها زوجها ولا تصلي ولا تصوم، وما عدا ذلك
تكون كالطاهرة تمامًا، ولذلك أحيانًا تكون المرأة حائضًا في البيت ولا يعلم أهل
البيت بأنَّها أتتها الدورة الشهرية، فانظر إلى إكرام الشريعة الإسلاميَّة للمرأة،
فهذا فيه ردٌّ على اليهود الذين كانوا يتعاملون من المرأة الحائض بهذه الطريقة.
قال: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، يعني:
ائتوهنَّ في الفرج، وليس في الدُّبُر. ثم ختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.
قال: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، تلاحظ أنَّ
بعض الآيات تنزل في سياق مُعيَّن؛ لأنَّ المسلمين في المدينة كانوا مخالطين لليهود،
وسورة البقرة سورة مدنية، فالمسلمين لَمَّا خالطوا اليهود كانت هناك بعض الاختلافات
بين ما كان معمولًا به عند اليهود وعند المسلمين، فبعض المسلمين يسألون النبي
-عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عن تصرفات اليهود هذه هل هي صحيحة أو غير
صحيحة؟
وذكرنا أنَّ الله تعالى أنزل الآية في الرَّد على اليهود، وأنَّ تصرفهم مع المرأة
الحائض غير صحيح فالمرأة الحائض يُجتنَبُ وطؤها، وما عدا لا ذلك لا تُجتَنَب المرأة
الحائض، وهي كغيرها من النساء، وهي كالمرأة الطاهرة تمامًا.
يقول جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى
الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ
أَحْوَلَ"[41]، فهذا كان اعتقادًا شائعًا عند اليهود، فسألوا النبي -عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عن هذا فأنزل الله الآية: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، يعني أنَّ كلام اليهود غير صحيح، فالمرأة
حرثٌ للرجل، فإذا أتاها من أي جهةٍ فلا بأس.
أيضًا حصلت قصَّة، وذلك أنَّ المهاجرين كان لهم في المعاشرة الزَّوجيَّة طريقة،
ولَمَّا أتوا إلى المدينة كان للأنصار طريقة مختلفة في المعاشرة، تزوَّج مُهاجري
أنصاريَّة، ويبدو أنَّ هذه الأنصارية مُطلقة، وكان لها زوج سابق أنصاري، فأراد هذا
القرشي أن يأتي امرأته الأنصاريَّة بالطريقة التي يأتون بها نساء قريش من الخلف في
القبل، فهي قالت: لا، عندنا في الأنصار يأتوننا من الأمام، فحصل بينهما خلاف وانتشر
الكلام في المدينة؛ فنزلت الآية، فبيَّن الله تعالى أنَّ الأمر واسع، من الأمام أو
من الخلف، المهم أن يكون في القُبُل، ولهذا قال -سبحانه وتعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ
حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾.
وقوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا﴾، أي: موضع حرث، كما تكون الأرض حرثًا
للزِّراعة، فيُلقي الإنسان البذرة في هذه الأرض ويسقيها بالماء فتُنبت، فكذلك أيضًا
الزوج عندما يأتي امرأته يُلقي النُّطفة من المني في هذا الموضع، فتكون في الرَّحم،
وتُلقَّح البويضة بهذه النُّطفة، فيأتي الولد بإذن الله -سبحانه وتعالى- فجعل الله
الزوجة بالنسبة للزوج كالحرث، فالولد -من ابن وبنت- يُخلق من منيٍّ يُمنَى، قال
تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، وسبحان الله! لا
يُمكن للرجل أن يكون قادرًا على الإنجاب إلَّا إذا كان عدد الحيوانات المنوية لا
يقل عن عشرين مليون، وحيوان منوي واحد فقط هو الذي يُلقِّح البويضة، فيحصل الحمل
والإنجاب، وهذا من عظمة الله سبحانه، أمَّا لو قلَّت الحيوانات المنويَّة عن عشرين
مليون فلا يكون المرء قادرًا على الإنجاب.
وانظر إلى دقَّة تعبير القرآن، قال تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾، كأن
الإنسان يُلقي بذرة في المزرعة، أيضًا الحيوان المنوي الذي يخرج من هذا الرجل
ويلتقي بالبويضة فيكون الحمل -بإذن الله عزَّ وَجَلَّ.
قال تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾، يعني: قدِّموا لأنفسكم بالطَّاعات
والأعمال الصَّالحة.
مناسبة ذكرها هنا: أنَّ الله تعالى لَمَّا بيَّنَ للمسلمين كيف تكون المعاشرة
الزَّوجيَّة، وأنَّ الإنسان حرٌّ في الطريقة التي يأتي بها امرأته، المهم أن يكون
في القبُل، أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يُلفت النَّظر إلى أنَّه ينبغي أن لا
يستغرق الإنسان في مُتعة الجسد والملاذ الدُّنيويَّة؛ بل ينبغي أن يحرص على أن
يقدِّم الأعمال الصَّالحة التي تنفعه في الدَّار الآخرة، فكأن الله تعالى يقول:
فأتوا حرثكم أنى شئتم ولا تنسوا أمور الآخرة وأمور الطاعات، ولا تستغرق في مُتع
الدُّنيا، ولا تستغرق في متع الجسد، فهذه أمور أباحها الله لك، لكن لا تستغرق فيها
فتكون على حساب ما تقدِّم لنفسك من الطاعات ومن التَّزوُّد بزاد التَّقوى. فهذه
-والله أعلم- مُناسبة ذكر قوله: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾.
قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا
وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾.
أحد الصحابة حلفَ أن لا يدخلَ على صاحبٍ له ولا يُكلِّمه، ولا يُصلح بينه وبين
زوجته. فقيل له؛ فقال: أنا حلفت، ولا يُمكن أن أترك ما حلفت عليه، ولابدَّ أن أبر
بقسمي؛ فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه الآية.
وقوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ﴾، أي: لا تجعلوا الحلف بالله.
قوله: ﴿عُرْضَةً﴾، أي: مانعًا لكم من الخير.
قوله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾، أي لا تجعلوا
الحلف مانعًا لكم من البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
ويكون معنى الآية: لا تجعلوا الحلف بالله معترضًا بينكم وبين البر والتَّقوى
والإصلاح بين النَّاس؛ بل مَن حصل منه ذلك وحلف على أن لا يفعل برًّا أو تقوى أو
إصلاحًا بين النَّاس فيُكفِّر عن يمينه، ويأتي بهذه الأمور، فلا يقول الإنسان: أنا
حلفت أن لا أفعل هذا الشيء، وهذا من البر. نقول: هذا خطأ.
وإذا قيل له: لِماذا لا تصلح بين فلان وفلان؟ يقول: حلفت أن لا أصلح بينهما، نقول:
أنتَ حلفتَ، ولكن لا تجعل هذا الحلف مانعًا لك من الإصلاح؛ بل أصلح بينهما وكفِّر
عن يمينك.
ولهذا يقول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَاللَّهِ لَأَنْ يَلِجَّ
أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ
كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ»، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
معنى الحديث: «يَلِجَّ»، يعني: يتمادى ويتمسَّك بيمينه؛ فهذا أقرب للإثم من أن لا
يتمسَّك بما حلف عليه ويأتي بالكفارة.
إذًا؛ ينبغي أن لا يكون الحلف مانعًا للإنسان من البر ومن التقوى ومن الإصلاح بين
الناس ومن فعل الخير، فإذا وجدتَّ أن أمرًا فيه خير فكفِّر عن يمينك وائت الذي هو
خير، فهذا هو معنى الآية.
ثم قال سبحانه: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾.
اللغو في اليمين: هو أن يقول الرَّجل: بلى والله، لا والله غير قاصدٍ لليمين.
تقول لإنسان: تذهب معي. يقول: لا والله. أو تقول: هل حصل كذا؟ يقول: بلى والله؛
فهذه اليمين التي تأتي على اللسان بدون قصدٍ لا يُؤاخذ بها الإنسان، فهي من اللغو
وليس فيها كفارة وليس فيها إثم.
وهذه الآية جاء مثلها في سورة المائدة: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ [المائدة:
89]، وهنا يقول الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾.
إذًا؛ لغو اليمين: أن يقول الرجل: لا والله، بلى والله؛ غير قاصدٍ لليمين.
وألحق بعض العلماء بذلك ما إذا حلف أن لا يفعل أمرًا ففعله ناسيًا، فهذا ليس فيه
كفارة، وهو ملحق باللغو في اليمين.
ثم قال سبحانه: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ﴾.
قوله: ﴿يُؤْلُونَ﴾ من الإيلاء. والإيلاء: هو الحلف.
والمعنى: يحلفون على ترك وطء زوجاتهم، وكانوا في الجاهلية إذا كان الرجل لا يُريدُ
المرأة ولا يُريد أن يُطلقها حتى لا تتزوَّج غيره يحلف أن لا يَطأها أبد الدَّهر،
فتبقى هذه المرأة مُعلقة، لا هي بالزوجة التي تُعاشَر، ولا هي بالمطلَّقة التي ربما
تُرزَق بزوجٍ؛ فأبطل الإسلام هذا، وجعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- الأجل أربعة اشهرٍ،
فإذا آلَ الرجل من زوجته -حلف أن لا يطأها- يُحدد له أربعة أشهر، ويُقال له: إمَّا
أن تتطأ، أو تُطلِّق، أمَّا أن تترك المرأة مُعلَّقة بهذه الطريقة فهذا فيه إضرار
عظيمٌ بالمرأة.
وقوله: ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾، يعني: انتظار أربعة أشهر.
قال: ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾، يعني: إن رجعَ وعاشر زوجته.
قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، يعني يغفر الله تعالى له.
قال: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾، يعني: إن قصد الطلاق بعزيمةٍ تامَّةٍ.
فيُقال له: إمَّا أن ترجع -وهذا هو الأحب والأفضل- فإنَّ الله غفور رحيم، أو أن
تُطلِّق، لكن لا تتركها معلَّقة هكذا.
نأتي للفوائد والأحكام:
أولًا: حرص الصحابة على العلم في سؤالهم للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عن هذه الأمور الدَّقيقة، فسألوا عن الحيض، وسألوا عن كيفية إتيان المرأة؛ لأنَّهم
استشكلوا هذه الأمور من مخالطتهم لليهود، فأجابهم الله سبحانه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾.
والسؤال من مفاتيح العلم، ولَمَّا سُئِلَ ابن عباس: بِمَ عقلتَ العلم؟ قال:
"بِلِسَانٍ سَؤُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ"[42]، فالإنسان إذا أشكل عليه شيء يسأل حتَّى
يزول عنه الإشكال.
والسائل إذا سأل وتسبَّبَ في تعليم غيره فيكون هو المعلِّم لغيره، وفي قصة جبريل
لَمَّا أتى للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعنده بعض الصحابة، أتاه على
صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد
من الصحابة، فأسند ركبتيه إلى ركبتي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووضع
يديه على فخذيه، سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدَّة أسئلة، قال: ما
الإسلام؟ فأجابه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ما الإيمان؟ فأجابه.
قال: ما الإحسان؟ فأجابه. قال: متى الساعة؟ فأجابه. قال ما أمارتها؟ فأجاب. ثم بعد
ذلك انصرف، فقال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تعرفون هذا؟». قالوا:
لا. فقال: «ذاكَ جِبريلُ أَتاكُم يُعَلِّمُكُم دِينَكُم».
لو تأمَّلنا هذه القصَّة: فالمعلِّم هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فهو الذي قال: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ»، وجبريل فقط كان سائلًا، طرحَ هذه الأسئلة فقط، ومع ذلك
اعتبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جبريل معلمًا للصحابة؛ لأنَّه بطرح
هذه الأسئلة تسبَّبَ في التعليم، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن تسبَّبَ في تعليم غيره
بطرحِ سؤالٍ ونحو ذلك أنَّه يكون معلِّمًا لهم.
ولا بأس أن يسأل الإنسان أسئلة يعرف جوابها لأجل أن يعرف الحاضرون الجواب، فلو كان
الإنسان في مجلس ورأى أنَّ الحاضرين يحتاجون لتوضيح مسألةٍ معيَّنة -وهو يعرف
الحكم- وكان عنده عالم من العلماء، فقال: يا شيخ، ما رأيك في كذا؟ لأجل أن يعرف
الحاضرون الجواب، فهذا لا بأس به، بل إنَّه يكون مأجورًا على ذلك، لأنَّه تسبَّبَ
في تعليمهم، فالنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- اعتبر جبريل مُعلِّمًا، وهو
إنَّما فقط طرح أسئلة؛ لأنَّه تسبَّبَ في تعليم الصحابة بإجابات النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هذه الأسئلة.
ثانيًا: دلَّت الآية ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ على نجاسة
الحيض؛ لأنَّ الله تعالى وصفه بالأذى، وقد بيَّنت السُّنَّة ذلك، وأمر النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بغسل دم الحيض قليله وكثيره، والدم الخارج من
الإنسان عمومًا نجس، وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحدٍ من أهل العلم، إلَّا أنه
يُعفَى عن يسيره.
ثالثًا: وجوب اعتزال المرأة حال الحيض، لقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ
قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾، وقد بيَّنَت السُّنَّة
المراد بالاعتزال، وهو: تركُ الوطءِ فقط، ويُباح للرجل المباشرة، وأن يستمتع بها
فيما دون الفرج.
رابعًا: يجب على المرأة الاغتسال بعد الحيض، لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾،
يعني: اغتسلنَ، وهذا أمرٌ متَّفقٌ عليه بين أهل العلم، فإن المرأة يجب عليها بعد
الحيض أن تغتسل، وهكذا بعد النفاس.
خامسًا: تحريم الوطء بعد الطُّهرِ وقبل الغسل، لقول الله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، يعني: حتى
ينقطع دم الحيض. قال: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾، يعني: اغتسلنَ. قال: ﴿أْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، وهذا يدلُّ على تحريم الوطء بعد الطهر وقبل الاغتسال.
سادسًا: إثبات المحبَّة لله، وذلك في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، فمعتقد أهل السنَّة والجماعة هو إثبات صفة المحبة
لله -عَزَّ وَجَلَّ- محبةً حقيقيَّة على الوصف اللائق بالله سبحانه، ليست كمحبَّة
المخلوقين، وإنَّما على الوصف اللائق لله -عَزَّ وَجَلَّ.
وقد أخطأ في ذلك مَن أوَّل المحبَّة بأنَّها إرادة فعل الخير، فهذا تأويلٌ باطل،
وما عليه الصحابة والتابعون هو إثبات صفة المحبَّة لله -عَزَّ وَجَلَّ- حقيقةً،
فالله تعالى يُحبُّ عباده المؤمنين، يُحبُّ التَّوابين ويُحبُّ المتطهرين، يُحبُّ
المحسنين، يُحبُّ المتَّقين؛ فهو سبحانه وتعالى يُحبُّ بعضَ عباده ويُحبُّونه، كما
قال سبحانه: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾
[المائدة: 54]، فهذا هو المعنى الصَّحيح الذي دلَّ له القرآن والسُّنَّة وإجماع
الصَّحابة والتَّابعين، وهو إثبات صفة المحبَّة لله -عَزَّ وَجَلَّ- محبَّةً
حقيقيَّة على الوصف اللائق له سبحانه كسائر صفاته، كسمعه وبصره وسائر صفاته.
سابعًا: أنَّ المحبَّة من الصفات الفعليَّة؛ لأنَّها عُلِّقَت بالتَّوبة، والتَّوبة
من فعل العبدِ تتجدَّد، وكذلك محبَّة الله قد تتعلَّقُ بأسبابها، وكل صفةٍ من صفات
الله تعالى تتعلَّق بأسبابها فهي من الصفات الفعلية.
ثامنًا: فضل التوبة وأنها من أسباب محبَّة الله سبحانه، لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾.
والتَّواب: صيغة مبالغة، يعني: كثير التوبة، وهذا يدلُّ على أن الله تعالى يُحب من
الإنسان أن يُكثر من التوبة، وإذا وقع في معصية يتوب، وإذا وقع في ذنبٍ يتوب، ولهذا
يقول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنبًا
فَيَتَوضَّأُ فيُحسِنُ الوُضُوءَ ثمَّ يُصلِّي رَكعَتينِ فَيَسْتَغفرُ اللهَ عزَّ
وجلَّ إلَّا غَفَرَ لهُ»[43]، فإذا وقعتَ في ذنب فقمْ وتوضَّأ وصلِّ ركعتين
واستغفر؛ يغفر الله لك، واجعل هذا مبدأ لك في الحياة، فكلما وقعت في مَعصية فَقُم
وَتَوضأ وصلِّ ركعتين واستغفر الله، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ
يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 133]، فالمسلم إذا وقع في ذنبٍ لا يُصرُّ على ما فعل،
وإنَّما يقوم ويستغفر الله ويتوب إلى الله، فالله تعالى يُحبُّ من عبده أن يُكثر
منا لتوبة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُعد له في المجلس الواحد
قول «رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الْغَفُورُ»[44] مائة مرَّةٍ.
تاسعًا: فضل التَّطهُّر، لقوله تعالى: ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، فينبغي أن
يستشعر المسلم هذا المعنى، وهو أنَّ الله تعالى يُحب المتطهر، فعندما يتوضَّأ
فإنَّه يكون متطهرًا، وعندما يغتسل يكون متطهرًا، فالله يُحبُّ من العبد أن يكون
متطهرًا مبتعدًا عن النَّجاسة.
وهذا يسوقنا إلى مسألة وهي: حكم تجديد الوضوء، قد يقول قائل: الله تعالى يُحب
المتطهرين، فأنا أُجدِّد الوضوء، فهل تجديد الوضوء مشروع أو غير مشروع؟
نقول: إذا كان قد صلَّى بهذا الوضوء صلاةً ولو صلاة نافلة؛ فيستحب له أن يُجدد
الوضوء، حتى يدخل في هذا الفضل، وينطبق عليه وصف المتطهرين الذين يُحبهم الله.
أمَّا إذا كان لم يُصلِّ به صلاةً فلا يُشرَع له تجديد الوضوء؛ لأنَّ هذا يُؤدي
للوسواس، لكن لو أنَّ هذا الوضوء صلَّى به صلاة الضحى ثم أذَّن الظهر؛ فيستحب له أن
يُجدد الوضوء حتى يدخل في وصف المتطهرين.
عاشرًا: في قوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ﴾، أنَّ للزوج أن يأتي امرأته بالطَّريقة التي يُريدها من الأمام أو من
الخلف، بشرط أن يكون ذلك في الفرج ولا يكون في الدُّبر، فلا يجوز إتيان المرأة في
دبرها، وقد ورد الوعيد في حقِّ مَن فعل ذلك، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا»[45]، ويسميه العلماء:
اللوطيَّة الصغرى، ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾، يعني: موضع الحرث
وهو القُبُل.
الحادية عشر: ينبغي أن يقصدَ المتزوج من الزواج تحصيل الذريَّة والنسل؛ لأن الله
-عَزَّ وَجَلَّ- سمَّى ذلك حرثًا، فقال: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾،
فأعظم مقاصد النكاح: قصد تحصيل الذريَّة والنَّسل.
الثانية عشر: ينبغي للمسلم أن لا ينهمكَ في الاستمتاع بِمُتَع الدنيا على حساب ما
يقدمه في الآخرة من الطاعات، لقوله: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾، كأنَّه يُقال:
لا تستغرق في متع البدن على حساب ما تقدم لنفسك من الطاعات، فهذه أمور مباحة،
وينبغي أن يأتيها الإنسان باعتدال، فكل شيءٍ خرجَ عن حدِّ الاعتدال فهو مذموم.
الثالثة عشر: في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ البشارة للمؤمنين في الدنيا
والآخرة، أمَّا في الآخرة فتبشرهم الملائكة بالجنة، قال تعالى: ﴿وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، وتكون هذه البشارة من حين
قبض الروح، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ
ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾، يعني: عند الاحتضار.
وتقول له: ﴿أَلَّا تَخَافُوا﴾، يعني: لا تخافوا مما أمامكم. ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾،
أي: لا تحزنوا على ما خلَّفتم في الدنيا من مالٍ وأهلٍ. ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، تبشرهم بهذه البشارة العظيمة، فالبشرى
للمؤمنين في الآخرة بهذه الجنَّة العظيمة التي فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعَت،
ولا خطر على قلب بشرٍ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين، وهم فيها خالدون أبد
الآبادِ إلى ما لا نهاية.
أمَّا البشارة في الدنيا فهي كل ما يسر المؤمن، ومن ذلك ما وردت به السُّنة من
الرؤيا الصالحة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عاجل بشرى المؤمن
الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له».
ومن البشارة للمؤمن في الدنيا: الذِّكر الحسن الذي لم يطلبه الإنسان ولم يسعَ إليه،
وكما جاء في صحيح مسلم أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل عن الرجل
يعمل العمل من الخير فيُثني عليه الناس، قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن»، يعني: إنسان
ما قصدَ رياءً ولا قصد سُمعة، وعمل أعمالًا في الخير، من صلاةٍ وصيامٍ وصدقات، ونشر
علم، ونحو ذلك؛ فالنَّاس يُثنون عليه، وتكون له سُمعة حسنة في المجتمع، وسيرة عطرة؛
فهذا الذكر الحسن من عاجل بشرى المؤمن، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96]،
فالوُدّ والاحترام والتَّوقير الذي يجده المتقي لله في قلوب الناس من عاجل بشرى
المؤمن، ومن البشارة التي تكون للمؤمنين، ولهذا قال سبحانه: ﴿أَلَا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [يونس: 62]، البشرى في الآخرة معروف أنَّها الجنة، أمَّا البشرى
في الدنيا فمنها الذكر الحسن والسُّمعَة الحسنة، والود الذي يُلقيه الله في قلوب
الناس له.
قال: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ﴾، لا يستطيع أحد أن يُبدِّل هذا مهما فعلَ
مَن أراد أن يُقلِّل من شأن هؤلاء المؤمنين الصَّادقين، قد يسعى بعض الناس
للتَّقليل من شأنهم واحتقارهم، ويفعل أمورًا للتَّقليل منهم؛ فهذا لن يكون أبدًا،
مهما فعل من التَّقليل لشأنهم وتحقيرًا في نفوس الآخرين؛ فلن يحصل هذا، ﴿لَا
تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: 64].
الرابعة عشر: نُهي الإنسان عن جعل اليمين مانعةً له من فعل البر والتَّقوى والإصلاح
بين الناس، فلا يقول الإنسان: أنا حلفت أن لا أفعل كذا...، حلفت أن لا أدخل في
إصلاحٍ بين الناس!
نقول: إن كان هذا الذي تريد أن تفعله برًّا أو تقوى أو إصلاحًا بين الناس؛ فلا تجعل
اليمين مانعةً من ذلك، لقوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ
أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾، ولهذا يقول -عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في حديث عبد الرحمن بن سمُرة: «وَإِذَا حَلَفْتَ علَى
يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَها خَيْرًا مِنهَا، فأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وكفِّرْ
عَنْ يَمِينك»، متفقٌ عليه.
الخامسة عشر: الحث على البرِّ والتَّقوى والإصلاح بين الناس، لقوله تعالى: ﴿أَنْ
تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾، فهذه أمورُ خيرٍ، لا ينبغي
أن تجعل اليمين مانعة من هذه الأمور.
السادسة عشر: فضيلة الإصلاح بين الناس، ووجه ذلك: أنَّ الله نصَّ عليه، وخصَّه
بالذِّكر مع أنَّه داخلٌ في البرِّ في قوله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا﴾،
فالإصلاح من أعظم البرِّ، ومع ذلك خصَّه الله بالذِّكر لعظيم شأنه، ولهذا جاء في
حديث أبي الدرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: «ألا أُخبِرُكم بأفضلَ من الصَّلاة والصِّيام والصَّدَقة؟» قُلنا:
بَلَى يا رسول الله، قال: «إِصلاحُ ذاتِ البَيْن، وإفسادُ ذات البَيْن هي
الحَالقةُ، لَا أَقُول تَحْلِقُ الْشَعر؛ بَلْ تَحْلِقُ الدِّينَ»، وهذا الحديث
رواه الترمذي بسندٍ صحيحٍ.
فانظر كيف أنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- جعل إصلاح ذات البين درجة
أعلى من الصلاة ومن الصيام ومن الصَّدقة، والله تعالى يقول: ﴿لَا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114]، فالنُّصوص تدلُّ على الأجر
العظيم والكبير المرتَّب على الإصلاح بينَ النَّاس، فالإصلاح بينَ الناس من أعظم
الأعمال الصَّالحة، ودرجته أعلى من الصلاة والصِّيام والصَّدقة.
وتجد بعض الناس سلبي في هذا، ربما يجد أخته أو أخاه بينه وبين زوجته خصومة، ولا
يسعى للإصلاح! ويقول: ما عليَّ من أحد! هذا غير صحيح، لو سعيتَ لٌصلاح ستنال هذه
الأجور العظيمة، فدرجة الإصلاح أعلى من الصِّيام والصَّدقة والصَّلاة، أو يرى بعض
جيرانه متخاصمين ولا يسعى للإصلاح بينهم، أو يرى بعض زملائه بينهم هجران وشحناء ولا
يسعى للإصلاح بينهم؛ فهذه سلبيَّة، وينبغي للمسلم أن يُبادر ويسعى للإصلاح، كلما
رأى متخاصمين يسعى للإصلاح، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، ودرجته أعلى من الصيام
والصلاة والصدقة.
السابعة عشر: لغو اليمين لا يُوجب الكفارة، لقوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾
وفي آية المائدة: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم
الأيمان﴾ [المائدة: 89]، أي: بما قصده الإنسان بقلبه، أمَّا ما يرد على اللسان من
غير قصدٍ فلا يؤاخذ عليه، مثل قول: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك، أو حلف على أن
لا يفعل أمرًا ففعله ناسيًا؛ فهذا يدخل في لغو اليمين الذي لا يؤاخذ به الإنسان.
الثامنة عشر: عدم مؤاخذة العبد بما لم يقصده من لفظه، ولو جرى على لسانه، فإذا
تلفَّظَ الإنسان بكلامٍ لم يقصده فلا يؤاخذ به، حتَّى لو كان الكلام كفريًّا، ولهذا
ذكر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حديث التوبة قصَّة الرجل الذي قال:
«اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ»[46].
وأخذ العلماء من هذا: أنَّ الإنسان إذا طلَّق زوجته ولم يقصد الطَّلاق؛ فـلا يقع
الطَّلاق، وهذا في الطلاق المعلَّق على القول الرَّاجح وهو قول ابن تيمية -رحمه
الله- وإن كان خلاف المذاهب الأربعة، ولكن -سبحان الله- أصبحت الفُتيا في العالم
الإسلامي كله على رأي ابن تيمية، وهو أنَّ الطلاق المعلَّق الذي لم يقصد به الطلاق
وإنَّما قصدَ به حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا أنَّه لا يقع، وفيه كفارةُ
يمينٍ؛ لأنَّه لم يقصد الطَّلاق، وهكذا لو كان مُكرهًا فتلفَّظَ بالطَّلاق، فالقصدُ
لم يتمحَّض هنا، فلا يقع الطلاق، وإن كان غضبانًا غضبًا شديدًا فهو كالمكره -كما
قال ابن القيم وغيره- فلم يتمحَّض قصد الطَّلاق، فلا يقع الطلاق، وهكذا أيضًا
الموسوس الذي يقع منه الطلاق، لا يقع طلاقه أنَّه لم يقصد الطلاق.
إذًا؛ الألفاظ التي تجري على اللسان بدون قصدٍ لا يؤاخذ بها العبد.
التاسعة عشر: المدار على ما في القلوب، لقوله: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، فالمؤاخذة على ما في القلب، واللسان مجرد مُعبِّر عمَّا في
القلب، ولهذا إذا اختلف اللسان عن القلب فالمعوَّل عليه هو ما في القلب، فلو أنَّ
أحدًا أرادَ أن يضحِّي عن إنسان، فقال: بسم الله، الله أكبر، اللهم هذه منك ولك،
اللهم إنَّ هذه الأضحية عن فلان -وأخطأ في اسمه- فالعبرة بما نوى.
إذًا؛ المعتبرُ هو ما في القلب، وأمَّا اللسان فهو مجرد معبِّر عمَّا في القلب،
فإذا اختلف اللسان مع ما في القلب فلا يعتبر ما نطق بلسانه، وإنَّما المعتبر ما في
قلبه.
العشرون: أنَّ للقلوب كسبًا كما للجوارح، فالكبر متعلق بالقلب، قال -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ
ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»[47]، فالكبر والعجب وأمراض النفوس؛ هذه كلها متعلقة بالقلب،
ولكن من رحمة الله بعباده أن حديث النَّفس لا يُؤاخذ عليه الإنسان، لقول النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ
لِأُمَّتي عَمَّا حَدَّثَتْ به أَنْفُسَهَا، ما لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَكَلَّمْ
بهِ»[48].
الحادية والعشرون: ثبوت حكم الإيلاء، وهو: التَّربُّص أربعة أشهر، فمن حلف على أن
لا يطأ زوجته فيُمهَل أربعة أشهر، وبعد الأربعة أشهر يُقال له: إمَّا أن تطأها
وترجع لمعاشرة الزَّوجة أو تُطلِّق، فإذا أبى أن يطأ أو يُطلِّق أجبره القاضي على
الطلاق، فإذا أبى؛ فسخَ القاضي النكاح، ولا تبقى هذه المرأة مُعلَّقة.
الثانية والعشرون: مراعاة حقوق المرأة، فهذه الآية نزلت مراعةً لحقوق المرأة، لأنَّ
هذا الرَّجل حلفَ على ترك وطء زوجته، والزوجة لها حق الوطء والمعاشرة الزَّوجيَّة،
فهنا يُجبَر الزَّوج على الإمساك بمعروف أو التَّسريح بإحسان، إمَّا أن يطأ الزوجة
أو يطلقها، وهذا يدل على عناية الشَّريعة بحقوق المرأة، وليس هناك دينٌ من الأديان
أو ملَّة من الملل احترمت حقوق المرأة كشريعة الإسلام، فأعطتها حقها كاملًا، وهناك
ممارسات من بعض المسلمين خاطئة، لكن الشَّريعة الإسلامية راعت حقوق المرأة
وأنصفتها؛ بل جعلت الرَّجل عمومًا -سواء كان زوجًا أو أبًا أو أخًا- ملزمًا بدفع
النَّفقة على هذه المرأة، إن كان زوجًا فيدفع عن زوجته، وإن كان أبًا فيدفع عن
ابنته، فإذا لم يكن لها زوج أو أب؛ فالأخ مُلزَم بالنَّفقات، لأنَّ المرأة لها مهام
أخرى، فهي تقوم بمهمَّة الحمل والولادة وتربية الأطفال، فالزوج ينفق عليها.
وكثير من الآيات القرآنية فيها حماية للمرأة، ومراعاة لحقوق المرأة، فشريعة الإسلام
سبقت الآن ما يتشدَّق به بعض الناس من حقوق المرأة، فالشَّريعة الإسلاميَّة حفظت
حقوق المرأة، فالله تعالى هو خالق البشر، وهو أعلم ما يصلح به أحوال البشر،
والشَّريعة الإسلاميَّة حفظت حق المرأة في كل شيء، حتى في أخص الخصائص، حتى في حلف
الرجل على ترك وطء زوجته؛ فأنزل الله في ذلك قرآنًا، أنَّ هذا الزَّوج يُمهَل أربعة
أشهر، ثم يُعالَج الوضع ولو بالقوَّة، إمَّا أن تطأ أو تُطلِّق، فإذا رفضَ أن يطأ
أو يُطلِّق؛ فسخَ القاضي النكاح، لكن ما تُترَك هذه المرأة معلَّقة، فكانوا في
الجاهليَّة يحلفون على ترك المرأة، يؤلون منها ويتركونها؛ فحُدِّدَت هذه المدَّة
بأربعة أشهر.
أيضًا حقوق المرأة تكون لها من غير أن يُظلَم الرَّجل، والآن بعض الشِّعارات
الموجودة يُعطونَ المرأة حقًّا على حساب الرجل، فهذا لا يجوز أيضًا، فلا تعطي
إنسانًا فوقَ حقِّه وتَظلم به طرفًا آخر لأنَّ هذا لا يجوز، كما أنَّ المرأة لا
تُظلَم فكذلك الرَّجل أيضًا لا يُظلم، والله تعالى هو خالق البشر، وهو أعلم بما
يصلح به أحوال البشر، وأعلم بحقوق الرجل وحقوق المرأة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]، فحكم الله وشريعة الله
هي الصَّالحة والمُصلِحَة لأحوال البشر.
الثالثة والعشرون: لا يصح الإيلاء من غير الزَّوجة، لقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾، فلو حلف على أن لا يطأ أمتَه، أو حلفَ على أن لا يطأ
امرأة ثم تزوَّجها؛ فلا يصحُّ هذا الإيلاء.
ونكتفي بهذا القدر في الفوائد، والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد،
وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيُّها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة
قادمةٍ -بإذن الله- والسالم عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------
[40] رواه البخاري
[41] رواه البخاري
[42] رواه أحمد
[43] رواه أبو داود والترمذي
[44] رواه أحمد
[45] رواه أبو داود
[46] رواه مسلم
[47] رواه مسلم
[48] رواه مسلم
سلاسل أخرى للشيخ
-
3324 11
-
4960 6