الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

3718 6
الدرس الثالث

تفسير آيات الأحكام

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل وإيَّاكم ما بدأناه في سلسلة شرح آيات الأحكام من كتاب الله -عَزَّ وَجلَّ.
نرحبُ وإيَّاكم بضيف هذا البرنامج فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعيَّة الفقهيَّة السُّعوديَّة، وأستاذ الفقهِ بكلية الشريعة بجامعة الإمام، فمرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{كنَّا قد وصلنا عند آيات الصِّيام في سورة البقرة، فنستكمل -بإذن الله- شرحها وتفسيرها في هذا اللقاء.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه واتَّبعَ سنَّته إلى يوم الدين.
كنَّا قد تكلمنا عن أبرز المعاني والأحكام والفوائد المستنبطة من الثلاث آيات الأُوَل من آيات الصِّيام، وهي قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
وتكلَّمنا عن هذه الآيات الثلاث في الحلقة السابقة، وفي هذه الحلقة نستكمل الحديث عن بقيَّة آيات الصِّيام.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.
هذه الآية في الدُّعاء، وقد وقعت بينَ آيات الصِّيام، فالآية التي قبلها هي قول الله تعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، والآية التي بعدها هي قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾، وهذا لابد أن يكون لحكمة؛ لأنَّ هذا القرآن جعله الله تعالى آيةً ومُعجزةً في كل شيءٍ، حتى في ترتيب الآيات، فوقوع آية الدعاء بينَ آيات الصِّيام له مغزى وله معانٍ عظيمة، ومن أبرز هذه المعاني: أنَّ الدعاء في شهر رمضان حري بالإجابة، وأنه ينبغي للمسلم أن يستكثر من الدعاء في شهر رمضان، فكأنَّه يُقال: أنتَ أيُّها المسلم أكثر من الدعاء في شهر رمضان، فإنَّ الله قريب يُجيب دعوة الداعِ إذا دعاه، والدعاء في شهر رمضان -خاصَّة وقت الصِّيام- يكون حريًّا بالإجابة، وكما جاء في الحديث الصَّحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ»[10]، فهذا هو المغزى، وهذا هو السبب الذي لأجله وقعت آيات الدعاء بين آيات الصِّيام.
وأيضًا في العشر الأواخر من رمضان يكون الدعاء حري بالإجابة، لأنَّ فيها ليلة القدر التي يكون فيها الدعاء مستجاب.
فشهر رمضان من مواطن إجابة الدُّعاء، ولهذا ينبغي أن يستكثر المسلم من الدعاء في هذا الشهر، ولعل هذا هو السبب الذي لأجله وقعت آية الدعاء بين آيات الصِّيام.
يقول ربنا سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، وهذا يدل على أن هناك سؤال قد وقع، وذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتاه رجل، فقال يا رسول الله أقريبٌ ربُّنا فنناجيه، أم بعيدٌ فنناديه؛ فنزلت الآية: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، فكان الجواب أنَّ الله قريب.
والمقصود بالقرب هنا: القرب الحقيقي على الوصف اللائق بالله -عَزَّ وَجلَّ- لأن جميع صفات الله -سبحانه- الأصل أنَّها تُحمَل على حقيقتها ولا تُؤوَّل، وهذا هو مُعتقد السَّلف وأهل السُّنَّة والجماعة، كصفة السَّمع والبصر واليد والرَّحمة، وجميع صفات الله -سبحانه وتعالى- فمعتقد الصحابة والتابعين والسلف الصَّالح وأهل السنة والجماعة أنَّ صفات الله -سبحانه- على حقيقتها، لكنها على الوصف اللائق بالله سبحانه، ليست كصفات المخلوقين، فمسع الله ليس كسمع المخلوقين، وبصر الله ليس كبصر المخلوقين، ورحمة الله ليست كرحمة المخلوقين.
وهكذا نقول في قرب الله -سبحانه وتعالى-، وهناك من السلف مَن قال: إن المقصود بالقرب قرب الإجابة.
والأقرب -والله أعلم- أن يُقال: إنَّه قُربٌ حقيقي على الوجه اللائق بالله -سبحانه وتعالى- مع علوه علوَّ ذات، فالسَّلف يُثبتون لله -عَزَّ وَجلَّ- العلو بجميع أنواعه -علو الذَّات، وعلو القهر، وعلو القدر- وقد دلَّ لهذا أدلَّة كثيرة ليس هذا المقام مقام الحديث عنها، فالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وكذلك من الفطرة والعقل على إثبات صفة العلو لله -سبحانه وتعالى.
وعلى هذا نقول: إنَّ قربه هنا هو قربٌ حقيقيٌّ مع إثبات صفة علو الذات لله -سبحانه وتعالى.
والله -سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، ولا يُشبهه شيءٌ من خلقه.
وتأمل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وأقوى التَّشبيه أن تُحذَف الأدوات، كأن تقول: فلان أسد؛ فهذا أقوى ما يكون من التَّشبيه.
وأضعف منه: عندما يُؤتى بأداة واحدة، كأن تقول: فلان كالأسد.
فهنا وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أتي بالكاف والمثل مع النفي، والمعنى: ليس كمثله شيء ولو من وجه بعيد -جلَّ وعلا.
عرفنا إذًا سبب نزول الآية أنَّ بعض الناس سألوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقريب ربنا فنناديه، فأنزل الله -عَزَّ وَجلَّ- هذه الآية: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.
قال تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾، أي: يستجيبوا لفعل الطاعات، وليستجيبوا لي إذا دعوتهم.
قال: ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾، أي: ليؤمنوا بجميع ما أمر الله بالإيمان به، ومن ذلك الإيمان بأن الله قادرٌ على إجابة الدُّعاء.
قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، أي: لعلهم أن يصيبوا الحق.
يُستفاد من الآية فوائد:
أولًا: فضل الدعاء، فإنَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- أمرَ به، والدعاء من أسباب تحقيق الأمنيات للإنسان في الدنيا والآخرة؛ لأن الله على كل شيءٍ قدير، فأنت تدعو ربًّا عظيمًا بيده خزائن السماوات والأرض، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، وقال: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50]، فأمر الله -عَزَّ وَجلَّ- مجرد أن يقول له: كن؛ فيكون كلمحٍ بالبصر، وإذا هو كائنٌ.
فالدُّعاء من أسباب تحقيق ما يتمنَّاه الإنسان وما يرجوه، ولذلك ينبغي أن يحرص المسلم على الدُّعاء، والله -عَزَّ وَجلَّ- يُحب من عبده أن يدعوه وأن يسأله، وكما جاء في الحديث الصحيح عند مسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ وَذَلِكَ كُلُّ لَيْلَة»[11]، فكل ليلة يُنادي الرب -عَزَّ وَجلَّ- عباده بهذا النِّداء.
يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]، فهذه الآية تدل على فضل الدعاء، وأنه ينبغي أن يحرص عليه المسلم، وربَّ دعوة واحدة تستجاب للمسلم يكتب الله تعالى بسببها خيرًا عظيمًا، وربَّ دعوة واحدة يكتب الله تعالى بسببها خيري الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يحرص على الدُّعاء، وأن يدعو الله تعالى كل يومٍ، فيدعو الله تعالى بخيري الدنيا والآخرة، وليحرص على الدعاء بالمأثور، ويتخيَّر من الدعاء ما أعجبه، فحوائجك كلها اطرحها بين يدي ربِّك سبحانه، فالله -سبحانه وتعالى- يُجيب دعوة الداعي.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، وإذا نظرنا للواقع نجد أنَّ ليس كل مَن دعا استُجيب له، فكيف نوفِّق بين هذا وبينَ ما ذكر الله تعالى في قوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾؟
{الحديث المذكور «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو، إِلَّا كَانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ...»}.
أحسنت..
نقول: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو، إِلَّا كَانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ»، أخرجه أحمد بسندٍ صحيحٍ، فلمَّا سمع الصحابة هذا، قالوا: يا رسول الله إذًا نُكثر، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُ أَكْثَر»، وهذا يدل على أنَّ إجابة الدعاء أعمُّ من قضاء الحاجات، فقد تدعو وتستجاب دعوتك ولكن لا تُقضَى حاجتك، فتدعو ثم يدخر الله لك في الآخرة، أو تكون إجابة الدعاء أن يصرف الله عنك من السوء مثلها، فإجابة الدُّعاء أعم من قضاء الحاجات، وفي حديث النزول أن الله -عَزَّ وَجلَّ- يقول: «هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيب لَه؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَه؟»، فذكر الأمرين جميعًا، فذكر قضاء الحاجات -وهذا هو السؤال- وذكر إجابة الدُّعاء.
ولهذا فإنَّ الدَّاعي على خير، ولَمَّا سمع الصحابة هذا الحديث قالوا: يا رسول الله إذًا نُكثِر؟ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الله أكـثر».
ثانيًا: دلَّت الآية على بعض آداب الدعاء.
- قال تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، فيه إشارة إلى أهمِّ أدبٍ من آداب الدَّعاء وهو: الإخلاص لله سبحانه، وهذا الإخلاص هو من أعظم الأسباب، ويدلُّ لذلك قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: 65]، فهذا الإخلاص الذي صحب دعوة المضطر كان سببًا لإجابة الدُّعاء مع وجود المانع وهو الشِّرك، فهؤلاء مشركون ومع ذلك أخلصوا لله في دعائهم بسبب الاضطرار، فاستجاب الله لهم، فأصبح الإخلاص دافعًا للمانع، فقوة الإخلاص دفعت وجود المانع، وهذا يُبيِّن لنا أهمِّيَّة الإخلاص، ولذلك فإنَّ المضطر تُستجاب دعوته حتى وإن كان كافرًا، لأنَّ المضطر يصحب قلبه شيءٌ من الإخلاص لله -سبحانه وتعالى- قال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: 62].
فالله تعالى يُجيب دعوة المضطر، وقد ذكر الله تعالى هذا في الآيات الدَّالَّة على ربوبيَّته ووحدانيَّته، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [النمل: 60]، وقال: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾ [النمل: 61]، ثم قال: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: 62]؛ لأنَّ هذا من الأدلَّة على ربوبيَّة الله ووحدانيَّته، فكون الإنسان إذا اضطر يجد إجابة الدعاء، فهذا دليل على وجود الله وعلى وحدانيَّته سبحانه، وأنَّ معرفة الله مركوزة في فطرة الإنسان.
إذًا؛ هذا الأدب من أعظم الآداب، فإذا دعوتَ الله تعالى، وكنت على حالةٍ كحالة المضطر؛ تأتي الإجـابة، فإذا دعوت الله -عَزَّ وَجلَّ- فادعه وكأنَّك في سفينة تكاد تغرق، فتقول: يا رب، يا رب...؛ تجد إجابة الدُّعاء مُباشرة، ولكن الذي يدعو بقلبٍ غافلٍ لاهٍ؛ فهذا هو الذي لا تُستجاب دعوته.
والمظلوم تستجاب دعوته؛ لأنه يدعو الله بإخلاصٍ وحرارة بسبب الظُّلم الذي وقع عليه؛ فتستجاب دعوته، كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»[12]، فعندنا المضطر والمظلوم تستجاب دعوتهما بسبب ما يقوم بقلبيهما من الإخلاص العظيم لله -سبحانه وتعالى- والحرارة التي تكون في القلب، والاضطرار إلى الله -سبحانه وتعالى.
- وفي قوله تعالى: ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾، على قول بعض المفسرين: أنَّي قادرٌ على إجابة دعوتهم، وهذا فيه إشارة إلى أدبٍ من آداب الدُّعاء، وهو أنَّ الدَّاعي يدعو الله تعالى وهو موقنٌ بالإجابة، ولا يستبعد إجابة الدُّعاء، فيُحسن الظَّن بالله سبحانه، فإنَّ بعض الناس يقول: دعوتُ ولم يُستجَب لي! فهذا من أعظم أسباب موانع الدُّعاء، ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُسْتجَابُ لأَحَدِكُم مَا لَم يعْجلْ: يقُولُ قَد دَعوتُ رَبِّي، فَلم يسْتَجبْ لِي»[13]، فمن أعظم أسباب موانع الدعاء: الاستعجال في الإجابة، فإذا دعوت الله تعالى فلا تستعجل في الإجابة، ادعُ الله تعالى واستمر في الدُّعاء، فكثير من الناس يستعجلون، يدعو الله مرة أو مرتين أو ثلاث، ثم يقول: لم أرَ أثرًا للإجابة، فيدَع الدُّعاء! وهذا من أعظم موانع إجابة الدُّعاء، فعلى المسلم إذا دعا الله -سبحانه وتعالى أن لا يستعجل الإجابة، وإنَّما يستمر في دعائه لله -سبحانه وتعالى.
- من الآداب: التَّضرُّع، قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: 55]، ففي الآية أدبين من آداب الدَّعاء:
الأول: التَّضرُّع، فإن الله تعالى يُحبُّ من عبده حينَ يدعوه أن يدعوه بتضرُّعٍ، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]، يعني كثير التَّأوُّه، فيدعوه بتأوُّهٍ وبتضرُّعٍ وبانطراحٍ بينَ يديه وبتمسْكنٍ، فإنَّ هذا من أعظمِ أسباب إجابة الدعاء.
الثاني: الخُفية، وهو عدم رفع الصوت به، فرفع الصوت ينافي التَّضرُّع ويُنافي الخشوع المطلوب، وهو نوعٌ من الاعتداء في الدُّعاء، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، يدلُّ على أن رفع الصوت اعتداء.
ولهذا نقول للذين يرفعون أصواتهم في الدعاء: إنَّ هذا نوعٌ من الاعتداء، وهذا يُلاحظ مثلًا في دعاء القنوت من بعض أئمة المساجد، فعندما يدعو يرفع صوته كأنَّه يخطب خطبة جمعة، فهذا نوعٌ من الاعتداء، وينبغي أن يخفض الصوت بقدر ما يُسمع مَن خلفه فقط، ويكون بصوت خاشع، أمَّا رفع الصوت بهذه الطريقة التي نراها من بعض أئمَّة المساجد فهذا يُنافي المطلوب من إخفاء الدعاء، ثم أنتَ الآن تريد أن تُسمِع مَن خلفكَ فقط لكي يُؤمِّنوا على الدعاء، والله تعالى يعلم السِّرَّ وأخفى، فما في داعٍ لرفع الصوت، فعند الدعاء ينبغي أن تخفض صوتك بقدر ما تسمع مَن خلفك؛ بل ينبغي أن يكون صوتك أثناء الدعاء أقل من صوتك أثناء التلاوة، وهذا من الفقه.
وينبغي أيضًا أن يكون الدعاء بتضرُّعٍ، فيُلاحَظ على بعض أئمَّة المساجد عندما يدعو دعاء القنوت يأتي به ملحَّنًا منمَّقًا مسجوعًا، كأنَّه يُريد أن يزوِّق العبارات ويُجمِّلها في أسماع الحاضرين، فهذا يُنافي المقصود من الدعاء، فينبغي أن يكون الدعاء بتضرُّعٍ وخشوعٍ وتذلُّلٍ وتمسكُنٍ، مع إخفاء الصوت ما أمكن، فهذا هو الدعاء الذي يكون حريًّا بالإجابة. وكون الداعي يدعو من غير تلحينٍ فهذا أقرب، وأنت إذا كنت وحدك فهل تُلحِّن؟ ما تُلحِّن، فلماذا إذا كنتَ إمامًا تُلحِّن؟! فهذا يُنافي المقصود من الدعاء.
وأنا نبَّهت على هذا قبل سنوات، ولاحظتُ في الآونة الأخيرة -ولله الحمد- أن فيه تجاوب من بعض طلبة العلم، وبعض أئمَّة المساجد؛ فأصبحوا لا يأتون بهذا التلحين غير المقبول، ولا نقول إنه حرام، ولكنه خلاف الأولى، والأولى أن يأتي المسلم بالدُّعاء بخشوعٍ وتذلُّلٍ وتضرُّعٍ وتمسكنٍ، مع إخفاء الصوت ما أمكن.
من آداب الدعاء: أن يصحب الدعاء الخوف والطَّمع، قال تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف: 56]، الطَّمع في الإجابة، فإذا دعوت الله تعالى يقوَى عندك الرَّجاء، مع الخوف من الله -سبحانه وتعالى- وخشيته، والخوف من أن الله لا يقبل منك هذا العمل، فيكون هذا الشعور -الخوف والطَّمع- مصاحبًا للدُّعاء، وهذا من أسباب الإجابة.
ومن أسباب الإجابة: أن يتقدَّم الدعاءَ الثَّناءُ، وعلمنا الله -سبحانه وتعالى- في سورة الفاتحة، ففيها دعاء عظيم يحتاجه المسلم كل يوم، وهو قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، سؤال الله تعالى الهداية إلى الصِّراط المستقيم.
وانظر كيف أن الله سبحانه قدَّم قبل هذا الدعاء الثَّناء بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 2 - 4]، وهذا فيه ثناء وتمجيد، وجاء في الحديث: «فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»[14]، فعلمنا الله تعالى أن نقدم بين يدي دعائه الثناء عليه، ففي سورة الفاتحة تقدَّم الثناء على الله تعالى على الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الشفاعة العظمى عندما يُحشَر الناس في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، وفي يوم يجعل الولدان شيبًا، وفي يوم تدنو فيه الشمس حتى تكون من الخلائق على قدر ميل، ويُصيبُ الناس من الغم والكرب ما لا يُطيقون معه ولا يحتملون، فيُكلِّم الناس بعضهم بعضًا: لماذا لا نذهب لأحدٍ يشفع لنا عند الله لكي يفصل ويقضي بين عباده، فيذهبون لآدم ويعتذر، ويذهبون لأولي العزم من الرُّسل، فيذهبون إلى نوح، وإلى إبراهيم، وإلى موسى، وإلى عيسى؛ وكلهم يعتذرون، حتى يأتون إلى محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا يعتذر، فيسجد تحت العرش، يقول -عليه الصلاة والسلام: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي»[15]، ثم يسأل الله أن يفصل بين عباده، فيُجيب الله دعاءه.
لاحظ كيف أنَّ هذا الدُّعاء سبقه الثناء على الله -عَزَّ وَجلَّ- وهذا يدل على أنَّ من آداب الدعاء أن يسبق الدعاء الثناءُ على الله -سبحانه- ولهذا لمَّا سمع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلًا يدعو ولم يحمد الله ولم يُصلِّ على رسوله، قال: «عَجَلَ هَذَا»، فينبغي أن يَسبق الدعاءَ ثناءٌ وتمجيدٌ لله -عَزَّ وَجلَّ- وصلاة على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، فيستشعر المسلم هذا القرب من الله.
وفي آيات القرآن التي ورد فيها السؤال يكون الجواب مقرونًا بـ "قل"، كقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة: 222]، وقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ [طه: 105]، إلَّا آية الدعاء فقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، وهذا فيه إشارة إلى قرب الله -سبحانه وتعالى- من الداعي، فلم يجعل الله تعالى واسطة إشارة إلى قرب الله تعالى من الداعي، فقال: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، مباشرة، ولكن -كما ذكرنا- هو قربٌ على الوصف اللائق بالله -سبحانه وتعالى-، وليس كقرب المخلوقين، لأنَّ الله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] .
فهذه أبرز الفوائد المستنبطة من هذه الآية.
{هل ممكن يا شيخنا أن ترشدنا إلى بعض أوقات الإجابة التي يُندب الداعي إليها؟}.
هناك أوقاتٌ يكون الدعاء فيها حريًّا بالإجابة، ومن ذلك:
- ساعة الجمعة، وأرجى ما قيل فيها أنَّها آخر ساعةٍ بعد العصر، والمقصود بالساعة ليست ستين دقيقة، وإنَّما اللحظات التي تسبق غروب الشمس، وأيضًا من دخول الخطيب إلى أن تُقضَى الصلاة.
- ساعة إجابة في الليل، كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ مِنَ اللَّيْلِ ساعَةً، لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا، إلَّا أعْطاهُ إيَّاهُ»[16]، وهي لحظات يُستجاب فيها الدعاء، وأرجى هذه اللحظات هي آخر الليل قبيل أذان الفجر.
- السجود، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ، فَأَكثِرُوا الدُّعاءَ»[17].
- الصَّائِم عند فطره، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ»[18]، وهي اللحظات التي تسبق الإفطار.
- بين الأذان والإقامة، يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وغيره: «لاَ يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ»، فإذا أتيتَ المسجد، وأتيت بالسنة الراتبة وتحية المسجد؛ فارفع يديك وادعُ إلى أن تُقام الصلاة، فهذا الدعاء حريٌّ بالإجابة.
{بعضهم يستدل على تأخر الإجابة بأن خيرة الله -عَزَّ وَجلَّ- في تأخير الإجابة، فمثلًا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حوصر في الشِّعب ثلاث سنوات وكان يدعو، ولم تأتِ الإجابة إلَّا بعد ثلاث سنوات، فهل هذا يدل على أن تأخير الإجابة هو خيرة الله لهذا العبد في الأمر الذي دعا به؟}.
إذا دعا المسلم ربَّه لا يشترط على ربِّه وقتًا مُعيَّنًا، فالله تعالى حكيمٌ عليمٌ، وهو أحكم الحاكمين -جلَّ وعلا- فقد تتأخَّر إجابة الدعاء، وقد تُدَّخر في الآخرة ولا تُقضَى حاجته أصلًا في الدنيا، وقد يُدفَع عنه من السوء مثلها، والله تعالى هو أحكم الحاكمين، ولهذا كان عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنَّما أحمل همَّ الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاء كانت الإجابة".
قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾، فيه إشارة إلى النَّسخ، وذلك أنَّه كان في أول الإسلام كان من غربت عليه الشمس وهو نائم فلا يحل له أن يفطر إلا بعدَ غروب شمس اليوم التَّالي، فلا يحل له الأكل ولا الشُّربُ ولا الجماع، وقد جاء في صحيح البخاري أنَّ قيس بن صرمة الأنصاري كان يعمل في حقله طيلة النَّهار، وعندما رجعَ إلى بيته لم يجد ما يأكله، فذهبت زوجته تبحث له عن طعام، فلمَّا رجعت وجدته نائمًا، فقالت: خيبةً لك، فاستمرَّ صائمًا حتى اليوم التَّالي ولم يأكل ولم يشرب، ونهار اليوم التَّالي أُغمي عليه من شدَّة الجوع والعطش؛ فأنزل الله -عَزَّ وَجلَّ- هذه الآية: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾.
ورُويَ أيضًا أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا رجع إلى بيته في ساعة متأخِّرة من الليل أراد جماع زوجته، فقالت: إني كنتُ نائمة -يعني وقت غروب الشمس-، ومَن كان نائمًا يلزمه الصِّيام إلى غروب شمس اليوم التالي، فظنَّ عمر أنَّها تتعلَّل لأجل أن لا يواقعها، فواقعها، وفي الصباح ذهب إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبره، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ تَكُنْ حَقِيقًا بِذَلِكَ يَا عُمَر»، يعني: كيف تفعل هذا؟! فقال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "ظننتها غير نائمة، وكلهم يفعلون ذلك"، أي: كل الحاضرين يفعلون، فسأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحاضرين، فقام عددٌ كبيرٌ منهم وقالوا: نعم. فأنزل الله -عَزَّ وَجلَّ- الآية: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾، فنُسِخَ ذلك الحكم رحمةً من الله -عَزَّ وَجلَّ- بعباده، فإذا غربت الشَّمس حلَّ للصَّائِم كل شيء كان محرمًا عليه بالصِّيام، من الأكل والشرب والجماع، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فنُسِخَ ما كان موجودًا في أول الأمر.
قال تعالى: ﴿الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾، أي: الجماع.
قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾، يعني: يسترنكم عن الوقوع في المحرَّمات، وأنتم أيضًا تسترونهنَّ، والمقصود من ذلك: الستر عن الوقوع في المحرَّمات.
والتعبير بـ "اللباس" فيه إشارة إلى القرب والملابسة، فكأنَّه أثناء الجماع يلبسها وتلبسه.
قال تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾، فيه المعنى الذي ذكرتُ، وهو أنَّ بعض الصحابة كان يقع في الجماع في أوَّل الأمر وكانوا ممنوعين منه.
قال تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، قيل تفسير الآية: هو طلب الولد، لأن الإنسان يطلب الولد بالجماع، والولد قد يحصل منه منافع كثيرة، وهو من زينة الحياة الدنيا كما قال تعالى: ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ [الكهف: 46]، فمن أسباب تحصيل الولد هو مواقعة الزَّوجة، ولهذا قال: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، المقصود بذلك: بياض النهار من سواد الليل، فالخيط الأبيض: هو بياض النهار. والخيط الأسود: هو سواد الليل.
وجاء في صحيح مسلم وغيره عن عَدِيٌّ بن حاتم أنَّه لما نزلَ قولُ الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، قام وأحضر خيطين أبيض وأسود، وجعلهما تحت وسادته، وجعل يأكل ويشرب حتى يطلع الصبح فيرى الأبيض من الأسود، فلمَّا علم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له: «إنَّ وسادَكَ لعريضٌ طويلٌ، إنَّما هوَ اللَّيلُ والنَّهارُ»، وقالَ عثمانُ: إنَّما هوَ سَوادُ اللَّيلِ وبياضُ النَّهارِ، ونزل قول الله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ لما حصل ذلك من عَدِيٌّ من باب زيادة التَّوضيح، فكانت الآية: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾.
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ وسادَكَ لعريضٌ طويلٌ»، فيه أقوال:
- قال بعض العلماء: إنَّ هذا الكلام على ظاهره، يعني: كيف يكون وسادك اتَّسعَ لأن تنام عليه ولوضع الخيطين عليه، إذًا هذا وساد عريض.
وقيل: إنَّ هذا فيه تعريض، والمعنى: كيف تفهم هذا الفهم، والعرب كانوا يقولون مثل هذا الكلام، كمثل قولهم: إنَّ رقبتك عريضة، أو إنَّك لعريض القفا؛ يعني: كيف لم تفهم هذا.
وعلى كل حال فالذي يظهر هو أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يقصد بذلك الإساءة لعدي، وإنَّما يكون المعنى الأول وهو أنَّ النَّص على ظاهره، أو قصد ممازحته وملاطفته بهذه العبارة.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، الليل يبدأ بغروب الشَّمس.
قال تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، فنهى الله تعالى عن الجماع ومقدِّماته للمعتكف في المسجد.
قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.
ننتقل بعد ذلك إلى الأحكام والفوائد:
أولًا: دلَّت هذه الآية على امتنان الله -عَزَّ وَجلَّ- على عباده ورحمته بهم بإباحته الرَّفث إلى نسائهم في ليالي رمضان بعد أن كانوا ممنوعين منه، فهذه نعمة من الله -عَزَّ وَجلَّ-، وكان بعض الصحابة لم يتحمَّل، فكانوا يختانون أنفسهم، أي: يقعون في الرفث في الليل وهم ممنوعون منه، ولكن الله -عَزَّ وَجلَّ- من رحمته بعباده وكرمه وفضله وجوده أباح ذلك، فنُسخ ذلك الحكم.
ثانيًا: أنَّ الزَّوجة سترٌ للزَّوجِ، والزَّوج سترٌ للزَّوجة، وبينهما في القرب كما بينَ الثِّياب ولابسيها، ثم إنَّ كلًّا من الزوج والزوجة يكون سببًا لإحصان الطرف الآخر، فالنِّكاح سببٌ لإحصانِ الفرج وغضِّ البصرِ، والنِّكاح فيه فوائد كثيرة، ولهذا جعله الله تعالى من سنن المرسلين، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ [الرعد: 38]، ولما سأل بعض الصحابة عن عبادة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تقالُّوها، ثم قالوا: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غفر له ما تقد من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: "أما أنا فأصوم ولا افطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقدُ أبدًا. وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء". فقال -عليه الصلاة والسالم: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، فبيَّن -عليه الصلاة والسلام- أن الغربة عن الزَّواج لأجل التَّبتُّل والعبادة هو خلاف للسنة ورغبة عنها، وهذا ليس موجودًا في شريعة الإسلام، فلا رهبانيَّة في الإسلام، وهذا موجودٌ في بعض الديانات، فتجد أنَّ الرَّاهب في النَّصرانيَّة ينقطع ويتبتَّل ولا يتزوَّج، فهذا ليس موجودًا في الإسلام، ولهذا استأذن بعض الصحابة في الاختصاء، فلم يأذن لهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ الإنسان إذا اختصَى -أي: قُطعت خصيته- انعدمَت الشَّهوة عنده تمامًا، فهم كانوا يريدون التفرغ للآخرة، وهذه الشَّهوة قد تشوِّش علينا التَّعبُّد لله، فلم يأذن لهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الإسلام يريد من الإنسان أن يندمج في الحياة، فلا رهبانية في الإسلام، فاندمج في الحياة وافهم العبادة بمعناها الشامل، والعبادة تكون في كل شيء، وهي: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّ الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظَّاهرة والباطنة، حتَّى في إتيانه لأهله، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام: «وفي بُضعِ أحدِكمْ صَدقَةٌ»[19]. فقالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته فيكون له أجر؟ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال أرأيتُمْ لو وضعها في حرامٍ أكان يكونُ عليه وِزْرٌ؟»، قالوا: نعم يا رسول الله. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فكذلِكَ إذا وضعها في الحلالِ يكونُ لهُ أجرٌ».
ثالثًا: علم الله -عَزَّ وَجلَّ- بما في النفوس، فالله تعالى قال: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾، فالله تعالى يعلم بما في نفس العبد، بل يعلم السر، وما هو أخفى من السر، وهو ما تُحدِّث به نفسك قبل أن تحدِّث به نفسك، سبحان الله! ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ [الملك: 14]، فالله تعالى عليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء، ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ﴾ [يونس: 61]، فهو -جلَّ وعلا- يعلم ما في النفوس، ألا يعلم مَن خلق!
رابعًا: أنَّ الإنسان كما يخون غيره فقد يخون نفسه، ولهذا قال تعالى: ﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾، فعندما يقع الإنسان في المعاصي فهو يخون نفسه، أو عندما يقصِّر في حق الله سبحانه؛ ويكون بهذا عدوًّا لنفسه.
خامسًا: استحباب السحور، لقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، فأذن الله تعالى في الأكل والشرب إلى أن يتبيَّن الصُّبح، وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي السحور، وهذا جاء مصرَّحا به في السُّنَّة، قال -عليه الصالة والسلام: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً»[20]، رواه مسلم، وهذا أمر، وأقل ما يُفيدُ الأمر هو الاستحباب، وهذا يدل على أن السحور سنَّة للصَّائِم، وأخبر -عليه الصلاة والسلام- بأنَّ فيه بركة، فمن بركته:
- اتِّباع السُّنَّة.
- تقوِّي الصَّائِم في نهاره، وهذا أمرٌ مُلاحَظ، فإذا تسحَّر الصَّائِم يكون نشيطًا في نهاره، بخلاف ما إذا لم يتسحَّر فإنَّه يضعف.
وعلى المسلم أن يحرص على تطبيق السنة، وأن ينوي بذلك إصابة السنة، فبعض الناس لا يتسحَّر، وتجده ينام، ثم يقوم لصلاة الفجر ناويًا الصِّيام، وهذا خلاف السنَّة، فينبغي أن تقوم قبيل أذان الفجر وتتسحَّر.
وليس المقصود بالسحور كما يفهم بعض العامَّة أنَّه لابد من وجبة كاملة، وإنما قد يكون تمرات تأكلها مع كوب ماء فهذا يكفي، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام: «نِعْمَ سَحُورُ المؤمنِ التمرُ»[21]، رواه ابو داود بسندٍ صحيحٍ، فمعنى السحور: أن تأكل شيئًا قبيل أذان الفجر، فهذا سنَّة للصَّائِم، سواء كان صيام فريضة أو صيام نافلة.
سادسًا: جواز أن يُصبح الصَّائِم جنبًا، أخذنا هذه الفائدة من قول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، يعني: وما يتبع ذلك من الجماع ونحوه.
ومعنى الآية: أنَّ الصَّائِم مسموح له في الليل بالأكل والشرب والجماع طيلة الليل حتَّى يتبيَّن الفجر، فإذا كان مسموحًا له بالجماع حتى يتبيَّن له الفجر؛ فهذا يستلزم أنه يطلع عليه الفجر وهو جُنب، وهذا لا يضر، وقد كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصبح وهو جنب ويغتسل بعد طلوع الصبح، كما أخبرن بذلك زوجاته -عليه الصلاة والسلام- فكون الإنسان لا يغتسل إلَّا بعد طلوع الفجر فهذا لا يضر بالنسبة للجنب، ولا حتى بالنسبة للمرأة الحائض مثلًا إذا طهُرَت قبل أذان الفجر، ولم تغتسل إلَّا بعدَ الأذان، فصومها صحيح.
سابعًا: الفجر الصادق هو الذي يُحرِّم الأكل والشرب والجماع وسائر المفطِّرات على الصَّائِم، ويكون بتبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولهذا قال سبحانه: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾.
وهناك الفجر الكاذب: وهو الذي يكون كذنب السرحان، ويكون عموديًّا.
والفجر الصادق: هو الذي يخرج معترضًا في الأفق، وإذا خرج فإنَّه يزداد ضوءه شيئًا فشيئًا حتى ينفجر، فهذا هو الذي يُحرِّم الأكل والشرب على الصَّائِم، وهو الذي يدخل معه وقت صلاة الفجر.
ثامنًا: أنَّ مَن أكل وشرب شاكًّا في طلوع الفجر فصومه صحيح، وأخذنا هذا من قوله -سبحانه: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾، يعني يتبيَّن بشكلٍ واضح، فمن أكل أو شرب وهو شاكٌّ لم يتبيَّن له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيكون صومه صحيحًا، وهذا قد نصَّ عليه الفقهاء، وقالوا: مَن أكل أو شرب وهو شاكٌّ في طلوع الفجر فإنَّ صومه صحيح؛ لأنَّ الأصل بقاء الليل.
تاسعًا: وقت الصِّيام ينتهي بالليل، لقوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، والليل يبدأ بغروب الشَّمس، ويكون الغروب بسقوط القرص تحت الأفق في المكان المستوي، وليس بذهاب الحُمرة، وإنَّما بمجرد سقوط القرص يجوز الفطر للصَّائِم، ويدخل وقت صلاة المغرب.
ويُمكن الآن أن يُستدل على الغروب بالتقاويم، وكذلك أجهزة الإحداثيَّات، وهي دقيقة بالنسبة لشروق الشمس وغروبها لكن في المكان المستوي، أما في المكان المرتفع فلا، لأن المكان المرتفع أحيانًا يحصل فيه إشكال، فلابد من حساب الارتفاع، أما في المكان المستوي أو الهضبة المستوية مثل مدينة الرياض؛ فغروب الشمس في التَّقاويم دقيق، فيُعتَمد عليه.
عاشرًا: مشروعيَّة الاعتكاف، لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعتكف في العشر الأواخر من رمضان.
والاعتكاف: هو لزوم المسجد لطاعة الله سبحانه، وهو مشروعٌ للرجال والنساء.
وأفضل أوقات الاعتكاف: العشر الأواخر من رمضان.
والآية فيها إشارة لذلك، لأن الله تعالى ذكر الاعتكاف في آخر آيات الصِّيام، وهذا فيه إشارة أن الاعتكاف ينبغي أن يكون في آخر شهر الصِّيام، وفي العشر الأواخر من رمضان، كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غالبًا يفعل ذلك، فكان معظم المرات يعتكف في العشر الأواخر، وإن كان في أول الأمر اعتكف في العشر الأوَل طلبًا لليلة القدر، فقيل: إنَّ ليلة القدر أمامك، فاعتكف العشر الأواسط، فقيل: إن ليلة القدر أمامك، ثم استقر اعتكافه على العشر الأواخر، إلَّا في سنة من السَّنوات تنافس زوجاته، وكل زوجة أتت بخباء لكي تعتكف معه في المسجد، فلمَّا رأى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الأخبية قال: «آلبِرَّ أردْنَ بهذا؟»[22]، ثم أمر بنزع الأخبية، وقال: «لن أعتكف هذا العام»، لكنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضى هذا الاعتكاف في العشر الأولى من شهر شوال، وما عدا ذلك كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فأفضل ما يكون الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وهو مشروعٌ للرجال وللنساء.
وفي قوله سبحانه: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، فيه إشارة إلى أنَّ الجماع ومقدِّمات يُبطل الاعتكاف، فلا يجوز للمعتكف أن يُجامع، ولا أن يأتي بمقدِّمات الجماع، وهذه المسألة قد يُحتاج لها فيما لو اعتكف في المسجد، ثم ذهب إلى دورة المياه في بيته لعدم وجود دورة مياه في المسجد، أو كونها غير مهيَّأة، أو ذهب إلى بيته لحاجة؛ فهنا ليس له أن يأتي أهله، ولا حتى أن يأتي بمقدِّمات الجماع.
قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾، المقصود بحدود الله: محارم الله.
والحدود قد تُطلَق على المحارم، وقد تُطلق على آخر الحلال.
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، وضَّح الله تعالى وبيَّن أنَّ الصِّيام لأجل تحقيق التَّقوى لله سبحانه.
ولاحظ أن لفظ "التَّقوى" تكرَّرَ في آيات الصِّيام، فقال تعالى في الآية الأولى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وفي آخر آية في الصِّيام قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، وهذا فيه إشارة إلى أنَّ المقصود من الصِّيام هو تحقيق التَّقوى لله -سبحانه وتعالى- والصَّائِم الذي لا يُحقِّق هذه الثَّمرة لا يكونُ قد حقَّقَ المقصود من الصِّيام، ولا يُؤجَر على الصِّيام؛ وإن كان يحصل به براءة الذِّمَّة، كما قال -عليه الصلاة والسلام: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ»، أخرجه البخاري في صحيحه، فمَن لم يتأدَّب بآداب الصِّيام ويُمسك عن المحرمات القوليَّة التي أشار لها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: «قَوْلَ الزُّورِ»، والمحرمات القولية وهي ما أشار إليها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: «والعَمَلَ به»؛ قد يصل إلى مرحلة أنَّه لا يُؤجر على هذا الصِّيام، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه؛ لأنَّ الصِّيام ليس فقط الإمساك عن الأكل والشرب والجماع والمفطرات الحسيَّة فحسب؛ بل يشمل الإمساك عن المعاصي، فكل معصية تخدش الصوم، وكل معصيةٍ تُنقِصُ من أجرِ الصَّائِم، وإذا كثُرَت المعاصي قد يل إلى هذه المرحلة المذكورة في الحديث «فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ».
{ما حكم الأكل على الأذان؟ أي: يأكل الإنسان ويشرب والمؤذِّن يؤذِّن﴾.
لا بأسَ بذلك، لأنَّ السُّنَّة قد دلَّت لهذا، كما في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالْإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ، فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ»، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وله عدَّة طرق وشواهد، وهو ثابتٌ بمجموعها، وهذا نصٌّ في المسألة.
أيضًا من جهة النَّظر: فإن الفجر عندما يطلع لا يخرج دفعة واحدة كمصباح يُضيء، فهو ليس كبقيَّة الأوقات، يعني في الزَّوال: تزول الشمس في لحظةٍ، والعصر حين يُصبح ظل كل شيء مثله يكون في لحظة، ولكن الفجر لا يخرج في لحظة، فالإضاءة تزداد شيئًا فشيئًا، ولذلك قد يرقب الفجر اثنان فيختلفان، أحدهما يقول: طلع. والآخر يقول: ما طلع.
ولهذا نقول: لا بأس للإنسان أن يأكل ويشرب وقت الأذان، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالْإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ، فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ»[23]، ثم يقف مع نهاية الأذان.
{أحسن الله إليكم.
في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيُّها المشاهدون- على طيب المتابعة، ونشكر فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان. فشكرًا لكم يا فضيلة الشيخ}.
وشكرًا لكم وللإخوة المشاهدين.
{نلقاكم في حلقة قادمة، نستودكم الله، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[10] رواه ابن ماجه
[11] البخاري (1145)، ومسلم (758)
[12] البخاري (2448)، ومسلم (19).
[13] متفقٌ عَلَيْهِ
[14] مسلم (633)
[15] البخاري: (4456)
[16] مسلم (757)
[17] مسلم (1429)
[18] رواه ابن ماجه
[19] مسلم (1006)
[20] البخاري (1923)، ومسلم (1095).
[21] أخرجه أبو داود
[22] رواه البخاري (2045)، ومسلم (1173).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك