الدرس الخامس

فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

4960 6
الدرس الخامس

تفسير آيات الأحكام

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم -أيُّها المشاهدون الكرام- في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل في هذه الحلقة سلسلة دروس تفسير آيات الأحكام، وضيفنا فيها فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهيَّة السعوديَّة، وأستاذ الفقه بكليَّة الشَّريعة بجامعة الإمام، فمرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلا، حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{نستأذنكم شيخنا الكريم في الاستماع إلى تلاوة هذه الآيات، ثم نعود إلى استكمال الشرح.
قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 198 - 203]}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فكنَّا في الحلقة السابقة قد بدأنا بالكلام عن آيات الحج في سورة البقرة، من قول الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
بعد ذلك تأتي هذه الآيات، ابتدأها ربنا سبحانه بقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾،
 وهذه الآية نزلت في نفرٍ من الصحابة كانوا يتعاملون بالتِّجارة في الحجِّ، فأتى مَن أنكرَ عليهم وقال: كيف تتعاملون بالتِّجارة وأنتم أتيتم للعبادة -للحج- فكيف تأتون لمزاولة أمور دنيويَّة وتجارة وبيع وشراء؟!
فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه الآية في رفع الحرج عن مَن أراد أن يتعامل بالتِّجارة مع الحج، فقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
والمراد بالجناح: الإثم، والميل عن الحق.
وهذا قد تكرر في القرآن الكريم، وسُمِّيَ "جناح"؛ لأن فيه ميل عن الحق كجناح الطائر، فترى جناح الطائر يكون فيه ميلان وخفوق.
والمعنى: ليس عليكم إثم أن تبتغوا فضلا من ربكم.
وقوله: ﴿تَبْتَغُوا﴾، يعني: تطلبوا.
وقوله: ﴿فَضْلًا﴾، أي: المصالح الدنيوية كالتجارة ونحوها.
وقد كان للعرب أسواق يُتاجرون فيها، خاصَّة عندما يقترب موسم الحج، كسوق عكاظ ومجنَّة وذي المجاز، فكانت هذه الأسواق رائجة عندما يأتي موسم الحج؛ لأنَّ الناس يفدون إلى بيت الله الحرام من سائر الأقطار، فكانت قريش تستفيد من هذه الأسواق في عرض تجارتها في البيع والشراء، وهنا سمَّى الله -عَزَّ وَجَلَّ- التجارة في أشهر الحج "فضلًا" وهذا من باب التأكيد للجواز، فهي فضل من الله -عَزَّ وَجَلَّ.
إذًا؛ معنى الآية: ليس عليكم حرج في أن تزاولوا التجارة والبيع والشراء في الحج.
قال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾.
قوله: ﴿أَفَضْتُمْ﴾، أي: دفعتم، وفيه إشارة لكثرة الناس، وذلك لأنَّ لفظ "أفاض" مأخوذٌ من فاض الماء، إذا امتلأ وتصبَّبَ من نواحيه، فالإفاضة تعني أنَّ الحجاج سيكونون كثيرين، وستمتلئ بهم عرفات، ثم عندما يدفعون وينصرفون سيفيضون إفاضة في هذا الدَّفع، وهذا هو ما تحقق بالفعل، فنجد كثرة الحجيج على مرِّ العصور.
قوله: ﴿مِنْ عَرَفَاتٍ﴾، اسم للمكان المعروف "عرفات"، وهو الآن محدَّد بعلامات واضحة بيِّنة، وفي تسميته "عرفات" أقوال:
منها: أنَّ آدم وحواء تعارفا فيه، فإنَّ آدم أُهبِطَ من الجنَّة، وكذلك حواء أُهبِطَت من الجنَّة، فجعل كلا منهما يبحث عن الآخر، واختُلف في أي مكانٍ التقيا، فقيل: في بلاد الهند، وقيل: في جُدَّة، وقيل: في عرفات، وإن كان هذا ليس عليه دليلٌ ظاهر بسندٍ صحيح، ولكن هذا قول مشهور.
ومنها: أنَّ جبريل لَمَّا أتى لإبراهيم الخليل -عليه السلام- يُعلمه المشاعر، فكان إبراهيم يقول: "عرفتُ عرفتُ".
ومنها: أنَّه سُمِّي بـ "عرفات" لِعُلوِّه وارتفاعه، ومنه عُرفُ الدِّيك، منه الأعراف، فهذه المادة تدلُّ على العلو والارتفاع.
فهذه أقوال قيلت في وجه تسميتها بعرفات، والله تعالى أعلم، وإن كان أقربها القول الأخير، والأول والثاني ليس عليه دليلٌ ظاهر، إنَّما هي أُطلِقَت هكذا في كتب التفسير وفي غيرها، وإلَّا لو وُجدَ لها سندٌ صحيحٌ لتعيَّن الأخذ بها.
أمَّا القول الأخير فهو من مُنطلق المعنى اللغوي لهذه الكلمة.
وعرفات مشعر حلال خارج الحرم، ومع ذلك فإنَّ الوقوف به هو آكد أركان الحج؛ لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحجُّ عَرَفةُ»[30].
والحكمة من ذلك: حتَّى يجمع الحاج بين الحلِّ والحرم؛ لأنَّ الحاج عندما يتنقَّل في المشاعر، فإنَّ مِنَى من الحرم، ومزدلفة من الحرم، والمسجد الحرام وما حوله؛ فهذه كلها من الحرم، إلَّا عرفات فإنَّه من الحل، حتَّى يصدق عليه اسم "الجمع بين الحل والحرم"، فكانت الحكمة أنه يذهب ويقف بعرفات في ذلك المكان وإن كان خارج الحرم.
كما أنَّ مَن كانَ يُريدُ العمرة وهو في مكَّة لابدَّ أن يخرج خارج حدود الحرم، كالتَّنعيم مثلًا ويُحرِم منه، حتى يجمع بين الحلِّ والحرم.
قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾، المشعر الحرام هو اسمٌ من أسماء مزدلفة، وتُسمَّى "جمع" أيضًا.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، أي: أفيضوا من عرفات؛ لأنَّ عرفات هي التي يُفيضُ منها الناس، فإنَّ قريشًا كانت لا تقف بعرفة، وإنَّما تقف بمزدلفة، ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، وبقيَّة الناس من غير قريش يقفون بعرفات، فكانت قريش تضع لها امتيازات وخصوصيَّة، فلا يقفون بعرفات ويقفون بمزدلفة لأنَّهم أهل الحرم، وعرفات ليست من الحرم؛ فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه الآية ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، وليس من حيث أفاضت قريش، يعني: أفيضوا من عرفات وليس من مزدلفة، ولذلك خالف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قريشًا في هذا، لمَّا دفعَ من مِنَى وكان في طريقه مزدلفة، فقال الصحابة: لم نشك أنَّه سيقف بمزدلفة لأنَّه من قريش، لكنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استمرَّ حتَّى وقفَ بعرفات، فأبطلَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- هذا المعتقد الموجود عند قريش وأهل الجاهليَّة، وأكَّده القرآن بهذه الآية ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾.
وعندما نتأمَّل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ كيفَ تأتي "ثمَّ" وفي الآية قبلها قال ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾؟
كثير من المفسرين قالوا: إنَّ هذا من باب الترتيب الذكري فقط، وليس من باب الترتيب الحكمي، وهذا أسلوبٌ معروفٌ عند العرب، أنَّ الإنسان يتحدَّث ثم يرجع ويؤكِّد على ما يُريد أن يقوله، ويأتي بـ "ثُمَّ".
وقال بعضهم: إن المقصود بقوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، أي: ادفعوا من مزدلفة إلى مِنَى بعد الوقوف بمزدلفة.
والأول أقرب، لأن الله قال: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، ففيه إشارة إلى أنَّ فيه إفاضة للناس، وفيه إفاضة لغيره -وهي إفاضة قريش.
وقال بعض المفسرين: يحتمل أن يكون المقصود: ثم أفيضوا من عرفات، وأيضًا: ثمَّ أفيضوا من مزدلفة إلى مِنَى، وهذا أوسع في دلالة الآية.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾.
كانت العرب إذا قضت المناسك وقفت بمِنَى يتفاخرون بآبائهم، فهذا يقول: أبي كان يفعل كذا، وهذا يقول: أبي كان يفعل كذا..؛ يفتخرون بمآثر آبائهم وأجدادهم، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه الآية: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، فكما أنَّكم تذكرون آباءكم؛ فاذكروا الله ذكرًا أشد من ذكركم آبائكم.
وقال بعض المفسرين في معنى الآية: أي أكثروا من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما أنَّ الطفل يذكر أباه.
تجد الطفل أول ما يتكلم يقول: أبي، أمي...، فهو أول ما يلهج به لسانه أن يتحدَّث عن أبيه وأمِّه.
فكأنَّ معنى الآية: كما أنَّ الطفل يتعلق بذكر أبيه وأمه؛ أنتم أيضًا أكثروا من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما يذكر هذا الطفل أباه وأمَّه أو أشد.
قال تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾.
كان هناك بعض الناس -خاصَّة بعض الأعراب- يدعون الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأمور الدنيا فقط، ولا يدعون بأمور الآخرة، فيقولون: نسألك اللهم أن تجعل هذا العام عامَ خصبٍ وغيثٍ، وأن تسقينا فيه المطر، فيدعون بأمور دنيويَّة فقط؛ فأنكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم.
قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، فأثنى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم فقال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾.
ما هي الحسنة التي في الدنيا؟
الحسنة هي: كل ما يستحسنه الإنسان من الصِّحة ومن المال وسعة الرزق والزوجة الصالحة، والدار الواسعة، والمركب الهنيء، ونحو ذلك. وما رويَ عن بعض السلف في هذا إنما هو مجرَّد أمثلة.
وباختصار: كأنَّك تقول: يا رب اجعلني سعيدًا في الدنيا.
وأمَّا الحسنة التي في الآخرة فهي الجنة، قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى: هي الجنة. والزيادة: النَّظر إلى وجه الله الكريم.
قال تعالى: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، يعني: جنِّبنا دخول النار، واعصمنا ممَّا يوجب دخولها، وذلك بأن تعصمنا من الذنوب التي تكون سببًا لدخول النار، وأن تغفر لنا ذنوبنا التي قد توجب دخول النار.
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾. الأيام المعدودات: هي أيام التشريق، وهي أيام الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر؛ من شهر ذي الحجَّة.
أمَّا الأيام المعلومات التي ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ [الحج: 28]، فهي أيام عشر ذي الحجَّة.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، يعني في اليوم الثاني عشر.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، يعني: مَن تأخَّر لليوم الثالث عشر. قال: ﴿لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
أبرز الفوائد والأحكام:
أولًا: دلَّ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، على جواز الاتِّجارِ في الحجِّ، وأنَّه لا بأس أن يُزاول الإنسان التِّجارة ولو كان قد أتى للحجِّ، فلو أتى ليبيع وليشتري، أو عنده شركة حجِّ ونحوه؛ فلا حرج في ذلك، ولا بأس أن يجمع بين نية الحج وبين نية التِّجارة.
وهذا يقودنا إلى مسألة معروفة عند العلماء وهي: حكم التَّشريك في النِّيَّة.
التَّشريك في النِّيَّة: أن ينوي بعمله التقرب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأن ينوي معه أمرًا دنيويًّا، فينوي مثلًا الحج والتِّجارة، ينوي التقرب إلى الله بطلب العلم وينوي الحصول على الشهادة، ينوي التقرب إلى الله بالصيام وينوي تخفيف الوزن والآثار التي تعود على الصحة من الصيام؛ فهو يُريد بذلك التقرب إلى الله، ويُريد مع ذلك أمرًا دنيويًا، كأن يُريد أن يستغفر يُريد بذلك الأجر من الله ويُريد بذلك المنافع الدنيوية للاستغفار، ويُكثر من الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُريد بذلك الأجر من الله ويُريد ما ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أنَّ الصلاة عليه سببٌ لتفريج الهموم، إلى غير ذلك؛ فيجمه في النية بين التَّقرُّب إلى الله وبين أمرٍ دنيوي، فهذا هو التشريك في النية.
وهذه المسألة تختلف عن مسألة الرياء، فإنَّ الرياء يُحبط العمل، ومعناه: أنَّه يأتي لعبادة ويُريد بها الناس، فيُصلِّي لأجل أن يراه الناس، ويصوم لأجل أن يراه الناس، ويتصدَّق لأجل أن يُقال إنَّه كريمٌ جوادٌ؛ فهذا يُحبط العمل، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول في الحديث القدسي: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[31]، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ وسَّعَ اللَّهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ»[32]، فهؤلاء وقع منه الرياء، والرياء محبط للعمل.
وهنا نقصد أنَّ هذا الإنسان غير مُراءٍ، ولكنه يُريد التقرب إلى الله، ويُريد أمرًا دنيويًّا، يُريد أن يأتي إلى الحج تقربًا إلى الله ويُريد مع ذلك تجارة، يأتي إلى الكليَّة الشرعيَّة يريد التقرب إلى الله بطلب العلم، ويُريد بذلك الحصول على الشهادة ونحو ذلك؛ فهذه المسألة هي التشريك في النية التي نقصدها. لا شكَّ أنَّه لو أخلصَ النية لله -عَزَّ وَجَلَّ- فهذا أكمل وأفضل.
ما حكم تشريك النية؟
الجواب: لا بأس به، وذلك بدلالة الآية، فالله تعالى قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، يعني في الحج، فالله تعالى نفى الجناح والحرج والإثم عن مَن أراد أن يُزاول التجارة ويُريد الحج أيضًا.
كذلك قول الله تعالى عن نوح: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [نوح: 10]، ثم ذكر منافع ومصالح دنيويَّة في قوله: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 11، 12]، فكلها مصالح دنيوية مترتبة على الاستغفار.
أيضًا قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ»[33]، مع أن النية في القتال في سبيل الله لها أهميتها، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا ذكر الرجل يُقاتل رياءً ويُقاتل شجاعة ويُقاتل حميَّة، ويُقاتل ليُرى مكانه؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»[34]، ومع ذلك قال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ»، من باب التشجيع، حتى يتشجَّع مَن معه فيحرصون على القتال.
ومعنى الحديث: مَن قتل قتيلًا واستطاع أن يُثبت أنه قتل فلانًا من العدو؛ فيُعطَى سلبه، أي ما معه من سلاحٍ وخيلٍ ونحو ذلك.
ومعنى ذلك: أنَّ الذي سيُقاتل سيجمع في نيته التقرُّب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وبين الحصول على السَّلب.
والقول بالتشريك في النية فيه خلاف، ولكن القول الرَّاجح: لا بأس بالتَّشريك في النية، لهذه الأدلة، وهي أدلة -كما ترى- قويَّة، فالآية التي معنا كالنَّص في المسألة، قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
{هل هذا في كل العبادات؟ فإن بعض العلماء يُفرق فيقول: هناك عبادات محضة، مثل الصلاة، فلا يجوز فيها نية شيءٍ آخر، ولو نوى الصحَّة، ولو نوى قوَّة البدن، أما العبادات الأخرى مثل الحج والجهاد يجوز فيها التشريك في النية. فما قولكم؟}.
هذا التفريق لا دليل عليه، فالحج مطلوب فيه أيضًا إخلاص النية لله، وكذلك الجهاد، كل العبادات مطلوب فيها الإخلاص، ولكن بعض الناس ربما تشتبه عليه هذه المسألة بمسألة الرياء، فإنَّ الرياء يُحبط العمل، لكن لو أراد أن يُصلِّي وجمع بين نية الصلاة ونية الرياضة والنشاط فهذا لا بأس، ولا يُبطل الصلاة.
ثانيًا: ينبغي للإنسان في تجارته وبيعه وشرائه أن يكون مترقبًا لفضل الله سبحانه، وأن لا يعتمدَ على نفسه، لقوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ما قال: تتاجروا، تبيعوا، تشتروا...، فكأن الذي يبيع ويشتري يترقَّب الفضل من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ويترقب أن الله تعالى هو الذي يرزقه، وهو الذي يُبارك في تجارته، فهذه المعاني ينبغي أن تكون حاضرة في ذهن المسلم عندما يُزاول التجارة، وهو أن يرجو الفضل من الله، ويترقب الفضل من الله، فهذا له أثر في سعة الرزق وفي البركة في التجارة.
وقد صحَّ عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- أنه أتاه ضيف، فسأل زوجاته، فقلنَ: ما عندنا شيء، فقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهَا إِلاَّ أَنْتَ»، ثم أُهدي له شاة مَصليَّةٌ، فقال-عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ: «هذِهِ مِن فضلِ اللَّهِ ونحنُ ننتَظرُ الرَّحمةَ»[35]، وهذه القصة سندها صحيح.
إذًا؛ الإنسان يرجو الفضل من الله -سبحانه وتعالى-، فإذا أراد أن يزاول التجارة فيتوكل على الله، ويترقب الفضل من الله، كما قال-عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَانًا»[36].
ثالثًا: مشروعيَّة الوقوف بعرفة، لقوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾، فسمَّى الله "عرفات" باسمها، وذكر هذا الوقوف ومشروعيَّته، وهو آكد أركان الحج، فأركان الحج أربعة:
1- الإحرام.
2- الوقوف بعرفة.
2- طواف الإفاضة.
3- السعي.
وآكدها الوقوف بعرفة، لقوله-عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ: «الحج عرفة»، ومن فاته الوقف بعرفة فلا حجَّ له.
رابعًا: أنَّ الصلاة من ذكر الله تعالى، لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾، فمن المعروف أنَّ الإنسان أول ما يصل إلى مزدلفة يُصلي صلاة المغرب والعشاء.
وبعض المفسرين قال: إن المقصود من قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ صلاة المغرب والعشاء في مزدلفة.
والأقرب -والله أعلم: أنَّ صلاة المغرب والعشاء في المزدلفة من ذكر الله، لكن لا ينحصر ذكر الله المذكور في الآية فيها، وهذا فيه إشارة إلى أنَّ الصلاة من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- لقوله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14].
خامسًا: أن مزدلفة من الحرم، لقوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾، فوصف الله تعالى مزدلفة بوصفين:
الأول: أنها مشعَر.
الثاني: أنها حرام.
ومن الفقهاء مَن قال: إن الوقوف بمزدلفة ركنٌ.
ومنهم مَن قال: إنه سُنَّة.
والقول الراجح: أنَّ الوقوف بمزدلفة واجبٌ من واجبات الحجِّ؛ لأنَّ الله تعالى أمرَ به في قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾.
سادسًا: أنَّ المسلم عليه أن يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- لِما أنعم به عليه من الهداية؛ لقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾.
الكاف هنا هل هي للتعليل أو للتَّشبيه؟
- لو كانت الكاف للتعليل، فيكون قوله: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾، أي: اذكروه لأنَّه هداكم، فاذكروه -عَزَّ وَجَلَّ- شكرًا على نعمة الهداية.
- أمَّا لو كانت الكاف للتشبيه، فيكون قوله: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾، أي: فاذكروه على الوجه الذي هداكم له، ويكون المعنى: لا تذكروا الله تعالى إلا على الصفة الواردة التي هداكم الله إليها، وذكرها الله في القرآن، وذكرها رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنَّته.
والصَّواب: أنَّ الآية تحتمل المعنيين، وعندنا قاعدة في التفسير. وهي: أنَّ الآية إذا احتملت أكثر من معنى وليس بينها اختلاف فتُحمَل على جميع المعاني؛ لأنَّ هذا أوسع في دلالتها وأبلغ، المهم أن لا يكون بين المعنيين تضاد أو اختلاف.
إذًا؛ الآية تُحمَل على المعنيين جميعًا:
- اذكروه لأنه هداكم.
- واذكروه على الوجه الوارد، فلا يأتي الإنسان بأذكار لم ترد، وإنَّما يعبد الله كما أراد الله وليس كما أراد هو، ولذلك تجد بعض الأذكار فيها بدع، وبعض الناس يقول: الله الله الله. فهل هذا ذكر! وما دليله؟! إنَّما لو قال "لا إله إلا الله، سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر"، فهذا ورد عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والأصل في العبادات التوقيف، فنحن نعبد الله كما أمر الله.
وأصل البدع هو: الاستحسان العقلي، فيأتي إنسان ويستحسن بعقله، ويأتي مَن يقلِّده، فتنتشر البدع بهذه الطريقة، فالأصل في العبادات التوقيف، قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
سابعًا: ينبغي تذكر الناس بحالهم قبل النِّعم، ليعرفوا بذلك قدر هذه النِّعَم، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾، يعني: حتَّى تعرفوا قدرَ نعمة الهداية عليكم فانظروا إلى حالكم قبل أن يهديكم الله، فإنَّكم كنتم من قبله من الضالين، فنعمة الهداية من أعظم النِّعم، وانظر إلى أحوال الصحابة قبل أن يهديهم الله للإسلام، فانظر إلى عمر بن الخطاب كيف كانت حاله قبل الإسلام، وكيف كانت بعد الإسلام، فكان قبل الإسلام يسير في الطرقات بلا هدف، أما بعد الإسلام أصبح من عظماء التاريخ، فهذا من آثار نعمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه بالهداية، ولهذا امتنَّ الله تعالى عليهم بقوله ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾، وأيضًا امتنَّ الله على نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى:6-8]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر قصَّة الملك الذي أتى الأقرع والأبرص والأعمى، فقال: «أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟»[37]، فذكَّره لأجل أن يعرف نعمة الله عليه.
وحتَّى يعرف الناس قدر نعمة الله عليهم ينبغي أن يُذكَّروا بحالهم قبل حصول تلك النِّعم.
على سبيل المثال: أناس عندنا هنا في المملكة مرَّ عليهم فقر شديد قبل أكثر من ثمانين عامًا، وكان بعض الناس لا يكاد يجد ما يأكله إلَّا تمرات، فأنعم الله تعالى على الناس بهذه النِّعم العظيمة، كالرخاء ورغد العيش، والأمن والأمان، والاستقرار؛ فحتَّى يعرف الناس قدر هذه النِّعم ينبغي تذكيرهم بحالهم قبل ذلك، فالنِّعم تُعرَف بأضدادها، وحتى يشكر الإنسان النِّعمة لابدَّ أن يعرف قدرها، وحتى يعرف قدرها لا بد أن يعرف ضدَّها، ومن الأمور التي يستطيع الإنسان أن يعرف بها قدر النِّعمة: أن يذكر حاله قبل أن تحصل تلك النعم كيف كانت، وهذا معنًى ألمحتْ إليه الآية الكريمة ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾.
ثامنًا: أنَّ الإنسان في أحكام الله سواء، فلا يُخصُّ أحدٌ منهم بحكمٍ، لقوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، فقريش أرادت أن تضع لها امتيازات وخصوصيَّة، فقالوا: لا نقف بعرفة، نقف بمزدلفة، وبقية الناس يقفون بعرفة؛ فأنكر الله عليهم، لأنَّ الناس في أحكام الله سواء، فالحجاج كلهم يفيضون من عرفات، وما أحد له ميزة فيقف بمزدلفة وبقية الناس يقفون بعرفات، فالناس في دين الله سواء، ولهذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]، فالناس سواسية في أحكام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وفي شرع الله، وفي دين الله، وليس لأحدٍ منهم خصوصيَّة لا بنسبٍ ولا بمالٍ ولا بأي شيءٍ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى»[38].
تاسعًا: أنَّه يُشرَع الاستغفار في آخر العبادات، لقوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وهذا قد ورد في صلاة الجمعة، فقال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10]، وكذلك المصلي عندما ينصرف من الصلاة يقول: «أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله»، فيُشرع الاستغفار في ختام العبادات.
وكذلك عندما يفرغ المسلم من قيام الليل ينبغي أن يُكثر من الاستغفار في هذا الوقت الذي يعقب قيام الليل، ولهذا أثنَى الله تعالى على المستغفرين بالأسحار فقال: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17]، وقال: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 18].
وخُصَّ هؤلاء بالاستغفار في الأسحار: لأنَّ هؤلاء قاموا الليل، وختموا قيام الله بالاستغفار.
وهذا يدلُّ على أنَّه ينبغي ختم العبادات بالاستغفار، فالإنسان إذا فرغَ من الحجِّ يستغفر، كما قال سبحانه: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ولقوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، والمصلِّي يقول بعد انتهاء الصلاة: «أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله»، فينبغي ختم العبادات بالاستغفار.
{هل لهذا حكمة يا شيخ؟}.
الحكمة: أنَّه الاستغفار قد يجبر ما قد يقع من النَّقص، وأيضًا يبعد الإنسان عن العجب، كأنه يقول: يا ربِّ ربما حصل منِّي تقصير، فلا يُعجَب الإنسان بعمله، فإذا قام الإنسان الليل ينبغي أن لا يُعجَب بهذا العمل، وإنَّما يرى التقصير عنده، فيقول: حتَّى لو قمتُ الليل فأنا مقصِّر ومذنب وعليَّ ذنوب، فأنا أستغفر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، حتَّى عندما يحج، فيأتي في آخر العبادة ويقول: أنا عبدٌ ضعيف ومقصر، فأستغفر الله تعالى. فلعلَّ هذه هي الحكمة من ختم العبادات بالاستغفار.
عاشرًا: ذمُّ مَن يطلب في دعائه الدنيا دون الآخرة، لقوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، فتخصيص الدعاء بالدنيا وإغفال أمور الآخرة مذموم، ولهذا ذمَّ الله تعالى مَن يفعل ذلك، وكما ذكرنا في سبب نزول الآية: أنَّه كان بعض الأعراب في الحجِّ يدعون الله بأمور الدنيا فقط، وهذا موجود الآن، تجد بعض الناس عنده حرص شديد على الدعاء بأمور الدنيا، ويُهمل الدعاء بأمور الآخرة، تجد أنه يدعو بسعة الرزق وبصلاح الأولاد، لكن أمور الآخرة لا يتحمَّس لها ولا ينشط لها مثل ما ينشط في الدعاء بأمور الدنيا، فها مذموم، ولو أراد أن يجمع بين الدنيا والآخرة فهذا هو الكمال، أيضًا كونه يهمل أمور الدنيا ويقتصر على أمور الآخرة فهناك درجة أفضل منها، ولهذا لم يذكر الله تعالى هذه المنزلة، فذكر مَن يدعوه بأمور الدنيا وترك الآخرة، ثم ذكر الدرجة الأكمل والأحسن ومَن أثنى الله عليهم، فقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، فالأحسن للمسلم أن يدعو الله تعالى بأمور الدنيات والآخرة، ولهذا فإن الإنسان لا يُذمُّ إذا دعا الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأمور الدنيا مع الآخرة، فيجمع بينَ الأمرين، وهؤلاء قال الله فيهم: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾.
الحادية عشر: من أفضل الأدعية التي يدعو بها المسلم: هذا الدعاء المذكور في الآية: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
قال أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إنَّ هذا الدُّعاء هو أكثر دعاءٍ يدعو به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فأكثر دعاء كان يدعو به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، لأنَّ هذا الدُّعاء يجمع لك خيري الدنيا والآخرة.
والحسنة التي في الدنيا: هي أن تعيش سعيدًا، كأنَّك تقول: يا ربِّ اجعلني في الدنيا سعيدًا، بأن ترزقني زوجة صالحة، بأن ترزقني مالًا، بأن ترزقني بما أسعد به.
وقد لا تكون السعادة في المال، فقد تكون في الطُّمأنينة، وقد تكون في الصِّحَّة والعافية، وقد تكون في أمور أخرى.
والحسنة: ما يستحسنه الإنسان، وما يكون به سعيدًا في الدنيا.
وأمَّا الحسنة في الآخرة: فهي الجنَّة، قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26].
وقوله: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، يعني: جنِّبنا ما يُدخلنا في النار من الوقوع في الذنوب والمعاصي، واغفر لنا مغفرة تمحو بها ذنوبنا وتغفر بها ذنوبنا، وهذا دعاءٌ عظيم، على وجازة لفظه إلَّا أنَّه يجمع للدَّاعي بين خيري الدنيا والآخرة، ولهذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكثر من هذا الدعاء، فاحرص أخي المسلم على أن تدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- كل يوم بهذا الدعاء، بل إن جعلته في صلاتك كان هذا أكمل؛ لأنَّ الأدعية ليست توقيفيَّة كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثم يتخيَّر من دعائه ما أعجبه»[39]، المهم لا يكون فيه اعتداء.
فلو أردتَّ في كل صلاةٍ تصليها بعدما تتعوَّذ بالله من الأربع، تقول: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، من باب قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ: «ثُمَّ يَتَخَيَّر مِنْ دُعَائِهِ مَا أَعْجَبَه»، وأنت أعجبك هذا الدعاء؛ فهذا حسن.
إذًا؛ دعاء "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" دعاءٌ عظيمٌ يبغي أن يحرص عليه المسلم، وأن يُكثر منه.
ما فائدة مَن دعا بهذا الدعاء؟
قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، فهو موعودٌ بالإجابة.
الثانية عشر: أنَّ الدُّعاء في الحجِّ حريٌّ بالإجابة؛ لأن الله تعالى ذكر جنس الدعاء في قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، ثم قال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾، وهذا فيه إشارة -كما قال بعض المفسرين- إلى أنَّه لن تُستجاب كل الدعوات، وإنَّما بعضها، وذلك لقوله: ﴿نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾، وهذا هو الواقع، فالإنسان ربما يدعو كثيرًا في الحج فيُستجاب له بعضها، والدعاء في الحج -خاصَّة في عرفة- حريٌّ بالإجابة، وأُثر عن بعض السلف أنهم كانوا يقولون: "ما دعونا الله في عرفة بشيءٍ إلَّا تبيَّنَّا إجابة الدَّعوة قبل تمام الحول"؛ لأنَّ الله وعدَ بذلك فقال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ﴾، يعني هؤلاء الدَّاعون في الحجِّ لهم نصيبٌ ممَّا كسبوا.
وفي قوله: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ إشارة إلى سُرعة إجابة الدَّعوات.
الثالثة عشر: أنَّ سرعة المحاسبة من تمام العدالة، فقوله: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، تكرَّر في القرآن، ولهذا تجد أن الجاني الذي يُحاسَب على جنايته بسرعةٍ يكون أبلغ في تحقيق العدالة من تأخير محاسبته، إنسان مجرم ثم تؤخَّر محاسبته سنوات؛ فهذا يُقلِّل من العدال، لكن لو أنَّه لمَّا ارتكب جريمته حُوسِبَ بسرعة فهذا أبلغ في تحقيق العدالة، ولهذا تجد أن الله تعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
وهل المقصود أن يوم الحساب قريب، أو أن المقصود أن الله يُحاسب الناس يوم القيامة بسرعة؟
يحتمل الأمرين، وربما أنَّ كلا المعنيين مراد، فيوم الحساب قريب، والله تعالى يقول: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: 1]، ويقول: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: 1]، وأيضًا عندما يُحاسب الله تعالى هؤلاء الخلائق بهذه الأعداد الكبيرة يُحاسبهم بسرعة، ولهذا ما سُئل ابن عباس: كيف يُحاسب الله الناس في ساعة واحدة مع كثرتهم، قال: "كما يرزقهم في ساعة واحدة"، وهذا رُويَ عن ابن عباس وعن علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
الرابعة عشر: مزيَّة الذِّكر في أيَّام التَّشريق، لقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾، وذكر الله مطلوب في جميع الوقت، لكن تخصيص الذكر في أيام التشريق يدل على أنَّ للذِّكر فيها مزيَّة، وينبغي للحاج ولغير الحاج أن يُكثر من ذكر الله تعالى في هذه الأيام الفاضلة.
الخامسة عشر: يجوز التَّعجُّل والتَّأخُّر، لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾.
وهنا يرد إشكال وهو: أنَّ المتأخِّر قد أتى بالأفضل، فكيف يُقال ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، والأصل أن يُقال للمتعجِّل؟
الجواب: ليس المقصود بقوله: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أنَّه لا حرج عليه -كما قال ابن جرير وغيره- وإنَّما المقصود: أنَّه إذا اتَّقى الله في حجِّه وأتى بحجِّه على الوجه الأكمل وكان حجه مبرورًا؛ فإنَّه يرجع من حجِّه وقد حُطَّت عنه آثامه، سواء كان متعجِّلًا أو كان متأخِّرًا، وبذلك يرتفع هذا الإشكال، فقوله ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ يرجع للمتعجِّل والمتأخِّر جميعًا، فمن وقع حجه مبرورًا ولم يرفث ولم يفسق؛ فهذا يرجع من حجِّه ولا إثم عليه، كيوم ولدته أمُّه، سواء كان متعجِّلًا أو متأخِّرًا. والآية تدلُّ بضمنها على أنَّه يجوز التَّعجُّل، لأنَّ الله أخبرَ بأنَّ المتعجِّل يرجع ولا إثم عليه.
السادسة عشر: لابدَّ للمتعجِّل من الخروج قبل غروب الشَّمس، لقوله: ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾، و"في" للظَّرفيَّة، والظَّرف يُحيطُ بالمظروف، فلا يصدق عليه أنَّه تعجَّلَ يومين إلَّا إذا خرج من مِنَى قبل غروب الشَّمس؛ لأنَّ اليوم ينتهي بغروب الشَّمس، ولهذا قال الفقهاء: مَن أرادَ أن يتعجَّل فلابد من خروجه من مِنَى قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر.
السابعة عشر: ونختم بختام الآية الأخيرة، فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ختم آيات الحج بقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
ما مناسبة ذكر الحشر في سياق آيات الحجِّ؟
كل كلمة في القرآن لها معنى، فالقرآن كتاب الله المُعجِز، وكما قال السيوطي وغيره: "لو بحثت في قواميس اللغة كلها، وكلام العرب وأشعارهم؛ على أن تأتي بكلمة أحسن من الكلمة التي في القرآن في موضعها لم تجد"، ولا غرو في ذلك، فهذا كلام ربِّ العالمين خالق كل شيء، فعندما يذكر الله الحشر في ختام آيات الحج فهذا له معنً ومعزى، هو أنَّ الحاج ينبغي عندما يرى جموع الحجيج وكثرة الناس وزوال الفوارق بينهم في المشاعر ونحو ذلك أن يتذكَّر بذلك الحشر يوم القيامة، يوم يُحشر الناس حفاةً عراةً غرلًا، قد زالت بينهم الفوارق، ويُحشَرون إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- في ذلك اليوم العظيم الذي مقداره خمسون ألف سنةٍ، فكأنَّه تعالى قال: أنت أيُّها الحاج عندما ترى هذه الجموع الغفيرة خاصَّةً في مواطن الزِّحام، وكلٌّ مشغولٌ بنفسه؛ تذكَّر يوم الحشر، تذكَّر عندما ترى الطَّائفين والسَّاعين والواقفين في المشاعر، وترى هذه الجموع العظيمة؛ تذكَّر الجموع الأعظم يوم الحشر، ويوم العرض الأكبر على الله سبحانه.
من منافع الحج: أنَّكَ تتذكَّر الحشر عندما ترى هؤلاء الناس وهؤلاء البشر، فلا يغفل الإنسان عن ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم الذي مقدار وقوف الناس في عرصات القيامة خمسون ألف سنة، كم نسبة عمرك إليها؟! كم تعيش في هذه الدنيا؟ خمسين أو ستين أو مائة؟ كم نسبتها إلى خمسين ألف سنة؟!
فهذا يدل على أن الدنيا بالنسبة للآخرة لا شيء! ولذلك لا يعتبر الإنسان حياة الدنيا هي حياته، فعندما ينظر إلى أهوال يوم القيامة يتذكر، قال تعالى: ﴿يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 24]، لأنَّ هذه هي حياته الحقيقيَّة، وكأن الدنيا بالنسبة له ليست حياة، قال الله: ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾ [المؤمنون: 113]، ينكمش هذا العمر المديد الذي يعيشه الإنسان -سواء كان ستين أو سبعين أو مائة سنة- حتَّى يصبح يومًا أو بعض يومٍ.
وهذا ما تيسر عرضه في التعليق على آيات الحجِّ، ونسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- الفقه في الدين، والتوفيق لما يُحبُّ ويرضى.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ.
ذكرتم -حفظكم الله- أنَّ من حِكَم الحجِّ: المسواة بين الناس بإزالة الفوارق. فهل يُقاس هذا على المشاعر عمومًا والأماكن الفاضلة الشرعية مثل المساجد، فيُقال: لا لأحدٍ خصيصةٍ في مكان معيَّنٍ في المسجد، أو أن يحجزه، أو يجعل له بما يُسمَّى بالروضة الخاصة، فبعضهم إذا رأى مَن يقدم مبكرًا أبعده عن هذا المكان وقال: أنا أحق به منك؟}.
الناس متساوون في الأحكام، فمَن يسبق إلى المسجد فهو الأحق، فمَن سبق إلى ما لم يُسبَق إليه فهو أحق به، وليس لأحدٍ أن يحتكر له مكانًا في المسجد، فإذا أراد أن يُصلِّيَ في الصَّف الأول خلف الإمام يُبكِّر، أمَّا أن يأتي متأخَّرًا ويُبعِد الناس عن هذا المكان؛ فليس له ذلك، فمَن سبقَ هو الأحق، إلَّا إذا أتى مبكرًا ثم عرضَ له عارض، كأن يذهب إلى دورة المياه ونحو ذلك؛ فهنا لا بأس أن يحجز مكانه حتى يعود إليه، لكن أن يبقى في بيته ولا يأتي إلَّا متأخِّرًا، ثم يأتي ويُبعد الناس؛ فليس له، فمَن سبقَ فهو الأحق.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ هذا البيان وهذا الإثراء، نسأل الله أن يجعله في موازين حسناتكم}.
وشكرًا لكم وللإخوة المشاهدين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيُّها المشاهدين الكرام- على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------
[30] صحيح الترمذي
[31] رواه مسلم
[32] رواه مسلم
[33]  رواه الترمذي
[34]  متفق عليه
[35] السلسلة الصحيحة
[36]  رواه الترمذي
[37]  متفق عليه
[38] رواه أحمد
[39]  رواه مسلم

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك