الدرس الرابع

فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

4960 6
الدرس الرابع

تفسير آيات الأحكام

{السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أيُّها المشاهدون الكرام في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل وإيَّاكم في هذه الحلقة تفسير آيات الأحكام مع فضيلة الشَّيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان.
باسمي وباسمكم جميعًا -أيُّها المشاهدون- أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{موضوعنا في هذه الحلقة هو: آيات الحجِّ من سورة البقرة.
قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد؛ فالحديث في هذه الحلقة عن قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 196، 197].
وبقيَّة الحديث عن آيات الحج يكون في حلقة قادمة -بإذن الله سبحانه وتعالى.
يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾.
هل المقصود الإتمام على ظاهره؟ أم المقصود بذلك الأداء؟
قال بعض المفسرين: إنَّ المقصود بذلك الأداء، فهو كقول الله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: 124]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187].
وقال بعض أهل العلم: إنَّ المقصود بذلك إتمام الحج والعمرة بعد الشُّروع فيهما، فأخذوا اللفظ على ظاهره، وهذا هو القول الرَّاجح، وذلك لأنَّ الحجَّ لم يُفرَض وقت نزول هذه الآية، فهذه الآية نزلت في السنة السَّادسة من الهجرة، والدليل قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، أي وقتَ الإحصار، بينما فُرِضَ الحج في السنة التَّاسعة من الهجرة، ففرضيَّة الحج كانت متأخِّرة، ويبعُد جدًّا أن يُفرَض الحج في السَّنة السَّادسة ولا تزال مكَّة بأيدي المشركين؛ لأنَّ مكَّة لم تُفتَح إلَّا في السَّنة الثامنة من الهجرة.
إذًا؛ فُرض الحجُّ بقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، وهذه الآية نزلت في السنة التاسعة من الهجرة.
إذًا؛ القول الرَّاجح: أن الآية على ظاهرها، وأنَّ المقصود هو إتمام الحج والعمرة بعدَ الشُّروع فيهما، وليس المقصود الأداء.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، يعني: حُبستُم، وهذا قد حصلَ للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أُحصر في الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وذلك أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد أن يعتمر هو والصَّحابة، لأنَّهم أُخرجُوا من مكَّة، وكانوا مشتاقين لها، وحصلت غزوة بدر، وغزوة أُحد، وغزوة الخندق، ثم بعد ذلك أراد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يعتمر هو والصَّحابة، ولَمَّا علمت بذلك قريش فزِعَت واعترضوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند الحديبية -وهو يسمى الآن الشِّميسي- وبعد ذلك أقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأرسلت قريش وفودًا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان منهم سهيل بن عمرو، فتفاءل النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- باسمه وقال «سهُل أمركم»، ثم بعد ذلك كُتبَت بنود صلح الحديبية بين النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وقريش.
وكانت بنود الصُّلح في ظاهرها غضاضة على الإسلام والمسلمين وأنَّها في صالح قريش، فكان من ضمن البنود: وضع الحرب عشر سنين، وأنَّ مَن أتى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسلمًا يردُّه النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- لقريش، ومَن أتَى إلى قريش مُرتدًّا لا ترده قريش، وأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- يرجع فلا يعتمر ذلك العام، وإنَّما يعتمر في العام الذي بعده.
فكثير من الصحابة لم يتحمَّل، حتى أتى عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وقال: "يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟" قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى». قال: فلمَ نُعطي الدَّنيَّة في ديننا؟!"، يعني: لماذا نقبل بهذه الشروط؟ فقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إِنِّي رَسُولُ الله وَإِنَّه نَاصِرِي». قال أبو بكر: "استمسك بغرزه فإنه رسول الله".
فكل الصحابة حصل عندهم هذا الاستشكال إلَّا صحابي واحد وهو أبو بكر الصديق، وهذا يدل على فضله وعلى علمه وعلى رسوخه، ولهذا لَمَّا تُوفي النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- هو الذي وقف، وكان الناس يموجون في المسجد حتَّى قال عمر: "ما مات رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنما ذهب لربه كما ذهب موسى لربه، وسيأتي ويقطع رقاب منافقين زعموا أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مات"؛ فأتاه أبو بكر وقال: "على رسلك"، أي: أنصتْ يا عمر، ثم صعد المنبر وقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 144]، وقول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30]. يقول الصحابة: "كأن الآية نزلت الآية"؛ فثبَّت الله -عَزَّ وَجَلَّ- الصحابة بهذه الكلمات من الصِّديق.
وهنا أبو بكر الصِّديق نصحَ عمر وقال له: "إنه رسوله الله، فاستمسك بغرزه"، وكان عمر يقول: "أيها الناس، اتَّهموا الرأي في الدين، فلقد رأيتني أجادل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإني والله لأتصدق بصدقات لعل الله أن يكفر عنَّي"، فأحيانًا يعتقد الإنسان أن رأيه هو الصواب، ويكون العكس.
وعلى المسلم أن يُقدِّم النَّص على العقل، فالله تعالى أعلم وأحكم، والإنسان عقله محدود، فقد يعتقد أن هذا الشيء صوابًا وهو ليس كذلك.
وَقَبِلَ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- شروط صلح الحديبية، والعجيب أنَّه لما رجع النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- والصحابة في الطريق نزل قول الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1]، فقال الصحابة: أوَ فتحٌ هو؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بلى»، وكان له أثر عظيم على الإسلام؛ لأنَّه حصل الأمن وحصلت الحرية في نشر الدَّعوة، فكان مع النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- ألف وأربعمائة في الحديبية، ولكن كان معه في فتح مكَّة عشرة آلاف، وكان في حجَّة الوداع مائة ألف، فانظر كيف انتشر الإسلام، فإذا الجو من الحرية والأمان انتشر الإسلام، ولهذا سمَّى الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا الصلح فتحًا، فقال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾، وليس المقصود بذلك فتح مكَّة؛ لأنَّ فتح مكَّة كان متأخرًا وقتَ نزول الآية، وإنَّما المقصود به صلح الحديبية.
ولَمَّا قبل النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- هذه الشروط؛ استشكل الصحابة كيف يرجعوا، وهم متعلقون بالعمرة والحرم ومشتاقون له اشتياقًا شديدًا!
فقال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- للصحابة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْحَرُوا وَاحْلِقُوا»، فما قام منهم أحد، ليس معصيةً للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وحاشاهم وكلا، ولكن لأنهم يرجون النَّسخ، فدخل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أم سلمة مُغضبًا، فقال: "ما الذي أغضبك يا رسول الله؟ قال: «هَلَكَ الـمُسْلِمُونَ»، ثم أخبرها بما حدث، فعرفت أم سلمة مقصود الصحابة، وهو أنهم يرجون النَّسخ، فأشارت على النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- برأيٍ حتى إذا رأى الصحابة ذلك يئسوا من النسخ، فقالت: اذْهَبْ فَانْحَرْ هَدْيَكَ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ، فَإِنَّ النَّاسَ يَنْحَرُونَ وَيَحْلِقُونَ، وبالفعل حلق النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- رأسه، ولما رأى الصحابة ذلك أيسوا من النسخ فحلقوا رؤوسهم، يقول الراوي: "حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا"، سبحان الله! مع أنَّ الله تعالى سمَّاه فتحًا.
فأحيانًا بعض الأمور يكون في ظاهرها شر، ولكن الله تعالى يجعل في عاقبتها خيرًا عظيمًا، وفتحًا للإسلام والمسلمين.
ونزلت الآية: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، فأُحصر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- والصحابة، فأمره الله تعالى بذبح الهدي، فذبحوا الهدي وحلقوا رؤوسهم، وهذا هو الحكم في الْمُحصَر، وسياتي الكلام عن الْمُحصَر، هل الإحصار يختص بالعدو أو يشمل غيره؟
قال تعالى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، يعني: اذبحوا ما تيسَّر من الهَدي.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، ابن جرير الطبري يقول: إنَّ الآية معطوفة على قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، وتعقَّبه ابن كثير في تفسيره، وقال: "إن هذا القول ليس بصواب، والصواب أن قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾؛ لأنَّنا لو قلنا إنَّها معطوفة على قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، لكان المعنى أن الهدي لا يُذبح حتَّى يكون في الحرم، والنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- ذبح الهدي خارج الحرم وقت الإحصار".
فابن كثير رجَّحَ أنَّ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ معطوف على قوله تعالى ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وهذا الذي ذكره ابن كثير هو الأقرب في معنى الآية.
قال تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، "محلَّه" يحتمل فيها معنيين:
الأول: أن تكون اسم زمان، يعني: يوم حلوله، وهو يوم العيد، وقد دلَّت السنَّة على أنَّه لا حرج في تقديم الحلق على الذبح، ويكون هذا من باب الإرشاد والاستحباب.
الثاني: أن يكون المقصود: حتَّى يُذبح الهدي، ويكون هذا فيمن ساق الهدي، فليس له أن يحلق رأسه حتى يذبح هديه، ويدل لهذا قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا سُئِلَ: "مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟" فقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ»، رواه البخاري ومسلم؛ فهذا يكون في حق مَن ساقَ الهدي.
والاحتمال الثاني هو الأقرب، وهو أنَّ مَن ساق الهدي ليس له أن يحلق رأسه حتى يذبح هديه، بدليل أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- لم يحل وقال: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ».
أمَّا الآن فقد يكون سوق الهدي منقطع، وسوق الهدي هو أن يسوق الهدي من الحل إلى الحرم، وهذه السنَّة تكاد تكون الآن منقطعة، وكانت موجودة قديمًا في عهد النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- والعصور السابقة.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾، هذه الآية نزلت في كعب بن عجرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: حُملتُ إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقمل يتناثر على وجهي، فقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَا كُنْتُ أُرَى الجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى»، فكانوا يُطيلون شعورهم، وكعب بن عجرة أصابه مرض فتكاثر القمل في شعر رأسه، فنزلت الآية ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، فأمره النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- إمَّا بصيام ثلاثة أيام، أو بذبح شاة، أو بإطعام ستَّة مساكين.
فقوله: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾، يعني: صيام ثلاثة أيام.
وقوله: ﴿أَوْ صَدَقَةٍ﴾، يعني إطعام ستَّة مساكين من مساكين الحرم.
وقوله: ﴿أَوْ نُسُكٍ﴾، يعني ذبح شاة.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾، يعني أمنتم من العدو فأتموا الحج والعمرة لله.
قال: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، يعني مَن اختار نُسك التَّمتُّع فهذا يكون عليه الهدي؛ بينما المفرد ليس عليه هدي، لأنَّ المتمتِّع يتمتِّع بالتَّحلُّلِ، فيحل له ما حرُمَ عليه بالإحرام في الفترة ما بين العمرة إلى الحج، فهو أتى بعمرة ثمَّ تحلَّل فحلَّ له كل شيء حرُم عليه بالإحرام حتَّى الجماع، فمن باب شكر نعمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- فعلى المتمتِّع أن يذبح ما استيسر من الهدي.
وألحقَ العلماء القارن بالمتمتع، فقالوا: القارن عليه هدي، أما المفرد فليس عليه هدي.
قال تعالى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، يعني: عليه ما استيسر من الهدي، وهذا يدل على انَّه ليس محدَّدًا، فلو أراد أن يذبح شاتين أو ثلاثًا أو أكثر فلا بأس، فكلما أكثر كان أفضل، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهدى مائة من الإبل.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾، والثلاثة أيام تبدأ من العمرة إلى آخر أيام التَّشريق، ولكن يحرم الصيام يوم العيد، وينبغي أن لا يصوم يوم عرفة؛ لأنه يستحب للحاجِّ أن يكون مُفطرًا في يوم عرفة لأجل أن يتقوَّى على الدعاء.
قوله: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾، أي: صيام سبعة أيامٍ إذا رجعَ لأهله.
قوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، لماذا قال الله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ مع أن قوله: ﴿ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ كافية؟
قال العلماء: لدفع التَّوهُّم في أن يكون مخيَّرًا بين الثلاثة والسبعة، فلولا أن قال الله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ سيأتي مَن يقول: إنَّه مخير، إن شاء صام ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع؛ فحتَّى يُدفع هذا التَّوهُّم قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، أي أنَّ المطلوب عشرة أيام، ثلاثة بالحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، أي: ذلك التَّمتُّع الموجب للهَدي إنَّما لمَن لم يكن من حاضري المسجد الحرام، أمَّا مَن كان من حاضري المسجد الحرام فهؤلاء إذا تمتَّعوا ليس عليهم هدي، وسيأتي الكلام عن حاضري المسجد الحرام -إن شاء الله- في الفوائد.
قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾، يعني: معلومات لدى المخاطبين، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة عند الجمهور، وشهر ذي الحجة كاملًا عندَ المالكيَّة، وسيأتي ذلك الخلاف.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾، يعني شرعَ في الحج.
قال: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾، الرَّفث هو الجماع ومقدِّماته.
قال تعالى: ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾، أي: المعاصي.
قال تعالى: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، وله معنيان:
الأول: أنَّ وقت الحج أصبحَ معلومًا، فلا يُجادَل في وقته؛ لأنَّه كان في الجاهليَّة جدل في وقت الحج متى يكون؛ لأنَّ كان عندهم النسيء، والله تعالى قال: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 37]، فكانوا يُقدِّمون صفر مكان محرم، وكان هذا الجدال موجودًا، والله تعالى بيَّن أنَّ وقت الحج أصبح معلومًا ولا جدال فيه.
الثاني: الجدل في التَّعامل بين الناس، فينبغي على الحاج أن لا يُجادل غيره بالباطل؛ لأنَّ هذا الجدل يؤثِّر على الخشوع المطلوب من المحرم، فالإنسان عندما يُجادل فإنَّه يحتمي، وإذا احتمى لا يُمكن أن يجد خشوعًا في العبادة أو في الدعاء ونحو ذلك؛ فنهى الله تعالى الحاج عن الجدال، وإن كان غير الحاج أيضًا ينبغي أن لا يُجادل، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:  «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيتٍ فِي رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِراءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا»[24]، وقيل: اقصم الجدل بأن تجتنبه، إلَّا أن يكون جدالًا بالحق، فهذا لا بأس به حتى للمُحرم، والله تعالى يقول: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، فإذا كان الجدال لإثبات حقٍّ أو لدفعِ باطلٍ كدفع شبهةٍ في عقيدة، فلا بأس بجداله حتى تُبطل شبهته، أو كان الجدال لإثبات حقٍّ فلا بأس به، وهو غير داخل في الآية.
فائدة
20:34 الى 21:25
قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، هذه الآية نزلت في أهل اليمن، فجاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس، "أنَّهم كانوا يحجُّون ولا يتزوَّدون"، يعني: يأتون للحجِّ من غير حمل الزَّاد، ويقولون: نحن متوكِّلون، ثم يبقون يسألون الناس، وهذا فهمٌ خاطئ للتَّوكُّل، فأنزل الله تعالى الآية: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾، يعني: احملوا معكم الزَّاد، فهذا لا يُنافي التَّوكُّل.
قال تعالى: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، أشار الله تعالى إلى أن خير زاد الإنسان هو التَّقوى.
قال تعالى: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، يعني: يا أصحاب العقول الرَّاشدة.
والعقل إمَّا:
- عقل إدراك: وهو الذي يكون به التَّكليف، فإذا لم يكن الإنسان عنده عقل يكون مرفوعًا عنه القلم، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ»[25].
- عقل رشد: وهو قدرٌ زائد على عقل الإدراك، فالإنسان يعمل ما فيه مصلحته ويُصيبُ الحقَّ، وذلك بطاعة الله -سبحانه وتعالى- فأصحاب العقول الراشدة والفِطَر السَّويَّة تجد أنَّهم يحرصون على طاعة الله سبحانه واجتناب معاصيه لما يعلمون من المصالح العظيمة في الدنيا والآخرة باتِّباع طاعته وأوامره واجتناب نواهيه.
ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام:
أولًا: وجوب إتمام الحج والعمرة فرضًا أو نفلًا، لقوله سبحانه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وهذه هي العبادة الوحيدة التي يجبُ إتمامُ النَّفلِ فيها بعدَ الشُّروع، وبقيَّة العبادات لا يجب إتمام النَّفل فيها، كنافلة الصوم، فللإنسان أن يقطع صومه، والنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- كان ذات يومٍ صائمًا واُهديَ إلى حيسٌ، فقال: «أَرِينِيهِ، فَلقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فأكَلَ»[26]، فأكل، فيجوز قطع صيام النافلة، وحتى صلاة النافلة يجوز قطعها، و يجوز للإنسان أن ينوي الصدقة ثم لا يتصدَّق، قال الفقهاء: لو وضع الصدقة في كمِّه ولم يُخرجها جازَ له الرجوع.
إذًا؛ جميع النَّوافل يجوزُ الرُّجوع فيها، إلَّا الحجِّ والعمرة، فإذا شرعَ في نافلة الحجِّ والعمرة وجب إتمامها لهذه الآية ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾.
مثال: إنسان شرعَ في نافلة الحجِّ، ثم وجدَ زحامًا وعقبات، فليس له أن يرجع، ويجب عليه أن يتم الحج حتى وإن كان نافلة، وكذلك إذا اعتمر عمرة نافلة، ثم وجد زحامًا وصعوبة، فليس له أن يرجع، ويجب عليه أن يُتم العمرة، ولهذا يقول الفقهاء: إنَّ الإحرام لا يرتفض برفضه؛ فليس للإنسان أن يقول: أنا أرفض الإحرام؛ إلَّا إذا أُحصِرَ، فإنَّ الإحصار له أحكام أخرى.
ثانيًا: العمرة والحج سواء في الوجوب، لقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾.
والحج ركنٌ من أركان الإسلام بالإجماع، على خلاف هل هو الرُّكن الرَّابع أو الخامس؛ لكنه أحد أركان الإسلام الخمسة.
واختلف العلماء في حكم العمرة هل هي واجبة أو مُستحبة، على قولين:
القول الأول: واجبة، وهو مذهب الحنابلة ورواية عن الشافعية، وهو قول مروي عن عمر وابن عباس، وعلي وعائشة، رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
القول الثاني: مستحبَّة، وهو مذهب المالكيَّة والحنفيَّة، فذهبوا إلى أنَّ العمرة مُستحبَّة وليست واجبة.
ولكلِّ أدلَّته، وليس هناك دليل صحيح صريح يدل على عدم إيجاب العمرة، وإنَّما ظاهر الأدلَّة يدل على أن العمرة كالحج، ولهذا نجد أن العمرة تقترن بالحج في النُّصوص، وفي هذه الآية قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وفي حديث أبي هذيل العقيل قال: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ»[27]، وجاء في حديث عمرو بن حزم «والعمرةُ هي الحجُّ الأصغرُ»[28]، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ العُمرةَ قد دخَلَت في الحَجِّ إلى يومِ القيامةِ»[29]، وحديث جبريل عندما سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الإسلام والإيمان والإحسان؛ فجاء في زيادة في أركان الإسلام: «وأن تحجَّ وتعتمر».
القول الراجح عند كثيرٍ من المحققين هو وجوب العمرة، لكن وجوبها أدنى من وجوب الحج، وهي تجب مرة واحدة في العمر كالحج، وهي ليست بركن.
ثالثًا: وجوب الإخلاص لله -عَزَّ وَجَلَّ- في الحجِّ والعمرة، لقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وهذا مطلوب في جميع العبادات، أن تكون خالصةً لله -سبحانه وتعالى-، وشرطا قبول العمل: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا اختلَّ واحدٌ من هذين الشَّرطين لم تصح العبادة ولم تُقبَل.
رابعًا: أنَّ مَن أُحصر عن إتمام الحج والعمرة فإنَّه يذبح ما استيسر من الهدي، وهو واجب بالإجماع، وهو منصوصٌ عليه في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾.
وأمَّا حلق الرأس ففيه خلاف بين أهل العلم هل هو واجب على المحصَر أو لا؛ والقول الراجح أنه يجب على المحصَر، فالمحصَر يحلق رأسه ويذبح هديه.
خامسًا: هل الإحصار يختص بإحصار العدو؟ أو يشمل كل إحصار؟
هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، الله تعالى يقول: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، وللعلماء قولان في المراد بالإحصار:
القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنَّ المراد به حصر العدو خاصَّة دون المرض وغيره، ورُويَ هذا القول عن ابن عباس وابن عمر، وأنس.
القول الثاني: الحصر يشمل حصر العدو ويشمل المرض، ويشمل كل مانعٍ، وهو قول الحنفية، ورُوي هذا القول عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعروة.
والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أنَّ الإحصار لا يختص بالعدو، لأنَّ الآية أتت مطلقة ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، وهذا يشمل إحصار العدو ويشمل غيره.
وممَّا يؤيِّد هذا: أنَّ أهل اللغة قالوا: إنَّ الحصر في العربية يكون العدو ويكون من المرض، فإذًا القول الرَّاجح: أنَّ الإحصار لا يختص بالعدو، ويشمل المرش.
ويشمل في وقتنا الحاضر: الأنظمة التي وُضِعَت لأجلِ مصلحة الحجَّاج، ومن ذلك: تصريح الحج، فهذا لابد منه، فعدد المسلمين الآن مليار ونصف، فلو سُمح لـ 1% فقط لكان العدد خمسة عشر مليونًا، وهذا العدد -بل حتى نصفه أو ربعه- لا تتَّسع له المشاعر، فإذا كان عدد الحجَّاج مليونين ونرى هذا الزِّحام الشَّديد! فلابدَّ إذًا من هذا التَّصريح.
إذًا؛ مَن أتَى بدون تصريح ورُدَّ فهذا يكون مُحصَرًا ويأخذ هذه الأحكام الفقهيَّة، فيُقال له: احلق رأسك واذبح هديك.
هل يجب على المحصَر قضاء الحصر أو العمرة مرَّة أخرى؟
هذا محل خلاف، والقول الرَّاجح أنَّه لا يجب، إلَّا إذا كان الحج أو العمرة واجبان، فيجب لوجوبه، وليس لكونه قضاءً عن إحصارٍ، ورجَّح هذا القول ابن القيم وجماعة، لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- لما أُحصِرَ في الحديبية في السنة السادسة من الهجرة اعتمر -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- في السنة السابعة عمرة القضيَّة، وليس مَن أتى معه للعمرة في السنة السابعة ليسوا كلهم مَن كانوا معه مُحصَرين في السنة السادسة، فإنَّ بعضهم لم يأتِ، ولو كان القضاء واجبًا لأمرهم النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- كلهم بالعمرة.
إذًا القول الراجح أنَّ القضاء لا يجب على المحصَر، لكن إذا كان الحج أو العمرة واجبين؛ فيجبُ لوجوبهما وليس للقضاء.
سادسًا: تحريم حلق رأس المُحرم؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، وهذا يدل على أن حلق الرأس من محظورات الإحرام، وهو منصوص عليه في الآية، وهو محل إجماعٍ.
وقاسَ الفقهاء عليه تقليم الأظافر، فالمُحرِم ممنوعٌ من حلقِ الشَّعر ومن قصه سواء شعر الرأس أو شعر بقيَّة البدن، وكذلك ممنوع من تقليم الأظافر.
سابعًا: جواز حلق الرأس لعذرٍ كالمرض أو الأذى، لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾، فإذا كان الإنسان يحتاج إلى حلق رأسه بسبب مرض أو أذى، وعبَّر الله تعالى عن القمل بـ "الأذى"، فإذا كان إنسان عنده قمل في شعره، أو عنده فطريات، أو لأي سبب؛ ثم احتاج إلى حلق رأسه، فيجوز له أن يحلق رأسه، ولكن يدفع فدية.
وهكذا أيضًا لو احتاج إلى ارتكاب أي محظورٍ من محظورات الإحرام، فإنَّه يفعل ذلك المحظور ويفع فدية، فمثلًا: لو احتاجت المرأة للبس النقاب، لكون نظرها ضعيفًا، لأنها لو لم تلبس النقاب لغطَّت وجهها، وإذا غطَّت وجهها ما تستطيع أن ترى الطريق ويشق عليها ذلك؛ فلها أن تلبس النقاب وأن تدفع الفدية.
ما هي الفدية؟
قال الله تعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾.
هذه الفدية وردت في حلق الرأس، لكن تشمل جميع محظورات الإحرام من تقليم الأظافر، والطيب، وتغطية الرأس بالنسبة للذَّكر، ولُبس المخيط بالنسبة للذَّكر، والنقاب والقافزين بالنسبة للمُحرمة؛ فهذه الأمور إذا فعلها المُحرم تجب عليه فدية.
قال تعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، بيَّنها -عَزَّ وَجَلَّ- في قوله: ﴿صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾:
الصيام: صيام ثلاثة أيام.
والصدقة: بإطعام ستَّة مساكين من مساكين الحرم.
والنُّسك: ذبح شاة في الحرم.
وهذا على سبيل التَّخيير، لأنه قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَوْ﴾، وهذه للتَّخيير.
وأسهلها في وقتنا الحاضر قد يكون إطعام ستَّة مساكين، فمن احتاج إلى فعل محظور من هذه المحظورات فيذهب إلى لمطعمٍ في الحرم ويطلب منه ست وجبات -أرز مع لحم- ويُوزِّعه على ستَّة من فقراء الحرم، فربما يكون هذا من أسهل ما يُدفَع في الفدية في الوقت الحاضر، وإن أراد أن يصوم ثلاثة أيام فله ذلك، وإن أراد أن يذبح شاةً فله ذلك، فهو مخيَّر في الفدية ما بين الصيام والصدقة والنُّسك.
ثامنًا: كفَّرات المعاصي فداء للإنسان من العقوبة، لقوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾، فكأنه يفتدي نفسه من العقوبة ببذل هذه الفدية.
ومثل ذلك أيضًا كفارة اليمين، لأنَّه حلف بالله -عَزَّ وَجَلَّ- فإذا حنث ولم يفِ بما حلف عليه؛ لابدَّ أن يفتدي بدفع الكفَّارة وإلَّا كان آثمًا، ومعرِّضًا نفسه للعقوبة، قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ [المائدة: 89].
وهكذا إذا طُبِّقَت الحدود فإنَّها كفارة لأصحابها، كما دلَّت لذلك عدَّة أحاديث، فمثلًا: إذا رُجِمَ الزَّاني فلا يُعاقَب في الآخرة، لأنَّه أخذ عقوبته في الدنيا، وكذلك لو جُلِدَ وغُرِّبَ، وكذلك السارق إذا قُطِعَت يده، فهذا كفَّارةٌ له، فلا يُعاقَب على السَّرقة في الآخرة، فالحدود والكفارات والفدية هذه تكون فداء لصاحبها من العقوبة في الآخرة.
تاسعًا: لا يجب على الإنسان أن يقترض إذا لم يجد الهدي، لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾، ولم يقل: فليقترض، فإذا لم يجد الهدي فمباشرة يجوز له الصيام، ولا يلزمه أن يستلف أو يقترض من أحد.
تاسعًا: مَن لم يجد الهدي وكان متمتِّعًا أو قارنًا فيصوم عشرة أيام -ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، والثلاثة أيام التي في الحج تبدأ من حين العمرة إلى آخر أيام التشريق، ولا يدخل فيها يوم العيد لأنه يحرم صومه، وينبغي أن لا يصوم يوم عرفة؛ لأنَّه يستحب الفطر فيه للحاجِّ، وأما صيام السبعة أيام فهذه تكون إذا رجع إلى أهله.
عاشرًا: هدي التَّمتُّع والقِرانِ لا يجب على حاضري المسجد الحرام، لقول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.
واختلف العلماء في حاضري المسجد الحرام على أقوال:
قال بعض العلماء: هم مَن كانوا دون المواقيت.
وقال بعض العلماء: إنَّهم أهل مكَّة والحرم.
وقال بعض العلماء: هم مَن كان بينهم وبين مكَّة مسافة قصر.
والقول الرَّاجح -والله أعلم: أنَّهم أهل مكَّة والحرم، فهؤلاء الذين يسكنون في منطقة الحرم يُعتبرون من حاضري المسجد الحرام.
وكذلك مَن كان في مكة وخارج الحرم، مثل التَّنعيم فيعتبر في مكة وخارج حدود الحرم، وكذلك الشَّرائع فهي خارج الحرم ويعتبر أهلها من أهل مكَّة؛ فهؤلاء يدخلون في حاضري المسجد الحرام، وعليه يكون معنى حاضري المسجد الحرام: هم أهل الحرم وأهل مكة. وهذا القول هو الراجح، وعليه جمع من المحققين من أهل العلم، فحاضرو المسجد الحرام هم القاطنون في مكة والحرم، ويُلحق بهم أهل مكة من خارج حدود الحرم لقربهم، فيعتبرون في حكم الساكن في الحرم؛ وعلى ذلك فهؤلاء ليس عليهم هدي، وليس عليهم طواف الوداع.
وبناء على هذا القول الرَّاجح؛ فأهل جُدَّة إذا أتوا للحجِّ واختاروا نسك التَّمتُّع أو القِرَان فيكون عليهم هدي؛ لأنَّهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام، وكذلك أهل بحرة ليسوا من حاضري المسجد الحرام، فاختصاص حاضري المسجد الحرام بأهل الحرم وأهل مكَّة فقط، فهؤلاء ليس عليهم هدي إذا اختاروا نسك التَّمتُّع أو القِرَان.
الحادي عشر: العلم بشدَّة العقوبة من أهم العلوم، وأخذنا هذه الفائدة من قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، أمر الله تعالى بأن نعلم بأنه شديد العقاب، وأقل ما يفيده الأمر هو الاستحباب.
والله تعالى غفور رحيم، لكنه شديد العقاب، قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 98]، فهو سبحانه شديد العقاب في حق مَن عصاه ومَن تجرَّأ على حرماته، وغفورٌ رحيمٌ في حقِّ مَن اتَّبع أوامره واجتنب نواهيه، وأطاعه واتَّقاه؛ وهذا يستدعي من الإنسان الحذر من الوقوع في المعاصي، ومن الوقوع في الظلم لعباد الله، فإنَّ الله شديد العقاب، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، وهذا المعنى ينبغي أن يكون حاضرًا، فمن تجرَّأ على حرمات الله -عَزَّ وَجَلَّ- ووقع في المعاصي وتجرَّأ عليها أو ظلمَ عباد الله فإنَّ الله شديد العقاب. وهذا العلم بأن الله شديد العقاب يُورث الخشية والخوف من الله -سبحانه وتعالى.
الثاني عشر: شدَّة العقاب من كمال المُعاقِب وبسطِ قوَّته وسُلطانه، لأنَّ الله تعالى وصفَ نفسه بأنَّه شديد العقاب، والله تعالى لا يُوصَف إلَّا بصفات الكمال؛ بل أمر الله بأن نعلم ذلك، فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، فشدَّة العقاب وصفُ كمالٍ، لأنَّها تدلُّ على كمال المعاقِب، وعلى بسطِ قوَّته وسُلطانه.
ولو أنَّ إنسانًا جنى ابنه جنايةً كبيرةً، فعاقبه عقوبة شديدة؛ فإنَّه يُحمَد، لكن لو جنى ابنه جناية كبيرة والعقوبة ضعيفة تجد أنَّه لا يُحمَد ويذمُّه الناس، كيف يرتكب هذه الجريمة وأنت تعاقب عقوبة خفيفة؟!
ولذلك زوج امرأة العزيز لَمَّا تبيَّن له بالأدلَّة والبراهين أنَّ امرأته هي التي راودت يوسف، حكى الله عنه فقال: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: 29]، فقط استغفري لذنبك! كيف يرى امرأته تخون وهي التي تراوض الفتى الذي في دارها، ومع ذلك يكتفي بهذا؛ فكان هذا موضع ذمٍّ له! وهذا يعتبر نقص.
إذًا شدَّة العقاب من كمال المعاقب، ولكن تكون في محلها في حق من ارتكب ما يُوجب العقوبة الشديدة، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 98].
الثالث عشر: قوله ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وردَ في ختام آيةٍ فيها ترخيصات، وهو قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؛ وهذا يدل على أنه ينبغي أن تكون الرخصة في محلها، ولا يُتجاوز بها، ولا يُتوسَّع فيها.
وفيه إشارة إلى أن أمور الشريعة كما أنَّ مبناها على اليُسر، لكن الجنَّة حُفَّت بالمكاره، فلابد من مكاره ولابد من صعوبة يجدها الإنسان، فلابدَّ من الصبر، لأنَّ الجنَّة لها ثمن، فبعض الناس يفهم من يسر الشريعة وسهولتها تمييع الأحكام الشرعية، وربما في فتاواه يكون هذا المعنى مسيطرًا عليه، ويُبالغ في ذلك مبالغةً تؤدِّي إلى تمييع الأحكام، وهذا منهج غير صحيح، فكما أنه لا ينبغي التَّشديد على الناس فكذلك لا ينبغي تمييع الأحكام، فالله تعالى ختم هذه الآية التي فيها ترخيصات بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، والجنة حُفَّت بالمكاره، فالمطلوب هو الاعتدال، لا يُشدِّد الإنسان ولا يتراخى، وفي الفتاوى لا يُشدِّد على الناس ولا يُميِّع الأحكام، وإنَّما يدور مع الدليل مستصحبًا يُسر هذه الشَّريعة وسماحتها.
 
قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، تكلمنا عن معاني هذه الآية، وأبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بها:
أولًا: أشهر الحج ثلاثة، وهي: شوال، وذو العقدة، واختلف العلاء هل الشهر الثالث هو شهر ذي الحجة كاملًا أو عشر من ذي الحجة:
- الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة قالوا: عشر ذي الحجَّة، وعندهم أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجَّة.
- أمَّا المالكيَّة فقالوا: شهر ذي الحجة، فعندهم أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كاملًا.
والقول الرَّاجح: هو قول المالكيَّة، وذلك لأنَّ الحج يقع بعد عشر ذي الحجة، في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فهذه أيام التَّشريق، وفيها أعمال كثيرة، ففيها الرَّمي، والمبيت، والطواف، والسعي، ففيها أركان من أركان الحج.
ثانيًا: أنَّه لا بأس بالإحالة على المعلوم إذا كان معلومًا لدى المخاطب، وأخذنا هذه الفائدة من قول الله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾، أي: معلومات لدى المخاطبين أنها شوال وذو القعدة وذو الحجَّة، وهذا يستعمله الفقهاء، تجدهم يقولون "وهذا معلومٌ من الدين بالضَّرورة"، وأحيانًا يقولون "بالثمن المعلوم"؛ فإذا أحلتَ في مخاطباتك على معلومٍ فلا بأس، فعندما يقول المتكلم "وهذا معلوم" فهذا له أصل وهو هذه الآية.
ثالثًا: المحظورات تحرم بمجرد عقد الإحرام، كقوله: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ﴾، فبمجرد أن يقول "لبيك عمرة، أو لبيك حجًّا"؛ هنا يجب عليه أن يجتنب جميع محظورات الإحرام.
رابعًا: تحريم الجماع ومقدِّماته على المُحرم، فالجماع هو أشد محظورات الإحرام، كما أنَّه أشدَّ مفطرات الصيام، فإذا وقع الجماع في نهار رمضان أوجب الكفَّارة المغلَّظة مع القضاء، وكذلك الجماع لو وقع حال الإحرام إن كان قبل التَّحلل الأول فسد الحج، ووجب عليه إتمام النسك وقضاؤه في العام المقبل ويذبح بدنة مع التوبة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وإن كان بعد التَّحلُّل لا يفسد الحج، ولكن يجب عليه أن يذبح شاةً.
خامسًا: دلَّت الآية على تحريم الفسوق في الحج، والفسوق هو: جميع المعاصي القوليَّة والفعليَّة، وهي ممنوعٌ منها المسلم حال الحج وبعد الحج، لكنَّها في حال الحج ووقت الإحرام أشد، فالمعاصي التي تقع من المُحرم تُنقص من أجر الحج، وتؤثِّر على وصف الحج من كونه مبرورًا، فإنَّ الحج المبرور هو الذي أتى به صاحبه على الوجه الأكمل، ولم يقع فيه إثمٌ ولا معصية.
سادسًا: ينبغي على الحاج أن يجتنب الجدال، لقوله ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، وذلك لأنَّ الجدال يُورثُ أن يحتميَ الإنسان، ويؤثر هذا على خشوعه وعلى حضور قلبه في الدعاء في أعمال الحج، وربما يتكلَّم بكلام غير لائق وغير مناسب، فينبغي أن يجتنب الجدل أثناء إحرامه، وأيضًا بعد إحرامه، لكن وقت إحرامه أشد، إلَّا أن يكون جدالًا بالحق، لقوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، يعني: إذا كان لإحقاق حقٍّ أو لإبطال باطلٍ.
سابعًا: ينبغي حال الإحرام البُعد عن كل ما يشوش الفكر ويشغل النفس، بدليل قوله: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، فنهى الله عن الجدال لأنَّه يشغل النفس ويشوش الفكر.
ثامنًا: عموم علم الله بكل شيء، لقوله ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، فالله تعالى يعلم كل شيء، فما تفعله من خير فإنَّ الله يعلمه، واستحضار المسلم أن الله تعالى يعلم منه عمله الصالح، وفعله للخير؛ فهذا يشجِّع الإنسان، فينبغي للمسلم أن يستحضر هذا المعنى، لأنه كلما أراد أن يعمل عملًا صالحًا فالله تعالى يعلمه.
تاسعًا: ينبغي للحاج أن يأخذ معه الزَّاد، لقوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾، ولا يذهب للحجِّ بدون زاد، وكما ذكرنا أنَّ هذا نزل في أهل اليمن، لأنَّهم كانوا يحجُّون ولا يتزوَّدون، ويقولون: نحن المتوكِّلون، ثم يسألون الناس!
وهذا فيه قصور في فهم معنى التَّوكل، فإنَّ التَّوكل له ركنان:
الأول: اعتماد القلب على الله.
الثاني: فعل الأسباب المأذون فيها.
فإذا اعتمد بقلبه على الله ولم يفعل السبب فهذا يكون عنده قصورٌ في التوكل، وإذا اعتمد على فعل السبب ولم يعتمد بقلبه على الله لم يكن متوكِّلًا، ولهذا أنكر الله تعالى على هؤلاء الذين لا يحملون الزَّاد في الحج ويقولون: نحن متوكِّلون!
عاشرًا: التقوى خير زادٍ للمسلم، لقوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، فالتقوى لله -سبحانه وتعالى- هو ما ينتفع به الإنسان في حياته وبعد مماته.
الحادي عشر: أصحاب العقول الرَّاشد هم أهل التقوى، لقوله: ﴿وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وأولوا الألباب هم أصحاب العقول الرَّاشدة، وكما ذكرنا أن الرُّشد: هو قدر زائد على عقل الإدراك، فأصحاب العقول الراشدة هم الذين يتَّقون الله -سبحانه وتعالى- وهم الذين يُطيعون الله -سبحانه تعالى- وهم أصحاب العقول السليمة.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المستنبطة من هاتين الآيتين.
{شكر الله لكم يا فضيلة الشيخ}.
وشكرًا لكم وللإخوة المشاهدين.
{في ختام هذا اللقاء نشكركم أيُّها المشاهدون الكرام على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[23] رواه أبو داود
[24] صحيح أبي داود
[25] رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
[26] رواه مسلم (1154).
[27] أحمد (16184)، وابن ماجه (2906)، والترمذي (930)، وابن خزيمة (3040)، وابن حبان (3991)
[28] ضعفه ابن حجر
[29] مسلم (1241)

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك