الدرس الثالث

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5509 5
الدرس الثالث

آداب الطلب

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله، وأهلًا وسهلًا، أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين.
تحدَّث معالي الشيخ في الحلقة الماضية عن آداب الطَّالبِ في نفسِه، وسيُتحفنا معالي الشَّيخ في هذه الحلقة -بإذن الله- عن كيفيَّة التَّلقي.
كيف يبدأ طالب بتأصيل نفسه؟}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ طلب العلم له أصول وقواعد ينبغي أن يضعها طالب العلم بين عينيه.
أوَّل هذه القواعد: أن يُعلَم أنَّ أساسَ العلم هو النُّصوص الشَّرعيَّة من كتاب الله -عزَّ وجلَّ- وسنة نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكلُّ علمٍ لا ينبثق من هذه الأصول أصالةً أو تبعًا فإنَّه ليس بعلم يصحُّ أن يُنسَب إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- وشرعه.
القاعدة الثانية: معرفة المصطلحات العلميَّة التي ينطلق أهل العلم منها، بحيث يكون عند الإنسان قُدرة على فهم هذه المصطلحات بمجرَّد سماعها، وهذه المصطلحات قد يكون للإنسان فيها معرفة بذات المصطلح، وقد تتعدَّد المناهج في المصطلح الواحد، ومن ثَمَّ على الإنسان أن يعرف هذه المناهج.
أضربُ لذلك مثلًا واضحًا: لفظ "السُّنَّة"، فإنَّ هذا اللفظ قد يُطلق ويُراد به معانٍ مُتعدِّدَة:
- فهناك مَن يُطلق لفظ "السُّنَّة" ويُريد به ما يكون في مُقابلَة البدعة، ولذا يُقال: "طلاقٌ سُنِّي وطلاقٌ بدعيٌّ".
- ومرة قد يُطلَق هذا اللفظ ويُراد به المستحب، ولذا يقولون: "السنة في هذا الباب كذا.."، "السُّنن الرَّواتب عددها ثنتا عشرة ركعة".
وقد يفهم الإنسانُ الفَرقَ بين هذين المصطلحين ويعرف أنَّ السَّنَّة على المصطلحِ الأوَّلِ: هي الطَّريقة المتَّبعَة في الدِّين، سواء كانت واجبة أو كانت مُستحبَّة، بينما في الاصطلاح الثَّاني يقصُر هذا المصطلح على المستحبَّات.
- وهناك مَن يستعمل لفظ "السُّنَّة" فيما كان واردًا عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سواء كان من الأقوال أو الأفعال أو التَّقريرات، وبالتَّالي هو لا يُطلِق على الأحكام الواردة في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- أو المأخوذة بالاستنباط أنَّها من السُّنَّة.
- وهناك مَن يزيدُ في مفهومِ السُّنَّة بحيث يجعل هذا اللفظ يشمل ما ورد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الأقوالِوالأفعالِ والتَّقريراتِ، والصِّفاتِ الخَلقيَّة؛ ومن ثَمَّ يزيد في مفهوم لفظةِ السُّنَّة، ولذا نجد أنَّ أهل العلم من أهل الحديث لا زالوا يُدخلون الأحاديث الواردة في صفات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كتب السنة التي يكتبونها.
ومن ثَمَّ ينبغي أن يُلاحظ المعنى الذي يقصده كل فريقٍ ممن سبق:
- فالأوَّلون يقصدون العمل المتَّبَع الذي يُثاب المرء عليه.
- الآخرون يقصدون كل ما ورد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتَّالي هم يُريدون أن يُحصوا ما وردَ عنه.
- بينما آخرون كان مقصودهم التَّركيز على ما يصح الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه.
إذن؛ فهم المصطلح أمر ضروري، وهو أساس من الأسس التي على طالب العلم أن يُوليها عنايته.
الأساس الثَّالث: اختيار الكتاب الذي يتناسب مع حال الإنسان مع فهم طالب العلم للمقصود من ذلك الكتاب، فمرات يهدف المؤلِّف إلى طريقةٍ علميَّةٍ مُعيَّنةٍ، فمن كان من طلبة العلم يفهم تلك الطَّريقة استطاع أن يستوعب ذلك الكتاب.
فإذا كان هناك كتاب في تخريج الفروع على الأصول؛ فإنَّه حينئذٍ ينبغي بقارئ ذلك الكتاب أن يفهم المجال الذي يسلكه المؤلف، وهناك كتب عُنيَت بإبراز المشهور من مذهبٍ معيَّنٍ، فإذا قرأ الإنسان ذلك الكتاب وفي ذهنه أنَّ ذلك الكتاب يخدم ذلك الهدف استطاع أن يفهم طريقة صاحبه.
ولذا نجد أنَّ كثيرًا من الخطأ الذي يقع فيه طلبة العلم يقع من عدم فَهم ذلك، فمثلًا في المختصرات الفقهيَّة التي يؤلفها أصحابها لبيان المشهور من المذهب لا لبيان ترجيحاتهم هم، فعندما يأتي الطالب ويظن أن ذلك الكتاب قد أُلِّفَ على ترجيحات المؤلِّف يكون قد فهم الكتاب فَهمًا مَغلوطًا.
وهكذا عندما يُعنَى الكتاب ببيانِ ترابط المسائل الفقهيَّة بعضها مع بعض، بحيث يكون ممَّن اهتمَّ ببيان منشأ المسألة الفقهيَّة سواء كان فيها خلاف أو لم يكن، ثم اهتمَّ ببيان الآثار المترتِّبة على المسائل؛ فحينئذٍ على طالب العلم أن يفهم أنَّ هذا الكتاب في هذا المجال، ولذا نجد أنَّ بعض الكتب قد عُنيَت بهذا الباب وهو بيان مقاصد المؤلِّفين في كتبهم، ما هو مقصود المؤلِّف من هذا الكتاب، فعندما يضع طالب العلم هدفَ المؤلف من هذا الكتاب فحينئذٍ يتَّضح له الكثير من المتعلقات بهذا الكتاب.
أضربُ لهذا مثلًا في كتب التَّفسير: فهناك تفاسير عُنِيَت ببيان المعاني القرآنيَّة، وهناك كتب عُنِيَت ببيان المقاصد، وهناك كتب عُنِيَت ببيان الأحكام الفقهيَّة، وهناك كتب عُنِيَت بالتَّحليل البلاغي لكتاب الله -عزَّ وجلَّ- وهكذا في الموضوعات العديدة التي يُمكن أن ينطلق منها المفسر بكتاب الله -عزَّ وجلَّ- فالقارئ لأيَّ كتابٍ إذا علم مقصود المؤلف استطاع أن يستنبط هذا المقصود، وبالتَّالي فَهم مراد المؤلِّف من هذا الكتاب.
ومن أمثلة هذا: في تفسير الشَّيخ الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-أضواء البيان، فهذا الكتاب يُعنَى بتفسير القرآن بالقرآن، ما هي الآيات القرآنيَّة التي فسَّرتها آيات قرآنيَّة أخرى، فهذا هو مقصود هذا الكتاب، فعندما يأتي بعض الناس ويقول: إنَّ التسجيلات التي كانت عن الشيخ أو الدروس التي كان يُلقيها الشَّيخ فيها معلومات زائدة عمَّا في التَّفسير؛ لأنَّه في تفسيره المسموع كان يُعنَى بهدفٍ، وفي تفسيره المكتوب كان يُعنَى بهدفٍ آخر.
وهكذا أيضًا في شروح الأحاديث؛ فهناك مَن يُعنَى بالصِّناعة الحديثيَّة، وهناك مَن يُعنَى بالصِّناعة الفقهيَّة، وهناك مَن يُعنَى ببيانِ المعاني والدَّلالات، وهناك مَن يجمع بين فنَّين وثلاثة وأربعة فيُرتِّبها، ولذا تجد الفرق واضحًا بين كتابي "فتح الباري" وكتاب "عمدة القاري"؛ لأنَّ كل واحدٍ منهما سلك منهجًا في تفسير صحيح الإمام البخاري وشرحه.
الأمر الرَّابع الذي تقوم عليه العمليَّة التَّعليميَّة: المعلِّم النَّاصح، وهذا المعلم له فوائد كثيرة، منها:
- أنَّه يُزيل الإشكالات في الفهم التي قد تنشأ عند قراءة الكتاب.
- أن يتعلَّم الإنسان طريقة تطبيقيَّة في فهم الكتب، ويكون لديه آليَّة لفهم مقاصد المؤلفين.
- أن يتمكَّن من المقارنة بين هذا الكتاب وبينَ غيره من الكتب.
ولذا كلما كثُرَت خبرة الأستاذ وكلما كثُرَ تدريسه وارتباطه بالعلم كان هذا من أسباب إبرازه وإظهاره لمعانٍ يغفل طالب العلم عنها.
ومن الأسس التي ينبغي أن يُحاط بها: معرفة المنطلقات العلميَّة التي يُنطلَق منه في أي علم يُريد الإنسان أن يدرسه، وبالتَّالي يكون قد أحاط بذلك العلم.
وأورد لذلك نماذج:
أولها: مكوِّنات المسألة العلميَّة، مثلًا المسائل في الفقه تحتاج أن تعرف المراد المسألة، تحرير محل النِّزاع، منشأ الخلاف فيها، الأقوال، الأدلَّة، الجواب عن الاستدلالات بالأدلَّة، التَّرجيح والموازنة، بيان الآثار المترتِّبة عليها؛ وهذا في دراسة المسائل الخلافيَّة، بينما في دراسة القاعدة الفقهيَّة تحتاج إلى المعنى التَّفصيلي لألفاظ القاعدة، ثم المعنى الإجمالي والكلِّي، ثم تحتاج إلى دليل القاعدة والمستند الذي تستند عليه تلك القاعدة، ثم بيان الآثار التَّطبيقيَّة للقاعدة، سواء كانت قواعد مندرجة أو كانت فروعًا، ثم ذكر المستثنيات لتلك القاعدة، وبيان المنطلق الذي انُطُلِقَ منه في ذلك الاستثناء، فإنَّ الاستثناء من القاعدة لابدَّ أن يكون له أسباب يُنطَلَق منها، وهذا ما يُعرَف عند أهل العلم بأسباب النَّقض، وهو أن يوجد المعنى الذي يثبتالحكم به عادة ثم لا يوجد الحكم.
وأهل العلم قد قسَّموا ذلك إلى ستَّة أقسام:
الأوَّل: أن يكونَ المعنى مفقودًا، وبالتَّالي سيكون فقدُ الحكمِ سائرًا على القاعدة التي أوردت.
الثَّاني: أن يكونَ الحكم موجودًا، فمع وُجود العلَّة وُجِدَ حكمها.
الثَّالث: أن يكونَ هناك شروط متخلِّفة للحكم، فإنَّه متى تخلَّفت شروط الحكم تخلَّف الحكم.
الرَّابع: أن يوجَدَ موانع تمنع من وجود ذلك الحكم مع وُجود علَّته.
ومن الأسبابِ في هذا: أن يوجد معنى أقوى من المعنى الذي يُثبت الحكم فيكون ارتفاع الحكم وعدم ثبوته لوجود معنًى أقوى.
الخامس: أن يكون المحل مخالفًا للقياس، بحيث يُوجَد المعنى، لكن وردَ دليلٌ من الشَّرعِ يدلُّ على أن ذلك الموطن لا يثبت فيه الحكم وإن وُجِدَ المعنى المقتضي للحكم.
وهذا النَّوعُ يُسمَّى عند علماء الشريعة "المخالف للقياس"، وقد يسمونه "استحسانًا"، وقد يسمونه "رخصة"، وقد يسمونه بأسماء أخرى، والمفهوم الذي ينطبق عليه مفهومٌ واحدٌ.
وعلى الإنسان أن يعرف شروط المسألة التي يريد أن يدرسَها من جهة تصوير المسألة وتصوُّرها، ومن جهة المعاني التي يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ في تلك المسألة، ومن جهة معرفة الأسباب والآثار المتعلِّقة بالمسألة.
{أحسن الله إليكم.
ثَمَّة سؤال لصيقٌ بالسُّؤالِ الأوَّلِ، وقد ذكرتم طرفًا من الإجابة -أحسن الله إليكم.
هل لطالبِ العلم أن يكتفي بالكتبِ عن ملازمة الأشياخ؟}.
دراسة العلم في الأساس تكون بالأخذِ من أهل العلم، ولازال النَّاس على هذا الطَّريق، وأخذُ العلم من غير الأساتذة يؤدِّي إلى أمورٍ مخالفة، ومن تلك المخالفات:
أولًا: عدم البناء الصَّحيح للمسائل، فيُظن أن بعض الأوصاف التي يكون لها ملاصقة بوصف الحكم أنَّها هي المقتضية للحكم، ولا يكون الأمر كذلك.
ومنأمثلةهذا: أنَّ الشَّريعة جاءت بالمنع من المعازف، فيأتي من يأتي ويظن أنَّ الحداء والغناء كله ممنوع؛ فحينئذٍ يكون قد ركَّبَ المسألة على معنًى غير المعنى الذي رتَّبَ الشَّارعُ عليه، وهذا كثيرٌ في الناس، خصوصًا في عوامهم.
ثانيًا: بعض النَّاس عند نطقه للكلمات الواردة في كتب أهل العلم لا نجده ينطقها نطقًا صحيحًا، وما ذاك إلَّا أنَّه اعتمدَ على كتابٍ أو الأستاذ الذي يُعلِّمه.
ثالثًا: نجد أنَّ هناك تشويشًا في بعضِ المسائل وعدمِ فَهمٍ لمقاصدها ومراميها، ممَّا يجعل بعض النَّاس يُشكِّك في الحكمِ لكونه لم يعرف المعنى الذي قصَدَه الشَّارع في هذا الباب، ومن هنا يكون مِن أسباب الخطأ في كثير من المسائل عدم الاستناد على مقصدٍ مِن مقاصد الشَّريعة، ومن ثَمَّ قد نجد عند بعض مَن يتصدَّى للتَّعليم أو للفتوى أنَّه يُناقض ما جاءت به الشَّريعة في مقاصدها.
{أحسن الله إليكم.
لو ذكرتم لنا معالي الشيخ بعضًا من الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها الطَّالبُ مع شيخه}.
هناك قواعد عامَّة في معاملة الآخرين لابدَّ أن يتحلَّى بها الطَّالب مع أستاذه وشيخه، من أمثلة ذلك:
- فيما يتعلَّق بحسن اختيار اللفاظ التي يتكلَّم بها، لقوله تعالى:﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء/53].
- عدم رفع الصوت على الأستاذ، قال تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات:2].
- ألا يكونَ الطَّالبُ مُعارضًا لما يعرضه أستاذه على جهة المقابلة وعلى جهة المضادَّة والمناقضة، وإنَّما يعرض ما لديه حتى ولو عَلم بوجودِ الخطأ عند أستاذه، فيواجهه بالكلمة الطَّيِّبة أو بالاستفهامِ والسُّؤال.
- أن يصبرَ على أستاذه، فقد يكون الأستاذ عنده شيءٌ من الحِدَّة، وفي الغالب تكون هذه الِحدَّة بسبب تصرُّف من هذا التِّلميذ أو من غيره، فيحتدُّ الأستاذ، وبالتالي يتعوَّد الطالب على أن يصبر على ما يكون منه من شدَّةٍ في التَّنبيه أو زيادة في اللفظِ أو نحو ذلك.
- ألَّا يعتديَ على أستاذه في طريقة مشيه، أو في طريقة تجاوزه وانتقاله من مكانٍ إلى مكانٍ آخر.
- ألَّا يُشغِلَ التِّلميذُ أستاذَه بحركةٍ غير متعلِّقةٍ بطلبِ العلم، فحركةُ الكتابِ مثلًا مطلوبة، لكن عندما يشتغل بيديه أو يُكثر القيام أو يُكثر الالتفات؛ فإنَّه حينئذٍ يُشوِّش على أستاذه، وبالتَّالي يجعله لا يُظهر جميع ما لديه من العلم المتعلِّق بذلك.
- أن يُراعيَ أحوال أستاذه، فمتى كان مُجهدًا أو مُتعبًا فإنَّه يستأذنه،وكأنَّ الاعتذار من الطَّالب لا من الأستاذ.
- أن يُلاحظَ أنَّ أستاذه قد يُخطئ في نطق كلمة ونحوها، وبالتَّالي التَّنبيه لا يكون في أثناء نطقه، وإنَّما يدعه حتى يُكمِلَ جملَته التي يُريد أن يتكلَّمَ بها.
- أن يحرصَ الطَّالبُ على تصحيح معلومة أستاذه بالطَّريقة المناسبة، لا بطريقةٍ جافيةٍ على سبيل المقابلة والمناقضة.
- يحرصُ طالب العلم على تحبيب الأستاذ في طلَّابه وتحبيب الطُّلاب في أستاذهم، بحيث إذا وُجد من يُحاول أن يُشوِّش على الطلَّاب ويقدح في سيرة أستاذهم؛ ردَّ عنه مدافعًا مكافحًا، وفي الحديث: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
- كذلك فيما يتعلَّق بعدم التصوُّر الصَّحيح من الأستاذ لطُلَّابه، فإنَّه مرَّةً قد يظنُّ بهم ظنًّا، ولا يكون الأمر على وفق ظنِّه، وبالتَّالي يُحاول أن يُصحِّح مفهومه عنهم.
- ألَّا يستعجل في إبداء ما لديه وإظهاره، حتى ولو كنت تعلم المسألة وتعرفها وقد أحطت بها ودرستها سابقًا؛ فلا تستعجل، فلعلَّ مع الأستاذ أجزاء أخرى في المسألةِ لم تكن محيطًا بها، فاستعجالك في إظهار معلومتك قد يجعلك لا تستوفي تلك المعلومة من أستاذك.
- أن يحرص طالب العلم على عدم وجود تشويش من الآخرين في حلقةِ العلم.
- أن يُراعي طالب العلم حوائج أستاذه، فإذا كان يحتاج إلى ماء أحضرَه، خصوصًا الحوائج التي تكونُ مؤثِّرَة في الدَّرس، كأن يحتاج إلى القلمِ أو احتاج إلى من يمسح سبُّورةَ التَّعلُّم؛ كان ذلك ممَّا يقومُ به التِّلميذُ عندَ أستاذه.
هذه نماذج من النَّماذج التي ينبغي بطالب العلم أن يكون متَّصفًا بها.
{أحسن الله إليكم.
لو حدَّثتمونا معالي الشَّيخ عن صفاتِ المعلِّم الذي يُتلقَّى عنه}.
المعلِّمون ليسوا على صفةٍ واحدةٍ، ولا على مرتبةٍ واحدةٍ، وهناك ثلاثةُ معاييرٍ في الأستاذ ينبغي ملاحظتها:
أوَّلًا: مقدار ما لديه مِن العلم.
ثانيًا: مقدار ما لديه مِن القدرةِ على التَّفهيمِ للمسائلِ.
ثالثًا: مقدار ما لديه مِن صحَّة المنهجِ الذي يسير عليه، سواء كان متعلقًا بذلك العلم في خصوصه، أو في غيره.
هذه الأمور الثَّلاثة تكون مؤثِّرة في اختيار الأستاذ؛ وأوَّلها: ملاحظة العلم، فإنَّ مَن كان أعلم كانت قدرته في الغالب على ذلك العلم أكثر، وبالتَّالي يُعطيكَ مِن المعلومات ما لا يتمكَّن غيره من إيصالها إليك.
والثَّانية: القدرة على التَّفهيم، فإنَّ بعضَ الأساتذة وإن كثُرَ علمه إلَّا أنَّه يعجز عن مخاطبة عقول الناس بحيث يُعطيهم ما يتناسب مع عقولهم من العلم، وقد وردَ في الأثر"مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ؛ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةٌ" ، وبالتَّالي هذا المدرِّس يَزن أفهام التَّلاميذ، وما الذي يُمكن أن يفهموه، فإنَّ التَّلاميذ تتفاوت صفاتهم، فمنهم مَن يُركِّز على المعلومة الصَّحيحة، ومنه من تلتبس عليه الصفات، وبالتَّالي لابدَّ أن يُلاحظ حاله.
والثَّالثة: صفة متعلقةٌ بصفاء منهج الإنسان، فإنَّ المنهج الذي يسير عليه الإنسان له تأثير في فهمه وفي قدرته على إيصال العلم، وفي جعل أذهان الطُّلاب ترتبط بالأوصاف التي يتعلَّق بها ذلك العلم.
وهناك صفاتٌ تابعةٌ يكون لها تأثيرها أيضًا، منهــــا:
* أن يكونَ طالب العلم -وكذلك المدرس- وعلى ورعٍ وتقوى، فإنَّ للتَّقوى من التَّأثير في فَهمِ العلمِ وفي القدرةِ على إيصاله ما يجعلنا نحبِّذ أن تزدادَ صفة التَّقوى عند الأستاذ.
* كثرة ملابسته ومداسته، فإنَّ مَن أكثَرَ المدارسة عرفَ مِن دقائق العلم ومِن طرائق تدريسه ما لا يعرفه مَن لم يكنْ كذلك.
* أن يكونَ الأستاذ على سمتٍ عالٍ فيما يتعلَّق بأموره، وبالتَّالي لا تستفذِّه الهيجات ولا المشاركات الشَّاذَّة فتخرجه عن طوره؛ بل يكون ممَّن يُلقِي العلم ويبثُّه، ويسعى إلى نشره بينَ النَّاس بدون أن يكون مُتأثِّرًا بما يكونُ مخالفًا للمنهج.
وهناك أسئلة تتعلَّق بهذا؛ وهي: هل يصح أن نطلب العلم على صغارِ السِّنِّ؟
نقول: صِغرُ السِّنِّ وكِبَرهِ ليسَ معيارًا يُركَّزُ عليه، وإنَّما المعايير هي الأمور السَّابقة.
وهكذا مرَّات قد تكون المقارنة بينَ اثنين، أحدهما يعمل في أجهزةٍ رسميَّة، والآخر ليس كذلك؛ فيأتيكَ مَن يأتي ويُحاول أن يُنفِّر من الأوَّلِ بدعوى أنَّه افتُتِنَ أو أنَّ له تواصل بالجهات الرَّسميَّة، وبعضهم قد يقول عالمُ سلطانٍ، ونحو ذلك!
وهذا ليس بمعيارٍ صحيح، وإنَّما المعيار هل تواصله مع مَن تواصل معه يُبنَى على التَّقوَى والإيمان والنُّصح في الله -عزَّ وجلَّ- أو أنَّ ذلك التَّواصل إنَّما هو لإساغةِ تصرُّفات مَن يتواصل معه بسبب ما يناله في الدُّنيا منه، فمتى كانت العلاقات بينَ أفراد المجتمع أو بين أصحاب الولاية وأصحاب العلم مبنيَّة على التَّقوى والإخلاص وملاحظةِ كيفيَّة استجلاب رضى رب العزَّة والجلال؛ فإنَّ مثلَ ذلك لا ينبغي أن يكون مُنقِّصًا لمقدار طالب العلم، بل قد يكون له من الأثر والنَّفع بتواصله مع أصحاب الولاية، بحيث يتمكَّن من نشر العلم، ويتمكَّن من إيصال شريعة ربِّ العزَّة والجلال لأصحاب الولايات وغيرهم.
وقد يظنُّ بعضُ النَّاس أنَّ شهرة الإنسان وكونه يتبعه كثيرٌ من النَّاس في وسائل التَّواصل دليلٌ على قُدرته ومهارته، وهذا ليس بمعيارٍ صحيحٍ، فكم من عبدٍ مِن عباد الله قد أُعجِبَ به كثيرٌ وهو مخالفٌ للمنج غيرَ محقِّقٍ في العلم، وإنَّما ينقل نقولًا ويكون متأثِّرًا بغيره.
ولذا فإنَّ من خاصيَّة المعلم الذي يكون له التَّأثير: أن يكون من أهل الإخلاص، وأن يكون ممَّن سخَّرَ علمَه ليعمل به وليدعو إليه.
وأمَّا الشُّهرة فليست مقصودةً لذاتها؛ بل ليست مرادة لطالب العلم، إن حصلت تبعًا بدونِ قصدٍ فإنَّه يستعملها في طاعة الله وفي نشر العلم والخيرِ والهداية.
من الإشكاليَّات التي تعرض لكثير من طلاب العلم مشكلة الفتور. فما علاج ذلك -أحسن الله إليكم؟}.
مشكلة الفتور سواء في العلم أو في الطَّاعة جاءت النصوص ببيان شيءٍ من التوجيهات حولها، فمرَّة جاءت النصوص بالأمر بالثَّبات على الحق، وأنَّ هذه مزيَّة يعطيها الله -عزَّ وجلَّ- لبعض عباده، كما في قوله تعالى:﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [إبراهيم/27]، وبالتَّالي هناك وسائل للمعالجة وطريقة التَّعامل مع الفتور، منهـــا:
- التَّوجُّه لله -عزَّ وجلَّ- بأن ينشِّط الإنسان في طاعته وفي الاستمرار في التَّعلُّم والتَّعليم.
- أن يصحبَ الإنسانُأهلَ الخيرِ والهُدى ليُنشِّط بعضهم بعضًا في الاستمرار على طريق التَّعلُّم.
- أن يُحرَصَ على ترتيبِ الأوقاتِ التي يتعلَّم فيها الإنسان ليكونَ ذلك مِن أسباب استمراريَّة التَّعلُّم، فقليل دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ منقطعٍ، على ما حُكٍيَ.
- أن يُنوِّع الإنسان فيما يقوم بدراسته مِن العلوم والفنونِ والكتبِ؛ بحيث إذا تطرَّق إليه مللٌ في بابٍ اتَّجهَ للباب الآخر.
- أن يقصدَ الإنسانُ بدراستهِ وتعلُّمِهِ وجهَ الله ورضاه والدَّار الآخرة، فكثيرٌ مِن النَّاسِ يقصد بتعلُّمِه أن يكونَ عالمًا، أو أن يَصِلَ إلى رتبةٍ عاليةٍ، أو أن يتمكَّنَ مِن المشاركة في الحديث في المجالسِ عندما يجتمع مع الآخرين؛ فمثل هذه النِّيَّات تجعل الإنسان يسأم ويفتُر في طلب ِ العلمِ، بخلاف ما إذا وجدَ أنَّ ذلك العلم ينال الإنسان به الأجر والثَّواب في كلِّ لحظةٍ من لحظاته؛ وحينئذٍ يكونُ مقتنعًا بذلك العلم، مستمرًّا في التَّعلُّم.
- ملاحظة أثر التَّعلُّم على نفسه، فكثيرٌ من الناس قد يستفيدُ من التَّعلُّم أشياء كثيرة، ثم بعدَ ذلك يظنُّ أنَّه لم يستفد شيئًا، تجد الإنسان مثلًا يدرس خمس أو ست سنوات في المرحلة الابتدائيَّة، ثم بد ذلك يقول ما درسنا شيئًا ولا استفدنا شيئًا؛ بينما هو تعلَّم القراءة والكتابة والقرآن والحساب وأخذ مِن معلومات العلوم الشَّيءَ الكثير، وبالتَّالي فعدم ملاحظته لدرجات التَّرقِّي التي نالها في طلب العلم يجعله ذلك يفترُ ولا يستمر في طلبه للعلم.
- التَّنوُّع في طريقة تناول المعلومة واكتسابها، فهذا من الأسباب العظيمة التي تجعل الإنسان يستمر في تعلُّمه ولا ينقطع في ذلك الطَّريق.
- المقارنةُ بينَ العلم، وقد تكون مقارنة بين مسألةٍ وأخرى، وقد تكون بينَ بابٍ وآخر، وقد تكون بينَ مذهبٍ وآخرٍ، وقد تكون بينَ شخصٍ وآخر، فهذه المقارنات؛ فلان يقول كذا وفلان يقول كذا، ودليل فلان كذا، ودليل فلان كذا؛ تُبعد المِلالَ عن النَّفسِ، وتجعلها لا تفتُر في طلبِ العلمِ، ولذلك كانَ من المستَحسَنِ أن تكونَ دروسُ العلم مشتملةً على المناقشات بينَ الأستاذ وطُلَّابه، وبينَ الطُّلابِ بعضهم مع بعضهم الآخر، لأنَّ هذا يُذهب الفتور ويوجِدُ روحَ المنافسة، وهذا مِن طرائق إزالة الفتور؛ ألا وهو زراعة روح التَّنافس بين الطَّلَبة بحيث يكون عندهم من الرَّغبة في التَّعلُّم ما يجعلهم يستمرُّون في هذا الطَّريق ولا يفترون فيه.
فهذه طرائق من طرائق إزالة الفتور المؤدِّي إلى الانقطاع عن دراسة العلم وتدارسه، ونجد أنَّ كثيرًا من النَّاس انقطع، مرَّات لأنَّه يُريد أن يكتسب في الدُّنيا، ولم يعلم أنَّ الله هو الرَّزاق، وأنَّه -سبحانه وتعالى- هو المعطي المانع، وأنَّ القاعدة الشَّرعيَّة في باب ملاحظة عواقب الأمور في أبواب الرِّزق أن يتدبَّر الإنسان قوله تعالى﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق 2، 3].
شكرًا على حضورك معنا في هذا اللقاء، ونشكرُ إخوتنا الذين حضروا معنا، باركَ الله فيهم جميعًا، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكرَ الله لكم مَعالي الشَّيخ على ما تقدمونه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك