{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة
الشيخ}.
حيَّاك الله، وأرحب بك، وأرحب بأحبتي من المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جَلَّ
وَعَلَا- أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى، وأن يجعل أعمالنا وأعمالهم خالصة لوجهه
الكريم.
{في الحلقة الماضية تحدَّث معالي الشيخ عن كيفية تلقي طالب العلم للعلم الشرعي، وفي
هذه الحلقة -بإذن الله- سنتحدث عن آداب الطالب في حياته العلمية.
لو حدثتمونا معالي عن علو الهمة}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ همم الناس مختلفة، ومنهم من تكون همته قريبة دانية من قدميه،
ومنهم من تكون همته عالية تصل إلى عنان السماء، وهكذا في طلب العلم، فبعض طلبة
العلم تجده يقتصر في همته على ضبط بابٍ واحدٍ، ولا يريد أن يتجاوز ذلك، وقد تكون
همته في ضبط هذا الباب الواحد على قولٍ واحدٍ وعلى أحد المذاهب المشهورة بدون
استنادٍ للدليل، وكذلك الشخص الذي تكون همته أعلى وأعلى غاياته أن يضبط مسائل
المواريث والفرائض على أحد المذاهب الفقهية.
وهناك من تكون همته عالية فيخطط ويقصد أمورًا كبيرة يكون لها أثرها، ولذلك في باب
طلب العلم يسعى أن تكون عنده الأهلية لتطبيق النصوص على الوقائع الجديدة، ويكون
عنده من الرغبة والهمة ما يكون مقصوده تحسين جميع أمور الشريعة كتابًا وسنة.
ومن ثَمَّ هناك ثلاثة أمور، وعلى طالب العلم أن تكون همته مُستوعبه لهذه الأمور
الثلاثة.
أولها: معرفة النصوص وضبطها؛ بأن يحفظ آيات الكتاب، وأن يحفظ أحاديث رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، ويتمكن مِن عَزوها لمصادرها ورواتها.
وأما الأمر الثاني: أن تكون همته عالية في فَهم الكلام العربي بمعرفة قواعد
الاستنباط، بحيث يكون عنده من الملكة ما يُؤهله لرتبة الاجتهاد.
وأما الأمر الثالث الذي تعلو به الهمة فهو: أن يقصد نشر العلم على أكبر نطاق ممكن،
وإذا كان أهل الزمان الماضي مع ضعف أدوات التواصل عندهم إلا أنهم في أزمانهم قد وقع
لهم من الأثر الكبير، فالعبد المؤمن يُؤمل في الله –عَزَّ وَجَلَّ- أن يحقق له وأن
يجعله سببًا لنشر العلم الكثير.
فهذه الأمور الثلاثة ينبغي أن تعلو همة الإنسان فيها، ومتى عَلَتْ همة الإنسان فيها
جعله ذلك يلاحظ أربعة أمور:
أولها التخطيط: فإنَّ من أراد هدفًا ينبغي به أن يجعل الوصول إلى ذلك الهدف قد
توافرت شروطه وضوابطه، فعرف الطريق الموصلة إليه.
وأما الأمر الثاني: أن يستغل جميع الأوقات في تحقيق الهدف الذي وصل إليه، ويمكنه أن
يحول ما يعرض إليه ليكون موصلا إلى ذلك.
وأما الأمر الثالث: الاستعانة بالوسائل المعينة التي تجعل الإنسان يغبط ذلك العلم،
وفي زماننا الحاضر من الوسائل: التواصل وفي الإعلام ما يسهل كثيرًا من هذا الأمر،
فإن هذه الوسائل الجديدة تجعل الإنسان يحقق هدفه العالي.
وأما الأمر الرابع: إمكانية التواصل مع طلبة العلم الذين يماثلونه، فيناقشهم
ويناقشونه؛ فيكون هذا من أسباب التعهد الذي يحصل به حفظ العلم وضبطه.
فهذه أمور أربعة ينبغي أن تكون بين عيني طالب العلم.
{أحسن الله إليكم.
هلا ذكرتم لنا معالي الشيخ بعض وسائل استذكار العلم؟}.
كما قيل: آفة العلم النسيان، ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُرَغِّب في تعهد
حفظ القرآن، فقال: «تَعاهَدُوا هذا القُرْآنَ، فَوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ
لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِه» ، وتعهد القرآن بكثرة مراجعته،
وكثرة تلاوته، والتأمل في المعاني التي جاء بها كتاب الله –تعالى-، ومن سعى إلى
استذكار الكتاب وتعاهده سواء في معانيه أو في لفظه؛ أدى به ذلك إلى أن يحفظ نصوص
العلم، وأن يكون مُتذكرًا لها.
{أحسن الله إليكم.
هلا تحدثتم معالي الشيخ عن اتباع العلم العمل وكيف يُدرب طالب العلم نفسه على
ذلك؟}.
آيات القرآن، وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما نزلت ليعمل بها، فهي ليست
نصوصًا للبركة، وليست ألفاظًا تُتلى لتتعلم منها البلاغة، وإنما هي أوامر ونواهي
يجب على العبد التزامها، ولا يجوز له أن يُفرط فيها، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب
على الإنسان أن يعمل بما تعلمه من العلم إذا كان ذلك العلم يتعلق بعمله، وجاءت
النصوص بالأمر بالعمل، قال –تعالى-: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].
وهكذا بَيَّنَ الله –عَزَّ وَجَلَّ- أن هذا العلم الموجود في الكتاب مُشتمل على
معنيين، الهدى والنور، ولذلك يجعل هذا العلم طريقًا من طُرُقِ استعمال العلم في
أوجه العمل التي تكون بين عيني الإنسان.
اتباع العلم بالعمل شرط أساسي، وجاءت النصوص بِذَمِّ من يأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر وهو لا يعمل بهما، قال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
[البقرة: 44]، وقال جَلَّ وَعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا
تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:2-3].
إذا تقرر هذا فإن الإنسان مُطالب بأن يعمل بعلمه، وأن يتقرب بذلك لله -عَزَّ
وَجَلَّ- وأن لا يجعل العمل مجرد ديكور في ذهنه.
وجاءت الآيات القُرآنية تؤكد أن الغرض مِن بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- وإنزال
الكتاب عليه؛ أن يعملوا بما نزل عليه من العلم، وهناك نُصوصٌ كثيرةٌ تدل على وجوب
اتباع العلم بالعمل.
وإذا تقرر هذا فإن هذا الكتاب متى عملنا به، أورثنا ذلك خيري الدنيا والآخرة، قال
–تعالى-: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف:72]؛ فدل هذا على أنَّ العمل مُؤثر، فهو كما يُؤثر في حال
الإنسان في الآخرة يُؤثر كذلك في أحكام الدنيا.
{أحسن الله إليكم.
ما أهمية اللجوء إلى الله تعالى في طلب العلم؟}
اللجوء إلى الله تعالى يشمل التضرع بين يديه، وسؤاله –سبحانه وتعالى- وإذا علم
العبد أنَّ قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن –سبحانه وتعالى- وعلم أنَّ الله
يصرف القلوب كيف يشاء، كما قال –جَلَّ وَعَلا- عن الراسخين: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران:8]، وهذا يدل على إمكانية أن يكون هناك زيغ في
القلوب، ولذلك على الإنسان أن يلجأ إلى الله، واللجوء إلى الله في عدد من الأمور:
أولها: أن يستمد من الله العلم.
ثانيها: أن يسأل الله أن يُبعده عن المناهج المخالفة.
ثالثها: يدعوه أن يستمر ولا ينقطع ولا يُعجب بنفسه.
وهذه شيء من طرائق اللجوء إلى الله في طلب العلم.
{أحسن الله إليكم.
لو حدثتمونا معالي الشيخ عن الأمانة العلمية والصدق، والفرق بينهما.}
الأمانة العلمية تقتضي عددًا من الأمور:
أولها: صحة المعلمومة التي ينقلها الإنسان بحيث لا ينقل إلا المعاملات الصادقة.
الثاني: وجود الدافع الذي يدفع للأمانة، وهو مخافة رب العزة والجلال واستشعار
مراقبته –سبحانه وتعالى-.
الثالث: نسبة العلم لأهله، فقد يكتب على كتابه هذا وقف أو هذا ملك (فلان) وبالتالي
لا يتصرف في ماله إلا بإذنه.
{أحسن الله إليكم.
لو حدثتمونا معالي الشيخ عن كلمة (لا أدري) ومنزلتها لدى من لا يعلم.}
عندما يُوكل العلم إلى أصحابه وذويه تصلح الأمور، كما نوكل المعلومة الطبية إلى
الطبيب ونحوه، وأمَّا إذا أُحيل الجواب والكلام إلى من لا يفهم ولا يدرى ما هو؛
حينئذٍ يجتنب هؤلاء الذين يتسلقون سور الفتوى وهم ليسوا من أهلها.
{أحسن الله إليكم.
معالي الشيخ، ما هي الطريقة المناسبة لإجمام النفس وإراحتها بالنسبة لطالب العلم.}
طالب العلم قد يتطرق إليه الشعور بالسآمة والملل، وبالتالي قد يقطعه ذلك عن طلب
العلم، ويصرفه إلى ما هو مضاد للمقصد في تعلم أحكام الشريعة؛ ولذلك على الإنسان أن
يتقرب إلى الله بمعالجة نفسه بإعطائها أحكامًا في كل واقع وفي كل حال بحسبها، كما
أنك إذا زعلت ودمعت عين ابنك راضيته لأن الزعل منك، والمقصود تخفيف المصاب على من
أصيب به فهذا أمر مشروع، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من يكون كذلك.
وإجمام النفوس إنما يُراد به إبعاد السآمة والملل عن النفوس، وله مقاصد ومعان أخرى،
وإجمام النفس ينبغي أن يُعلم أن له طرائق بالنسبة لطلب العلم، سواء كان في ترتيب
المأكل الحسن، مثل: التمر وغير ذلك، وسواء كان في ثيابه أو هندامه، أو في أي حال من
أحوال نفسه، وحينئذٍ عليه أن يبحث عن طرائق استجمام أخرى، وقد قيل: إن بعض المشاريع
التي توجد في الزمن الحاضر خصوصًا ما يُحعل للصبيان قد يُرفه النفوس.
وعلى كلٍ على طالب العلم أن يشتغل وأن يعمل بما يستطيعه مما وصل إليه في هذا الباب.
لعلنا نقف عند هذا ونسأل الله –جلَّ وعلا- أن يوفقنا وإياكم للخير، وأن يجعلنا
وإياكم هداة مهتدين.
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
{شكرَ الله لكم مَعالي الشَّيخ على ما تقدمونه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين
حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر،
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}.