الدرس الأول
معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وفي مطلع هذا الفصل المبارك أرحبُ بمعالي الشيخ الدكتور سعد بن ناصر
الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك وأُرحبُ بأحبَّتي من طلبة العلم الذين ثد
سجَّلوا في الأكاديمية، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- لهم رضًا من الرحمن، ورفعة درجة في
الجنان، كما أسأله سبحانه أن يُصلح القلوب، وأن يجعلها مستشعرة لاطلاع علَّام
الغيوب.
{في أولى حلقات سلسلتنا "آداب الطلب" نستمع وإيَّاكم لمعالي الشيخ يُحدِّثنا عن
قيمة طلب العلم}.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد؛ فإنَّ طلب العلم الشَّرعي عبادة يُتقرَّب بها إلى الله -سبحانه وتعالى-
وهي من أفضل الأعمال، وتدور بين فرض الكفاية وفرض العين، وقد تواترت النُّصوص ببيان
مزيَّة هذه العبادة، كما في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنَّ
الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحتَها لطالِبِ العلمِ رضًا بما يصنعُ» .
وإذا علم العبدُ أنَّ أيَّ أمرٍ قرآنيٍّ من كلام ربِّ العزَّة والجلال نزل على
العباد كان في وسيلة من وسائل طلب العلم، كما في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1]، ولذلك لابدَّ أن نستشعر القيمة العظيمة لطلب
العلم.
وينبغي بنا أن نفرق بين طلب العلم وبين التعليم والفتوى:
- فطلب العلم عبادة مُستقلَّةٌ، حتَّى ولو كانَ الإنسانُ قليلَ فهمٍ، أو كانَ لا
يظنُّ أنَّه سيدرك الشَّيءَ الكثير، فإنَّ هذه الأمور لا ينبغي أن تكون صادَّة له
عن طلب العلم.
وهكذا أيضًا كون الإنسان لديه أعمال وأشغال لا تعني أن ينصرف عن طلبِ العلم، فذلك
المهندس وذلك الطَّبيب، وذلك العامل في قيادة سيَّارت الأجرة، أو الموظف الإداري،
أو في أي مجالٍ من مجالات الحياة؛ لا يعني انخراطه في هذه المجالات أن يترك طلبَ
العلم.
وكما تقدَّم أنَّ طلب العلم عبادة مُستقلَّة، ولذا قال النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خيرُكم مَن تعلَّمَ القُرْآنَ وعلَّمَه» ، وتعلُّم القرآن ليس
للحروف فقط وإنَّما لحروفه ولأحكامه، ومنها أحكام الفقه، والأحاديث النبويَّة التي
هي بيانٌ لكتابِ ربِّ العزَّة والجلال، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، وإذا كان
كذلك؛ فإنَّ هذه العبادة لابدَّ أن نجعلها في اهتماماتنا اليوميَّة كلٌّ بحسبه.
ونعلم أيضًا أن الإعراض عن التَّعلُّم فيه خطورة كبيرة، ولذا ورد في الحديث أنَّ
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في المسجد في حلقة مع أصحابه فقدم
ثلاثة نفرٍ، فجلس أحدهما في أثناء الحلقة، والثاني جلس خلفها، والثالث خرج من
المسجد -ولى معرضًا- فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا
أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ
فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ
وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» ، وقد قال تعالى:
﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا
يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: 157]، ولذلك على العبد أن يتقرب إلى الله بتعلم العلم
وبسماعه.
وفي يومنا الحاضر وُجدت وسائل كثيرة يتمكَّن الإنسان فيها من طلب العلم، ومن تلك
الوسائل:
الوسائل الفنيَّة والتِّقنيَّة.
الوسائل الإعلاميَّة.
وحينئذٍ نعلم قيمة هذه الوسائل، ومن أمثلة هذه الوسائل هذا البرنامج العلمي الذي
نشارك فيه في الأكاديمية الإسلامية، وهكذا في برنامج جامعة المعرفة الذي أُشرِفُ
عليه، وهكذا المواقع ووسائل التواصل بحسابتها المعهودة الموثوقة. وسنأتي -إن شاء
الله- إلى بحث أدب طلب العلم في هذه المواقع في موطنه.
ومن خلال حديثي هنا أُذكِّر بقيمة العلماء وبمنزلتهم، فإنَّ النُّصوص قد جاءت
بتقديرهم وبمعرفة منزلتهم، وبوجوب الرجوع إليهم، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9].
وقد أرجع الله العبادَ إليهم في مواطن، حتى في مرتكز دين الإسلام، ألا وهو شهادة
التَّوحيد، كما في قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18].
وانظر إلى أثرِ العلماءِ في مجتمعاتهم من خلال دراسة القصص القرآني، مثلًا في قصَّة
قارون ذكر الله -جلَّ وعَلا- أنَّ قارون خرج على قومه في زينته: ﴿فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [القصص:
79]، فردَّ عليهم العلماء: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ
ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الصَّابِرُونَ﴾ [القصص: 80]، ثم بعد ذلك جاءت العقوبة ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ
وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81]؛ وحينئذٍ عُلم مكانة
العلماء وأثرهم.
وهذا يُستشهَد به على مقولةٍ نسمعها كثيرًا، ألا وهي أنَّ الفتن إذا أقبلت لم
يعرفها إلَّا العلماء، وإذا أدبرَت عرفها كلُّ أحدٍ، ومن هذا المنطلق أمر الله
-جلَّ وعَلا- بالرُّجوعِ إليهم، كما في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ
إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وكما في قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، يعني: العلماء،
قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً﴾ [النساء: 83]، يعني: لتركتم اتِّباع العلماء
واتَّبعتُم الشَّياطين.
ومن هنا لابدَّ أن يُعلَم أنَّ علماء الشَّريعة لهم المكانة والتَّعزيز، وأنَّه يجب
حفظ منزلتهم، وأن يُعرَف أثرهم الجميل في مجتمعاتهم، وبالتَّالي يُؤخَذ عنهم العلم،
ويُرجَعُ إليهم، ويقي الله -جلَّ وعَلا- الأمَّة بهم الشرَّ والسُّوءَ، ويكونوا من
أسباب ورود الخير على العباد بفضل ربِّ العزَّة والجلال، وستأتي معنا صفات العلماء
الرَّبَّانيين؛ لأنَّ هناك مَن يتزيَّى بزيِّ العلماء، يأخذ شهادة، أو ينتسب إلى
مؤسسة علميَّة، يخرج في وسائل إعلام؛ كل هذه الأمور لا تدل على أنَّ الشَّخص من
العلماء، حتى ولو وجدنا أنَّ الناس يرجعون إليه، فكم انخدع الخلق بمَن يُظهر نفسه
على أنَّه من أهل العلم، وهو ليس منهم في شيء!
وزُبدة المواصفات -وإن كنَّا سنأتي بتفاصيلها فيما يأتي: أن يكون الشَّخصُ يستنبط
الأحكام من الكتاب والسُّنَّة بدون تحيُّزٍ لنصٍّ دونَ نصٍّ، ولذا قال تعالى في
الآية السابقة: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، يعني: يستخرجون
الحكم من أدلته كتابًا وسنَّةً.
ولذلك نعلم خطورة تلك الهجمات التي تكون على علماء الشَّريعة، وهذا ليس أمرًا
جديدًا، فأنبياء الله وأتباعهم قد نالهم ما نالهم من مثل ذلك، وبهذا نفهم قول النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ،
وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا
وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» ، فوراثة العلماء
للأنبياء لا تقتصر على العلم فقط؛ بل سينالهم من البلاء وسينالهم من الحملات
الإعلاميَّة المغرضة، كما قالوا للنبي: ساحرٌ ومجنونٌ وكاهنٌ وشاعر...، وكانوا
يحذِّرون منه ويتكلمون عنه من أجل أن يحذره الناس؛ فهكذا أتباع الأنبياء عليهم
السلام.
وإذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يؤمن معه إلَّا القليل في
سنوات بعثته الأولى مع أنَّه ليس عنده من التَّكاليف شيء إلَّا التَّوحيد،
فالصَّلاة لم تُفرَض إلَّا في السَّنة العاشرة، التَّوحيد البيِّن الواضح الذي
يُناقض الطَّريقة الجاهلية بالتَّذلل والخضوع لصنمٍ يصنعونه، ومع ذلك لم يستجب له
إلا أفراد قلائل، حتى أظهرَ اللهُ الأمرَ وتمَّ حكمه -جلَّ وعَلا- في العباد.
فالمقصود: أنَّ العلماء سيتعرَّضونَ لمثل ما تعرَّض له أنبياء الله، كما جاء عن
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا سئل أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟
قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى
حَسَبِ دِينِهِ» ، فالعلماء من الأمثل.
ومن هنا فإنَّه لابد من تعزيز مكانة العلماء، ولابدَّ من إخراج علماء في الأمَّة
يكون لهم أثرهم الجميل، ولابدَّ من أن نبذل الأسباب المؤدِّية لذلك، ولو علم الملوك
والأمراء ورؤساء الدُّول بالأثر الجميل للعلماء الحقيقيين في الأمَّة لكانَ ذلك من
أسباب سعيهم الحثيث إلى تكثير العلماء.
والعلماء لهم أثرهم الجميل في حياة الأمَّة، سواء في حل مشاكلهم الاقتصاديَّة، أو
النَّفسيَّة، أو الأسريَّة، أو الاجتماعيَّة، أو الماليَّة، إلى غير ذلك من مجالات
الحياة، وكما تقدَّم أنَّ المراد هم العُلماء الحقيقيُّونَ الذين يسيرون على المنهج
الصحيح المبني على الكتاب والسُّنَّة، ولا يكون كالأعور لا يرى إلَّا جزءًا من
الأدلَّة بما يوافق هواه، أو يُركِّب مدلول الأدلَّة على ما يتوافق على تصوُّراته
المجرَّدة؛ بل يبني تصوُّراته وأحكامه على كتاب الله -جلَّ وعَلا- وسنَّة رسوله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتَّالي يُخاطب كلَّ واحدٍ من الناس بما
يتناسب من عمله، فليس من شأنِ العالم أن يُخاطب عامَّة النَّاس بواجبات الدَّولة،
ولا يُخاطب مسؤولي الدولة بواجبات أفراد الناس! فهذه خاصيَّة أخرى، وبالتالي يُخاطب
كل واحدٍ بما يتناسب مع حاله وعمله.
وهكذا يسعى إلى تحبيب الناس بعضهم في بعضٍ، ما يزرع قنابل في النَّاس ويتعادون
ويتقاتلون! وإنَّما يجعل الناس يُحبُّ بعضهم بعضًا، ويصبر بعضُهم على بعضهم الآخر،
لن تستقيم حياةٌ إلَّا بالصَّبر، فيصبر النَّاسُ بعضهم على بعضٍ، ويُحبُّ بعضُهم
الخير لبعضهم الآخر، فعلماء الشَّريعة هم الذين يقومون بذلك.
{أحسن الله إليكم، ذكرتم فضل العلم والعلماء، هل هذا ينطبق على من يشتغل بالطِّب أو
الهندسة؟
وثمة سؤال آخر متعلق به: هل من يشتغلون بالطب والهندسة مُؤهلين للاستنباط من أحكام
الشَّريعة؟}.
سيأتي معنا أنَّ الاستنباط وظيفة كبيرة تحتاج إلى أربعة مُؤهلات، مَن لم توجد هذه
المؤهلات فيه فإنه لا يجوز له أن يدخل باب الاستنباط، ولا يجوز له أن يجتهد، ولا
يجوز له أن يحكم بحكم شرعي على النوازل والوقائع، وإنَّما ينقل فتوى مَن هو مُعتبرٌ
في هذا الباب، فهذه هي المواصفات:
استيعاب الأدلة الواردة في المسألة.
القدرة على فهم النُّصوص من خلال معرفة قواعد الفهم والاستنباط، والقدرة على
تطبيقها.
معرفة مواطن الإجماع والخلاف.
معرفة لغة العرب بما يُمكِّنه من فهم مدلول اللفظ العربي الوارد في الكتاب
والسُّنَّة.
وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل ذلك في محلِّه.
إذن؛ لابد أن نحافظ على مكانتهم، ولابدَّ أن نسعى إلى تدعيم منزلتهم، ولابدَّ أن
نعرف أنَّ لهم فضلًا كبيرًا على الناس، وبالتَّالي نستشعر عظَم المكانة التي سيصلون
إليها، وعظم المسؤوليَّة التي تُناط بأعناقهم، وأنَّهم يجب عليهم من تبليغ الشَّرع
ما لا يجب على غيرهم.
{حدثونا عن طالب العلم والإخلاص}.
هذه ركيزة أساسيَّة في طالب العلم، ألا وهي ركيزة الإخلاص، فالإخلاص شرط في
العبادات كلها، لا يقبل الله من العمل إلَّا ما كان خالصًا لوجهه، وقد قال تعالى:
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، فدين
القيِّمة لابدَّ فيه من إخلاص.
ما هو الإخلاص؟
هو أن ينوي الإنسان بأعماله أمران:
الأول: إرضاء ربِّ العزَّة والجلال، لقول الله -جلَّ وعَلا: ﴿لَا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً﴾ [النساء: 114]
الثاني: الحصول على الأجر الأخروي، وهذه نيَّة أجر الآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ
أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ
سَعْيُهُمْ مَشْكُورً﴾ [الإسراء: 19].
ولذلك نعلم أنَّنا في أشد الحاجة إلى الإخلاص وتصحيح النيَّات.
وأضرب لذلك مثلًا: كثير من الناس يطلب العلم، فإذا سألته: لماذا تطلب العلم؟ يقول:
لأكون عالمًا! ما يقول لأرضي الله، أو لأحصل الأجر الأخروي! وإذا سُئل: لماذا تطلب
العلم؟ قال: ليُرجَعَ إليَّ، أو ليكون لي مكانة بينَ النَّاس!
فهذا من إرادة الدنيا بعمل الآخرة، ولذلك يحذر الإنسان من مثل هذا، وقد قال -جلَّ
وعَلا: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ
لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورً﴾
[الإسراء: 18]، وقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا
يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود
15، 16].
والمتأمِّل في أحوال الناس يجد انَّ هذا من الأمور التي قد يتهاون فيها بعض الخلق،
تجده يتعلَّم العلم ليكون له قدرةٌ على مناقشة الناس في مجالسهم، ما أراد إلَّا أن
يمضِّيَ الوقت بالنِّقاش والحديث، ولذلك لابدَّ أن نقصد بطلب العلم إرضاء ربِّ
العزة والجلال، والحصول على الأجر الأخروي.
والناظر في أحوال الناس في طلب العلم يجد أنهم على أربعة أنواع:
النوع الأول: مشرك شرك أكبر، يدرس فقه وهو يُشرك بذلك، يدرس تفسير وهو يُشرك بذلك؛
لأنَّه يتقرَّب به إلى غير الله، كأن يتقرَّب به إلى الوالي، أو إلى أحدٍ من الخلق،
يعبد غير الله بذلك، وبالتَّالي يكون هذا شرك أكبر، والعبادات يجب إفرادها لله، ولا
يجوز صرفها لأحدٍ سواه.
النوع الثاني: مَن يطلب العلم من أجل مراءاة الخلق، ليقولوا فلان يحضر حلقات العلم،
فلان يشارك، فلان أصبح عالمًا، ونحو ذلك؛ فهذا رياء وشرك أصغير، وجاءت النُّصوص في
التَّحذير، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن طلبَ العِلمَ ليُجاريَ بهِ
العلَماءَ أو ليُماريَ بهِ السُّفَهاءَ أو يصرِفَ بهِ وجوهَ النَّاسِ إليهِ أدخلَهُ
اللَّهُ النَّارَ» .
النوع الثالث: من يطلب العلم -أو يعبد الله- من أجل الدنيا، فإذا سُئل: لماذا
تَدْرُس؟ يقول: لأكون أستاذًا في الجامعة.
نقول: انتبه! هذا علم شرعي ينبغي بك أن تجعل تعلُّمه لله، لا تجعله لشيءٍ من
الدُّنيا.
هل هو مشرك؟
نقول: ليس بمشركٍ، لكنَّه لا يؤجَر على عمله في الآخرة، كما قال النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا
لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ، فإن نوى به دنيا فليس له من الأجر شيء.
النوع الرابع: من طلب العلم لله لينيله الآخرة، فهذا هو المؤمن الموحد، والذي سيحصل
على الأجور الكثيرة والثَّواب الجزيل.
ولذلك إذا تأمَّلتَ أحوال الناس في هذه العبادة تجدهم على هذه الأنواع الأربعة،
وواجب متعيِّنٌ على الإنسان أن يدرس العلم الشَّرعي من أجل أن ينال به رضا الله،
وأن يحصل به على الأجر الأخروي.
{أحسن الله إليكم شيخنا..
سؤال يكثر كثيرًا ممن يدرس الدارسات الشرعية، يقول: أنا أبذل جهدي وأدرس، ويحصل
عندي اضطراب في النية، فإذا سُئِلتُ فيحصل في ذهني اضطراب ماذا أريد؟ وماذا أكون في
الوظيفة؟}.
هذا الكلام الذي تذكره منشأه من أن العبد لاحظَ الخلق، فحينئذٍ درسَ ليراه الناس
ويمدحونه وتكون له منزلة عندهم، فمثل هذا لا ينال به الإنسان أجرًا؛ لأنَّه ما أراد
وجه الله والدار الآخرة، وقد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا
الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، ما يأتيك إلا
شيء نويته، وما لم تنوِهْ فإنَّه لا أجر لك فيه، ومن ذلك طلب العلم الشَّرعي.
ومن هنا علينا أن نسعى إلى تحقيق صفة الإخلاص لله -جلَّ وعَلا- في أعمالنا التي
نؤديها.
من الأمور التي تتعلق بهذا: أنَّ بعضَ النَّاس مع طول المدَّة ينسى هذه النِّيَّة،
ولذلك يحسن به أن يكررها في كل عمل يريد أن يعمله مما يتعلق بهذا المقصد والنية.
{أحسن الله إليكم يا شيخنا...
لوحدثتمونا عن طالب العلم والعبادة}.
نزلت السُّورة الأولى ﴿اقْرِ﴾، ثم نزلت السورة الثانية ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
(1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ
قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ
قِيلً﴾ [المزمل 1- 6]؛ هذه الآيات تدلُّك على معنًى جليل، ألا وهو أنَّ التَّمهيد
للحصول على العلم يكون بالعبادة، كما أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بالعبادة في هذا الوقت، وبالتالي علينا أن نحثَّ على عبوديَّة الله -جلَّ وعَلا-
وأن نذكِّر بالفضل العظيم المترتب على القيام بالعبادات الشَّرعيَّة، فيكون هذا من
أسباب صلاح أحوال الناس واستقامة أمورهم، ما أوتي الناس إلَّا لكونهم قصدوا غير
المقصد الشَّرعي.
{من الأمور المتعلقة بالعبادة -ولعلكم ذكرتموها في الآية- وهي الأمر بالمعروف
والنَّهي عن المنكر، فكيف تكون في حياة طالب العلم}.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه ولايات، وتكون لأصحاب الولاية، وإنَّما من شأن
طالب العلم الدَّعوة إلى الله، وترغيب النَّاس في الانخراط في طرائقها، وتصحيح
القلوب، وإزالة ما فيها من المعاني المخالفة للشريعة، فإنَّ قلوب الناس فيها
مخالفات كثيرة، وبالتالي نحتاج إلى تقويم ما في هذه القلوب، وأن نصحِّح النيَّات
والمقاصد، ولنجعلها موصلةٌ إلى رضا ربِّ العزَّة والجلال، ومن ثَمَّ يكون لها الأثر
الجميل -بإذن الله جل وعلا.
من الأمور التي ينبغي أن نؤكِّدها في هذا الباب: أنَّ طلب العلم -الذي هو عبادة-
لابدَّ أن ننوي فيه عبوديَّة ربِّ العزَّة والجلال، وأن يقصد الإنسان بها الآخرة،
ومتى وُجدت هذه النيَّة بارك الله في العلم، وعمَّمَ انتشاره في الخلق، وكان من
أسباب حصول العبد على الأجور الكثيرة باستجابتهم لهذه الدَّعوة الكريمة المبنيَّة
عل العلم الصَّحيح.
وأعظم ما يصيب الناس من شيئين:
تديُّن غير مربوطٍ بعلمٍ.
وعلم غير مربوط بتديُّنٍ
وأنبه في هذا إلى شيء جميل يتعلَّق بطلب العلم؛ ألا وهو أنَّ العبد ينبغي عليه أن
يُراقب نيَّته في كل وقتٍ لئلا تنحرف عن مسارها، تجده أوَّل ما يدخل البرنامج
العلمي ينوي به وجه الله والدار الآخرة، ثم بعدَ ذلك ينحرف ويبدأ يتمنى ويرجو
أمورًا دنيويَّة، ومن ثَمَّ يقع من اللبس في ذلك ما يقع، وقد وجدنا أثرًا ملحوظًا
على النِّيَّة في سلوك العبد، ولهذا قال مَن قال: "نيَّة المؤمن خيرٌ من عمله" ،
وقد ورد مرفوعًا؛ لأن العمل قليل، والنيَّة أن ينوي أنَّه سيبقى على الخير والطاعة
لسنوات طويلة، يقول: لو أبقاني الله ألف أو ألفين سنة فإنني سأبقى مع العلم؛ هذه
نيَّته، وبالتَّالي يُجازى في الآخرة بالخلود في الجنان، لأنَّ عندهم من المقاصد
والنِّيَّات هنا ما كان متعلقًا بأمر كثير في مستقبل أيَّامهم.
فالمقصود الآن: أنَّنا نريد أن نصحِّحَ ما في القلب، وأن نجعل الإنسان ينوي
التَّقرُّب إلى الله بطلب العلم، وقد جاءت النصوص بالتَّأكيد عليه، ولذلك قال
الراسخون في العلم: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَ﴾ [آل
عمران: 8]، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو فيقول: «يَا
مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» .
وكثير من الدراسات تكون دراسات نظريَّة غير معمَّقة، وغير ملاحظِة للأمر الباطن
المتعلق بالنيَّة، فيقع فيها من الإشكال والمخالفة للشَّرع ما الله به عليم.
هذه نماذج مما يتعلَّق بهذا الموضوع العظيم -موضوع الإخلاص- وأؤكِّد فيه أنَّه يجب
عليك أن تنوي بأعمالك الآخرة.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكل خير، وجعلنا الله وإيَّاكم من الهداة المهتدين،
اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصَّالح والنِّيَّة الخالصة، هذا والله أعلم،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلاسل أخرى للشيخ
-
3780 1
-
5956 11
-
4638 10
-
5509 5
-
4095 23
-
5901 24
-
7057 24
-
8461 24
-
7411 11
-
10724 11
-
13138 11
-
16525 12