الدرس الرابع

معالي الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان

إحصائية السلسلة

5166 7
الدرس الرابع

كتاب التوحيد (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجَّلين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات، في درسٍ مباركٍ من دروس التوحيد، للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-.
ضيف هذا الدرس هو فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء.
أهلًا ومرحبًا بالشيخ صالح في هذا الدرس}.
حياكم الله وبارك فيكم.
{وقف بنا الحديث عند باب: ما جاء في كثرة الحلف}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المراد بالحَلِف هنا: اليمين بالله -عزَّ وجلَّ-، والحلف: هو ذكر مُعظَّمٍ لتأكيد محلوفٍ عليه، ولا يكون الحلف إلا بالله -عزَّ وجلَّ-؛ لأنه هو المستحق للتعظيم، وحده لا شريك له.
الحلف بغير الله يكون من الشرك، كما في الحديث: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، فقوله: «كفرَ أو أشركَ» شكٌّ من الراوي، هل قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كفر»، أو قال: «أشرك»، وكلاهما محظورٌ عظيمٌ، الكفر والشرك، مما يدل على تعظيم الحلف بغير الله -عزَّ وجلَّ-، وأنه شركٌ أو كفرٌ.
وأما الحلف بالله إن كان صادقًا، فيمينه بارةٌّ، وإن كان كاذبًا فيمينه آثمةٌ؛ لأنه مستهينٌ بعظمة الله -سبحانه وتعالى-، فعلى المسلم أن لا يُكثر من الحلف بالله، إلا إذا كان لذلك موجِبٌ وسببٌ، وأما التساهل بالحلف، وكثرة الحلف، الله -جلَّ وعلَا- يقول: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: 10، 11].
ومِنَ الذين لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: رجلٌ جعل اللهَ بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه.
ومن الثلاثة الذين جاء الوعيد في حقهم: رجلٌ جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه.
فالحلف بالله يجب أن تُعظَّم، ويجب أن تُصان، وألا يُكثر الإنسان منها، وأما ما يجري على اللسان، من غير قصدٍ، كقوله: "لا والله"، و"بلى والله"، وهو لا يقصد عقد اليمين، فهذا من لغو اليمين ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة: 225]، هذا لغو اليمين، لا يؤاخذ الله به، إنما يؤاخذ الله باليمين المنعقدة، التي قصد عقدها على أمرٍ مستقبلٍ ممكنٍ، هذه هي اليمين الغموس، التي تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار، إذا كذب فيها.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التَّوحيد: أن تعظيم الحلف بالله من كمال التَّوحيد، والاستهانة بالحلف بالله من نقص التَّوحيد.
{قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89]}.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ قيل معناه: لا تحلفوا إلا إذا اقتضى الأمر ذلك، وقيل معناه: لا تُكثروا من الحلف بالله -عزَّ وجلَّ-، بل احفظوها، إلا عند الحاجة، وأن تكونوا بارِّين لا كاذبين.
{عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الحلف مُنَفِّقَةٌ للسلعة»}.
يعني مروِّجةٌ للسلعة، الناس يصدقونه، وهو في نفس الأمر كاذب، فهذا يأثم.
{وعن سلمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاثةٌ لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: أُشيمطٌ زانٍ، وعائلٌ مستكبرٌ، ورجلٌ جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه» رواه الطبراني بإسنادٍ صحيحٍ}.
نعم، وهذا حديثٌ يؤكد تعظيم الحلف بالله -عزَّ وجلَّ-، وعدم الاستهانة بها، «ثلاثةٌ لا يكلمهم الله»، تكليم رضا «ولا يزكيهم» لا يطهرهم، «ولهم عذابٌ أليمٌ» عذابٌ مؤلمٌ شديدٌ، هذه ثلاثة أنواعٍ من الوعيد، على من استهان بالحلف بالله.
«أُشيمطٌ زانٍ»، والأُشيمط هو الذي بدأ فيه الشيب، شمطه الشيب، مع كونه بهذه الحالة يزني؛ لأن الغالب على الزاني أن يكون في ريعان الشباب والقوة، وأما الأُشيمط، فهذا ليس فيه داعٍ للشهوة، شهوته ضعيفةٌ، فإذا زنا، فإنه يحب الزنا، وليس ذلك عن غلبة شهوةٍ، وإنما هو محبةٌ للزنا، مما يدل على جرأته على الحرام.
«أُشيمطٌ زانٍ، وعائلٌ مستكبرٌ»، العائل: هو الفقير، من العيْلة وهي الفقر، والغالب على العائل الفقير أنه يتواضع، فإذا كان يستكبر مع حالته التي لا تستدعي الاستكبار، هذا دليلٌ على أنه يحب الكبر؛ لأنه ليس فيه داعٍ للكبر؛ لكونه فقيرًا.
والثالث، وهو محل الشاهد: «ورجلٌ جعل الله بضاعته»، رجلٌ متاجرٌ، يبيع ويشتري، ويحلف على بيعه، وعلى شرائه؛ ليغُرَّ الناس بذلك، فيصدقوه على أنه اشترى السلعة بكذا، أو أنها سِيمت منه بكذا، وهو كاذبٌ، لأجل أن يروجها على الناس «لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه»، وهذا محل الشاهد من الحديث للباب، أن تعظيم الحلف أنه من كمال التَّوحيد، والاستهانة بالحلف من نقص التَّوحيد.
{عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، قال عمران: فلا أدري أذكر مرتين أو ثلاثًا، «ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمن»}.
نعم، في هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خير أمتي قرني»، القرن الذي بُعث فيهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والقرن إذا أُطلق فهو الجيل من الناس، والقرن من الزمان مائة سنةٍ، أو قريبًا من ذلك، فخير هذه الأمة القرن الذين بُعث فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم الصحابة، «ثم الذين يلونهم»، وهم التابعون، القرن الثاني بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال الراوي: لا أدري ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة قرونٍ، الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، وهذه تسمى بالقرون المفضلة.
ثم يأتي بعد هذه القرون المفضلة من تظهر عليهم أو تحصل منهم الجرائم والاستهانة بأمور الدين، لضعف إيمانهم، وقلة توحيدهم.
{«ثم إنَّ بعدكم قومًا يشهدون ولا يُستشهدون»}.
«يشهدون ولا يُستشهدون» لا تُطلب منهم الشهادة، فهذا دليلٌ على استهانتهم بها، الذي عنده شهادةٌ لا يؤديها حتى تُطلب منه، إلا إذا خاف أن يضيع الحق، ولم تُطلب منه الشهادة، فإنه يتقدم ويشهد؛ حفاظًا على الحق أن يضيع.
«ويخونون ولا يؤتمنون» يخونون الناس في بيعهم وشرائهم، وفي كلامهم، وإذا ائتمنوا على شيءٍ لم يحفظوه، يخونون في أماناتهم، ويخونون ولا يؤتمنون، لا يأتمنهم الناس، هؤلاء من شر القرون، ومن علامتهم أنهم يظهر فيه السِّمن؛ لأنهم يُكرمون أنفسهم بالأكل والشرب والطعام، ولا يخافون من المستقبل، ولا يخافون من الموت وما بعده، كأنهم آمنون في هذه الدنيا ومطمئنون فيها.
{شكر الله لكم يا شيخ صالح، سوف نستكمل -إن شاء الله- ما تبقى من هذه الأحاديث في هذا الباب في الدرس القادم -بإذن الله- حتى لكم الحين.
نستودعكم الله أيها الإخوة والأخوات، وتقبلوا تحيات فريق العمل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك