{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ
المحجَّلين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات، في درسٍ من دروس التوحيد، للإمام المجدد محمد بن
عبد الوهاب -رحمه الله-.
ضيف هذا اللقاء هو فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو
اللجنة الدائمة للإفتاء.
أهلًا ومرحبًا بالشيخ صالح في هذا الدرس}.
حياكم الله وبارك فيكم.
{شيخ صالح، كنا نقرأ في باب ما جاء في مُنكري القَدر، ووقف بنا الحديث عند المسند
والسنن عن ابن الديلمي، قال: أتيت أُبيَّ بن كعبٍ، فقلتُ في نفسي شيءٌ من القدر،
فحدثني بشيءٍ لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: لو أنفقتَ مثل أُحدٍ ذهبًا ما قَبِله
الله منك حتى تُؤمن بالقدر، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن
ليُصيبك، ولو متَّ على غير هذا لكنتَ من أهل النار}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله
وأصحابه ومن والاه.
هذا الحديث كالذي قبله، فيه إثبات القضاء والقدر، وأنَّ الله قدَّر وقضى كل شيءٍ
يَحدث في هذا الكون مِن خيرٍ أو شرٍّ، وأنَّ الإنسان إذا آمَنَ بالقضاء والقدر،
وعَلِمَ أنَّ كل شيءٍ قد قضاه الله وقَدَّره، فإنه يزول عنه القلق والهموم
والأحزان، ويمضي في دنياه بما ينفعه مِن الأعمال الدينية والدنيوية، ولا يكون عنده
خوفٌ من الحوادث، وخوفٌ من الأعداء؛ لأنه لابد أن يجري عليه القضاء والقدر، ولو كان
حذرًا، وكان مختفيًا في بيته، فالله -جلَّ وعلَا- يقول: ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ [آل عمران: 154]، هذا
القضاء والقدر ﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ [آل عمران: 154].
وقال سبحانه: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي
بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: 78]، فالقضاء والقدر لا ينجي منه شيءٌ، فهذا مما
يكسب المؤمن المضيَّ والعزم في أمور مصالحه الدينية والدنيوية، ويتوكل على الله
-سبحانه وتعالى-، ويعلم أنه لا يجري عليه إلا ما قدره الله، وما قدره الله فلا نجاة
منه، لابد أن يأتيه نصيبه منه، مهما عمل ومهما احتاط، المؤمن يؤمن بالقضاء والقدر،
ويمضي في طلب مصالحه الدينية والدنيوية، ويتوكل على الله -سبحانه وتعالى-، فمن
اعتقد هذا الاعتقاد زالت عنه إشكالاتٌ كثيرةٌ، وأوهامٌ كثيرةٌ، وزاد قوةً في
إيمانه، وصلابةً في دينه واعتمادًا على الله -سبحانه وتعالى-.
{قال: فأتيتُ عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابتٍ، فكلهم حدثني
بمثل ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، حديثٌ صحيحٌ، رواه الحاكم في صحيحه}.
نعم، ابن الديلمي هذا مِن أهل اليمن، وهو من السابقين إلى الإسلام رضي الله عنه،
سأل الصحابة، مِنَ أكابر الصحابة ومن سماهم في هذا الحديث، عَن الإيمان بالقضاء
والقدر.
وكلهم اتفق جوابهم على شيءٍ واحدٍ، وهو أنه لابد من الإيمان بالقضاء والقدر، وليس
معنى ذلك أنك تعتمد على القضاء والقدر وتترك فعل الأسباب، بل تعمل ما فيه صلاح دينك
ودنياك، ومعاشك، ومعادك، وتعتمد على الله، وتعلم أنَّ الحذر لن يُنجيك مِن القدر،
وأنَّ ما كتبه الله لك أو عليك سيجري بأمر الله -سبحانه وتعالى-، ومادام الأمر
كذلك، فإنك تمضي في طلب مصالحك الدينية والدنيوية، فالإيمان بالقضاء والقدر مما
يزيد العبد مضيًّا في السعي في مصالحه، وأيضًا لا يعتقد أنه لو بقي في بيته، أو أنه
اتخذ الحصون والدروع والجنود سينجو من قضاء الله وقدره، مادام الأمر كذلك، فإنه
يُقْدم على العمل فيما يصلح دينه ودنياه.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب مسائل عديدةٌ: الأولى: بيان فرض
الإيمان بالقدر}.
فرض الإيمان، يعني: جاء بالإيمان، أي: أنَّ الإيمان واجبٌ وفرضٌ على المسلم، وهو
ركنٌ من أركان الإيمان، لا يصح الإيمان إلا به، فلابد من الإيمان بالقضاء والقدر.
{الثانية من المسائل: بيان كيفية الإيمان به}.
هذه الكيفية .. أنَّ تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك،
فإذا اعتقدت هذا الاعتقاد، استرحتَ مِنَ الهموم والوساوس والأحزان، فتمضي في مصالح
دينك ودنياك، وتعتمد على الله -سبحانه وتعالى-، وأن تعلم أن الحذر لا ينجي من
القدر.
{المسألة الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به}.
أنَّ من لم يؤمن به، أحرقه الله بالنار، كما في الحديث، أنَّ من لم يؤمن به لن يجد
طعم الإيمان.
{المسألة الرابعة: أنَّ أحدًا لن يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به}.
نعم، الإخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، أنه لن يجد طعم
الإيمان من لم يؤمن بالقضاء والقدر.
{الخامس من المسائل: ذكر أول ما خلق الله}.
أول ما خلق الله القلم، كما في هذا الحديث، فهو أول المخلوقات.
{المسألة السادسة: أنه جرى في المقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة}.
أنَّ هذا القلم لما خلقه الله، أمره بالكتابة، وقال: يا رب، وما أكتب؟ قال: اكتب ما
هو كائنٌ إلى يوم القيامة، فما يجري في هذا الكون من خيرٍ أو شرٍّ، من إيمانٍ
وكفرٍ، من طاعةٍ ومعصيةٍ، من رخاءٍ وشدةٍ، كله بقضاء الله وقدره، فهذا يُكسب
الإيمان قوةً في دنياه، وفي دينه، إذا اعتقد هذا الاعتقاد، ويدفع عنه الشكوك
والأوهام، ويدفع عنه الوساوس والأحزان، وينطلق في مصالحه الدينية والدنيوية.
{المسألة السابعة: براءته -صلى الله عليه وسلم- ممن لم يؤمن به}.
براءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ممن لم يؤمن بالقضاء والقدر، وبراءته -صلى الله
عليه وسلم- تدل على أن هذا الأمر خطيرٌ جدًّا، الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا
يتبرأ إلا ممن ليس على سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهي الإيمان بالقضاء
والقدر، يعني: من سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بالقضاء والقدر، ومن لم
يتمسك بسنته، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- بريءٌ منه.
{المسألة الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة، وذلك بسؤال العلماء}.
هذا أمرٌ مهمٌّ، عادة السلف -رحمهم الله-، والسلف، يُقصد بهم الصحابة والتابعون،
ومن جاء بعدهم، أنهم إذا أشكل عليهم شيءٌ لا يتخرصون، ولا يقولون بغير علمٍ، يسألون
أهل العلم والبصيرة، كما أمر الله -جلَّ وعلَا- في قوله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والرسول -صلى الله عليه وسلم-
قال: «ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال»، فلابد من سؤال العلماء،
ونقول: العلماء وليس المتعالمين، والمدعين للعلم، أو علماء الضلال، إنما المراد
بالعلماء، المتمسكون بالكتاب والسنة، العلماء الذين عقيدتهم سليمةٌ، ومنهجهم قويمٌ،
هم الذين يُسألون، الراسخون في العلم، يعني الثابتون في العلم، ليس المتزعزعين، أو
المتشككين، وإن كانوا يدعون العلم.
{المسألة التاسعة والأخيرة في هذا الباب: أنَّ العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك
أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقط}.
أجابوه بما يزيل شبهته، أنه لابد من الإيمان بالقضاء والقدر، وأن ذلك يحقق الإيمان،
وأن من لم يسأل أهل العلم فإنه يضل، فهذا فيه دليلٌ على أنه يجب الرجوع إلى العلماء
في المشكلات والمعضلات، قال الله -جلَّ وعلَا-: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن
كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، الإنسان لا يأخذ بتخرصه ورأيه، ولا يأخذ
بأقوال المتعالمين والجهال، أو العلماء الضلال، وإنما يأخذ عن العلماء الراسخين في
العلم، الذين سلمت عقيدتهم، وسلم منهجهم في هذا الدين، وسلمت عقيدتهم، فهم الذين
يسألون، ويُرجع إليهم في المشكلات والمعضلات.
{شيخ صالح، فرق القدرية والجبرية، هذه الطوائف، هل لها وجود الآن؟}.
نعم، لها وجودٌ، الجبرية لهم وجودٌ، وكذلك القدرية المعتزلة وأتباعهم وعلماء الكلام
لهم وجودٌ كثيرٌ أيضًا الآن، ولن يسلم إلا من التزم بمنهج السلف الصالح، وتمسك
بالأدلة من الكتاب والسنة، وترك تخرصات المتكلمين، والفلاسفة، وغير ذلك.
{الإيمان بالقدر لاشك أن له فوائد، ما أبرز فوائد الإيمان بالقدر؟}.
الطمأنينة في القلب، وثبات الإيمان، وعند المصائب، والنوازل يكون المسلم ثابت
الإيمان، لا يتزعزع، ولا يتشكك، ولا يجزع أيضًا، ما يجزع إذا أصابه شيءٌ، وإنما
يعلم أن هذا بقضاء الله وقدره، فيرضى بذلك ولا يجزع، فهذا يُكسبه قوةً في عمله
وعلمه، وفي تصرفاته.
{شيخ صالح، نختم هذا اللقاء بسؤالٍ، دائمًا نردده: المسلم كيف نربي الأولاد تربيةً
عقديةً صحيحةً؟}.
المسلم يربي الأولاد مِن صغرهم، مِن سن التمييز، مِن بلوغ السابعة، قال -صلى الله
عليه وسلم-: «مُروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ»، أو: «وهم أبناء سبع سنين»، «مُروا
أولادكم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع»، فهذا
فيه دليلٌ على أنَّ الوالد مكلَّفٌ بتربية أولاده على طاعة الله -سبحانه وتعالى-،
فإذا نُشِّأَ على ذلك، فإنه ينشأ ويكبر على هذه العقيدة الصحيحة، المؤسسة على
اليقين، والاعتقاد الصحيح، وتكون فطرته سليمةً، كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه
يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، فالوالدان إما أن يحافظوا على فطرة الولد،
ويأمروه بالصلاة لسبعٍ، ويضربوه عليها لعشرٍ، ويفرِّقوا بين الأولاد في المضاجع؛
خشية ما لا يجوز من التصرفات، أو الشهوات، فالوالد يراقب أولاده، يحافظ على فطرتهم،
كل مولودٍ يولد على الفطرة، فإذا حوفظ على هذه الفطرة نمت، وثبتت، ونشأ الطفل
عليها، وإذا غُيِّرت هذه الفطرة إلى ملةٍ غير الإسلام، الإسلام دين الفطرة، هو الذي
يوافق الفطرة، وأما غيره من الأديان فهو مخالفٌ للفطرة، فأبواه يهودانه، يجعلانه
يهوديًّا، أو ينصرانه، يجعله نصرانيًّا، أو يمجسانه، يجعلانه مجوسيًّا منحرفًا عن
دين الله -عزَّ وجلَّ-، كل هذه الأديان منحرفةٌ عن دين الله، والإسلام هو دين
الفطرة، لم يقل يسلمانه؛ لأنه على الإسلام، وعلى الفطرة، لكن يحتاج إلى من يحافظ
على فطرته، وينميها فيه، ويزكيها، فهذا هو المطلوب من الوالدين.
{جزاكم الله عنا، وعن أمة الإسلام خير الجزاء، على ما شرحتم، وأفضتم، وبيَّنتم في
هذه الدروس المفيدة، من دروس التوحيد، للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه
الله-، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.