الدرس الثاني

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

34042 6
الدرس الثاني

كتاب التوحيد

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. مرحبا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذا الدرس -الدرس الثاني- من شرح كتاب التوحيد، لفضيلة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، من برنامجكم العلمي (جادة المتعلم) التي تقدمه لكم جمعية هداة.
أسأل الله عز وجل أن يجعل هذا المجلس خالصًا لوجهه الكريم، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، نرحب بضيف هذه الحلقة في هذا الشرح فضيلة الشيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. فحياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا بكم وبالإخوة والأخوات.
{جزاكم الله كل خير، نستأذنكم فضيلة الشيخ وعلى بركة الله نبدأ}.
تفضل يا شيخ.
{بسم الله، وصلى الله وسلم على رسول الله، يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: (بَابُ مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ دَخَل الْجَنَّة بِغَيْر حِسَابٍ، وَقَوْلُ اللَّه تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيَمَ كَانَ أُمَّةً قَاَنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ . وقال: ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهُم لَا يُشْرِكونَ﴾)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد؛
فحياكم الله أيُّها الإخوة الكرام، ونستكمل القراءة في هذا الكتاب المبارك (كتاب التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد) للشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
يقول رحمه الله: (بَابُ مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ دَخَل الْجَنَّة بِغَيْر حِسَابٍ) وذكر في هذا الباب عدة آياتٍ وحديثًا، وقبل البدء بالتعليق نُذَكِّرَ أنَّ الباب الأول حرص الشيخ -رحمه الله- فيه على إيراد آيات تُبين معنى التوحيد، وكذلك أثرًا وحديثًا، أمَّا الباب الثاني فبين فضل التوحيد وثوابه العظيم، وأمَّا هذا الباب الثالث فيبين فضل تحقيق التوحيد، وعظم الجزاء المترتب عليه، وهذا لمن كَمَّلَه وقام به حق القيام، فهذا الأمر وضحته النُّصوص الشرعية كما سيأتي.
فما معنى تحقيق التوحيد؟
قال العلماء: تحقيق التوحيد هو تخليصه وتصفيته وتنقيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فهذه الشوائب بعضها يُذهب التوحيد بالكلية، مثل: الشرك الأكبر، والبدع المكفرة، والذنوب المخرجة من الملة، كالاستهزاء بالدين، وترك الصَّلاة على القول الراجح من قولي أهل العلم، ونحو ذلك، هذه تُفسد الدين كله، والشرك الأكبر -صرف العبادة لغير الله- يُفسد الدين كله.
وهناك أيضًا شوائب لهذه الأمور الثلاثة لا تُذهب الدين كله، وإنما تذهب الواجب منه، ما نقول الكمال؛ لأنَّ الكمال مستحب فعله، وتركه ترك للمستحب، لكن نعبر ونقول: ترك الواجب؛ لأنَّ مَن ترك واجبًا من الواجبات الشرعية أو ارتكب محرمًا لا يبلغ به الكفر؛ فإنه لم يحقق التوحيد، ولم يقم بما أوجب الله عز وجل عليه، بل قَصَّرَ، فاذا كان الأمر هكذا، فتحقيق التوحيد أن يتخلص من هذه الأمور التي هي تقصير في الدين.
إذًا، تخليص وتنقية وتصفية من ماذا؟ من أمور الشرك التي نسميها شوائب؛ لأنها مكروهة، شوائب الشرك والبدع والمعاصي بجميع أنواعها، فإذا سَلِمَ العبد من ذلك فهذا معناه أنه حقق التوحيد لله رب العالمين، وقام بعبادة الله وحده لا شريك له، وبهذا يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.
نأخذ الآيات التي أوردها الشيخ، قال: (وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: 120-121]). ما وجه الشاهد أنَّ هذا تحقيق للتوحيد؟
الجواب: أنَّ هذه الأوصاف التي وُصف بها إمام الحنفاء وأبو الأنبياء وخليل الله إبراهيم، هذه الأوصاف التي وصف بها كلها مُتعلقة بتحقيق التوحيد، كيف؟
الوصف الأول: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيَمَ كَانَ أُمَّةً﴾ . من تفسير أهل العلم لكلمة الأمة، أي: جامع لخصال الخير، وهي خصال العبادة.
الوصف الثاني: ﴿قَاَنِتًا لِلَّهِ﴾ هنا تحقيق توحيد لله عز وجل؛ لأن المراد بالقنوت الاستمرار على الطاعة، في أناس يطيعون الله في هذا اليوم، ويعصون الله في يوم ثان، ثم يطيعون ثم يعصون، هؤلاء لم يحققوا القنوت لله عز وجل، أي: دوام الطاعة، فالقانت أي: الذي هو مستمر على الطاعة وثابت عليها.
الوصف الثالث: ﴿حَنِيفً﴾ أصل كلمة حنيف من الفعل (حَنَفْ)، والحنف هو الميل، ما معنى الحنيف؟ أي: المائل عن الشرك، المعرض عنه، المتبرئ منه، المقبل على التوحيد، المتمسك به؛ ولهذا قالوا في معنى الحنيف: هو المقبل على الله المعرض عمَّا سواه.
هل هذا الوصف خاص بإبراهيم لأجل أن يكون هو الحنيف فقط أو جميع المسلمين والمسلمات مأمورون بأن يكونوا حنفاء؟
الجواب، الجميع مأمورون أن يكونوا حنفاء، والدليل على هذا في سورة البينة، قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ .
إذًا الحنيف من المسلمين هو الذي يتمسك بدين الإسلام ويعرض عن بقية الأديان الباطلة، ويتمسك بتحقيق العبادة لله عز وجل، ويعرض عن عبادة ما سواه ويتبرأ منها. هذا معنى الحنيف.
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام مدحه الله بهذا، وهذا يدعونا للتفكر قليلا، إذا كان إبراهيم من أولي العزم من الرسل، ومن أفاضل خلق الله عز وجل، يعني لا يفوقه في المقام إلَّا نبينا محمد ﷺ، فهو سيد ولد آدم ﷺ، ويليه في الرتبة إبراهيم الخليل، عليه صلوات الله وسلامه، فهو له الثناء العطر والثناء العظيم، وله المقام المعروف، ومع ذلك وُصف بهذه الأوصاف. ما هي الأوصاف؟
كلها في تحقيق في تحقيق التوحيد.
الوصف الرابع: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وهذا فيه تحقيق للتوحيد أيضًا، أنه لم يخالط الشرك، بل هاجر وصبر على الدين، وأعرض عن عبادتهم وتبرأ منهم، وقال في أصنامهم القول المعروف، وبَيَّنَ بُطلان عبادتهم، فكل هذا براءة من قومه المشركين وهذا فيه أسوة لكل مؤمن ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ نعم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾ ، ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ .
إذًا، تحقيق التوحيد يكون بالبراءة من المشركين، ومن أفعالهم وشركياتهم، هو ملة أبينا إبراهيم، فالبراءة من الشرك وأهله هي من تحقيق التوحيد.
لكن ما عكس ذلك؟ البقاء مع المشركين، الرضا بأفعال المشركين، على دينهم وتكثير سوادهم، وموافقتهم على هذا الشرك، هذا ليس من دين الأنبياء، ليس من دين إبراهيم، وليس من دين محمد ﷺ، بل من دينهم البراءة من الشرك وأهله ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ هذه براءة مثل ما في سورة يونس ﴿أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ، وهنا قال: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وفي سورة يوسف ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فكل هذا براءة من الشرك وأهله، ولهذا يعني يعتبر مما يجب على أهل التوحيد أن يبرأوا إلى الله عز وجل من كل شرك، ومن كل عبادة وثنية، فالذين يعبدون الأصنام والأحجار، ويعبدون غير الله عز وجل، نبرأ إلى الله منهم ومن عباداتهم. هذا من تحقيق التوحيد.
قال: (وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهُم لَا يُشْرِكونَ﴾) هذا وصف المؤمنين الذين رضي الله عنهم وأثنى عليهم في (سورة المؤمنون)، ووصف الله أهل الإيمان في هذه السورة في ثلاثة مواضع، في أولها، وفي وسطها وفي هذا الموضع، وفي آخرها لَمَّا أخبر عنهم في مآلهم في الجنة، فلمَّا ذكر وصفهم في وسط السورة قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ هذه صفات أهل التوحيد والإيمان، أنهم يخافون من الله عز وجل ويخشونه، ومن خشيتهم لله عز وجل أنهم مشفقون، وهم مع ذلك يُؤمنون بكل ما قاله الله عز وجل وقاله رسوله، ويؤمنون بآيات الله عز وجل، وأعمالهم على التوحيد.
﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ أي: لا يشركون في القلب، ولا في اللسان، ولا في الجوارح.
أنا أضرب مثلا الآن، رجلٌ يصلي ويسجد لله عز وجل ويسجد لغيره، والثاني يسجد لله ولا يسجد لغيره، من الذي أتى بالشرك، ومن الذي أتى بالتوحيد؟
واضح لكل من يسمع هذا الكلام، فالأول سجد لغير الله وصرف شيئا من عبادته لغير لله، سجوده لله وصرف من العبادة شيئا لغير الله هذا واضح، وأغلب الذين ينازعون في التوحيد في هذا الزمان لا ينازعونك في مسألة السجود، يعني: يسكت ويستحي عن المجاهرة بتسويغ السجود لغير الله، ويعترف أنَّ هذا شرك.
طيب نقول: ما دمت قد اعترفت بهذا؛ ننتقل معك إلى الدعاء الذي أمرنا الله عز وجل به، واحد يدعو الله عز وجل ليل نهار ولا يدعو غير الله، سواء في حال المرض أو في حال الرخاء أو في حال الشدة، لا يلجأ إلَّا إلى الله، ولا يدعو إلَّا الله، مطبقًا لأوامر الله ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف:55]، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60]، ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾ [الجن: 18] استجاب لله، واستجاب لأمر رسوله أيضًا، «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّه» هذا رقم واحد.
الثاني: يدعو الله عز وجل، يا رب، يا رب، في طواف، في السجود، في كذا، ثم إذا جاء المرض أو جاء واحد وقال: هذا القبر يقبل الدعاء تجده يأتي عند القبر ويقول: يا سيدي فلان أغثني، يا كذا يا كذا اشف مريضي، رد غائبي، هذا مشرك ولا موحد؟ كل من يعرف وينظر يعرف أنَّ هذا مشرك؛ لأنه لم يخلص عبادة الدعاء لله عز وجل.
ومثال ثان: وهو قول الله عز وجل: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر:2] هم لا ينازعونك في الصلاة، أي: دعاة الشرك الآن، لو قلت: فلان يُصلي لغير الله، ما حكمه؟ يقول هذا ما يجوز، هذا شرك، جميل، يعني: أنت تأبى أن يصلي لغير الله؟ قال: نعم؛ لأنَّ الصلاة لا تكون إلا لله، طيب هذا ينحر لغير الله! ينحر للقبر! يقول: لا، هذا النحر للولي كذا وكذا، يبدأ الشيطان يتلاعب بهم ويتلاعب بأوليائهم، كما أنَّ الصلاة لا تكون إلَّا لله، فكذلك النحر لا يكون إلَّا لله عز وجل، وهذا هو تحقيق التوحيد.
ثم قال الله عز وجل في وصف هؤلاء: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 60-61] فهذه صفة أهل الإيمان، أهل التوحيد، إذًا ما الشاهد منها؟ إبراهيم إمام الحنفاء، عرفنا أنه من صفاته تحقيق التوحيد، وذِكْرُ هذه الصفات في الثناء على العظيم يدل على أنها صفات عظيمة، وأنَّ تحقيقها صعب المنال، وليس كل أحد يدعيها بسهولة، ويقول: أنا كذا وكذا، ومعنى أنَّ الله عز وجل وصف إبراهيم بأنه لم يكن من المشركين، معنى عظيم جدًا، وهو يُبين أنَّ هذا وصف كامل وكبير جدًا، وصف به أشرف خلق الله من الأنبياء.
إذًا، أهل الإسلام وأهل التوحيد من يعرفون عظم تحقيق التوحيد بالسلامة من الشرك، وتخليص أنفسهم من الشرك، كذلك هؤلاء الأولياء المذكورون في (سورة المؤمنون) هؤلاء هم سادة الأولياء، هم أحباب الله، هم محل ثناء الله عز وجل، الله عز وجل وصفهم وقال: ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ فكثير من دعاة الشرك اليوم يعتقد أنَّ الشرك هو مجرد أن تعتقد أنَّ هذا يخلق ويرزق مع الله، وينفع ويضر مع الله، وإذا لم تعتقد أنه يخلق ويرزق وينفع ويضر في زعم هذا الزعم أنه مهما فعلت أيها الإنسان من دعاء أو سجود أو ذبح أو نذر أو استغاثة به أن هذا لا يضر توحيدك! لا، هذا يضر التوحيد، وهذا ينقض التوحيد، هذا الذي جاء الشرع بإبطاله، أمَّا أن يعتقد أنه خالق ورازق، فهذا نادر. لا يوجد أحد أصلا يعتقد هذا الاعتقاد في أحد من البشر إلَّا مكابرة فقط.
{نعم. أحسن الله إليكم.
قال المؤلف رحمه الله: (عَنْ حُصَيْنِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قال: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بِنِ جُبَيْرٍ، فَقال: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذي انْقَضَّ الْبارِحَةَ؟ قلت: أَنا. ثُمَّ قلت: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ، قال: فَمَا صَنَعْتَ؟ قلت: ارْتَقَيْتُ، قال: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قلت: حَديثٌ حَدَّثَناهُ الشَّعْبِيُّ، قال: وَمَا حَدَّثَكُمْ؟ قلت: حَدَّثَنا عَنْ بُرَيْدَةَ بنِ الْحَصيبٍ أَنَّهُ قال: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ، فقال: قَدْ أَحْسَنَ مَنْ اَنْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ.
إِذْ رُفِعَ لِيَ سَوادٌ عَظيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُم أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ. فَنَظَرْتُ فَإِذا سَوادٌ عَظيمٌ، فَقِيلَ لِيَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُم سَبْعونَ ألفًا يَدْخُلونَ الْجَنَّةَ بِغَيْر حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ»
.
ثُمَّ نَهَضَ، فَدَخَل مَنَزِلَهُ، فَخاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ، فَقال بَعْضُهُم: فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ.
وقال بَعْضُهُم: فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا باللَّهِ شَيْئًا -وَذَكَرُوا أَشْياءَ-.
فَخَرَجَ عَلَيْهِم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرُوهُ، فقال: «هُم الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقونَ، وَلَا يَكْتَوونَ، وَلَا يَتَطَيَّرونَ، وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكّلُونَ».
فَقَامَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ، فَقال: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُم، فقال: «أَنْتَ مِنْهُم». ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقال: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُم، فَقال: «سَبَقَكَ بِها عُكَّاشَةُ»)
}.
هذا حديث حصين بن عبد الرحمن أحد التابعين، حديث عظيم اشتمل على فوائد كثيرة، والشيخ ساقه لأجل بيان تحقيق التوحيد، وأنَّ أهله يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذا صريح في آخر الحديث عن النبي ﷺ، وشرح هذا الحديث يقول: (عَنْ حُصَيْنِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قال: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بِنِ جُبَيْرٍ، فَقال: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذي انْقَضَّ الْبارِحَةَ؟ قلت: أَنا. ثُمَّ قلت: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ) هذا الكلام الذي جرى مفيد في الحقيقة، لأنَّ مجالسة العلماء كلها خير وبركة، فالإنسان إذا جالس أهل العلم وحضر الدروس نتج عن هذا خير للسامع وللمستمع الحاضر ولو قليلا، والآن نحن في القرن الخامس عشر، وننتفع من هذا الاجتماع الذي حدث بين حصين وبين سعيد بن جبير، فرجل من التابعين جلس عند رجل آخر من التابعين، ولكن هذا مجلس مبارك صار فيه هذا الحديث العظيم الذي يحفظه الناس ويستفيدون من فوائده، يظهر أنَّ اجتماعهم كان في الفجر أو ضحى أو بعد ذلك، فيتحدث الناس أنه جاء كوكب، يعني: شيء في الليل غريب جدًا دعا الناس إلى الحديث عنه في الصباح، فقال سعيد يسأل الناس، وهذا يتأسى فيه بالنبي ﷺ؛ لأنَّ سعيد بن جبير من أهل العلم، من طلاب ابن عباس، فالنبي ﷺ كان يسأل لأجل أن يُعَلِّم، فربما أراد سعيد أن يتكلم عن موضوع الكواكب، وعدم التعلق بها، وعدم الاعتقاد فيها لوجود اعتقادات فاسدة، فلعله أراد أن يعلم الناس شيئا من سنة النبي ﷺ في هذا، لكن سبحان الله صار الحديث إلى سياق آخر، وكما يقال في المثل: "حديث ذو شجون" فالحصين وهو من الصالحين -من علماء الحديث- قال: أنا رأيته. خشي أن يظن أنه يصلي طوال الليل، فأراد أن يبعد عن نفسه هذا المعنى، فقال: (أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ) يعني: كنت مصابًا ومستلقي على الفراش من شدة الألم، فبهذا السبب ربما كان في سطح البيت أو في فناء المنزل، فرأى الكوكب الذي انقض.
قوله: (لَمْ أَكُنْ فِي صَلاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ) يعني: بسبب اللدغة ما نمت طوال الليل، فانتقل الحديث إلى ما هو أهم، يعني: رأى سعيد بن جبير أن يُبين حكم التداوي؛ لأنَّ الناس يخطؤون في هذا الأمر، ولذا قال: (ما صنعت؟) أي: لَمَّا لُدغت، قال: (ارْتَقَيْتُ) يعني: طلبت الرقية. ولَمَّا طلب الرقية أراد سعيد أن يُبين له سعيد أمرًا أعلى، لكن قبل أن يُبين له الأمر الأعلى سأله سعيد، قال: (فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟) هذا يبين أنَّ السَّلف الصالح من التابعين تعلموا من الصحابة أنَّ العبادات لابد لها من دليل، وأننا لا نتعبد إلَّا بسنة ثابتة وماضية عن النبي ﷺ.
قال: (حَديثٌ) يعني: عملت بهذا الأمر وطلبت الرقية بناء على حديث، ما هو الحديث؟ قال: (حَديثٌ حَدَّثَناهُ الشَّعْبِيُّ، قال: وَمَا حَدَّثَكُمْ؟ قلت: حَدَّثَنا عَنْ بُرَيْدَةَ بنِ الْحَصيبٍ س أَنَّهُ قال: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ) هذا مرفوع إلى النبي ﷺ، ومعنى الحديث: أنَّ أَمثَلَ ما يكون من انتفاع الإنسان بالرقية هو من عين، النظرة، الحسد، و (الحُمَةٍ) هي لدغة ذوات السموم، تسمى (حالُمَةٍ) قرصة النملة أو النحلة أو ذوات السموم أحيانا تقرص وتسبب أَلَمًا أو ضررًا شديدًا بالإنسان، فالرقية من أنفع ما يكون منها، وليس معنى هذا الحديث أنه لا يُرقي من وجع الرأس مثلا أو وجع البطن أو وجع الظهر! لا، الرقية لكل داء، لكن أنفع ما يكون هو (مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ).
فماذا قال سعيد بن جبير لَمَّا بين الحصين دليله؟
قال: (قَدْ أَحْسَنَ مَنْ اَنْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ) هذا الأدب في مآخذ أهل العلم، عندما يختلف رأيهم فيما بينهم، هذا سعيد يرى أنَّ الأفضل لا تطلب الرقية، لكن ما دمت أنك استندت إلى حديث فأنت محسن؛ لأنك استندت على حُجة صحيحة ثابتة.
(قَدْ أَحْسَنَ مَنْ اَنْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ) إذًا هنا عندي علم أكثر وأوسع وأشمل، يدلك على هذا المعنى الذي قلته، ولكن بطريقة أخرى، ما هو؟ أنَّ الرقية تنفع لكن لا تطلبها، وهذا الاكمل، ثم ساق الحديث عن (ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ»)، والصحيح أنَّ ذلك كان في ليلة الإسراء والمعراج، عرضت على النبي ﷺ الأمم. قال: «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ» وفي رواية: «الرهيط»، قال: «وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ» وهذا حجة كل داعٍ إلى الله عز وجل ممن استقام في دعوته على الصراط المستقيم، ثم جوبه وقوبل بالإعراض أو بالصدِّ أو بالأذى، أنَّ له أُسوة -أنبياء- لم يستجب لهم أحد أو استجاب لهم رجل أو رجلان أو رهط، يعني: دون التسعة، يُبين قلة من استجاب للأنبياء.
قال: «إِذْ رُفِعَ لِيَ سَوادٌ عَظيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُم أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ» وهذا يُبين فضيلة موسى عليه الصلاة والسلام، وفضل من استجاب له من أمته، يعني: ممن دخل في دين الحق؛ واتبع موسى على الحق والهدى وهم كثيرون.
«فَنَظَرْتُ فَإِذا سَوادٌ عَظيمٌ» سدَّ الأفق، يعني: أعظم من ذلك. فقيل: «هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُم سَبْعونَ ألفًا يَدْخُلونَ الْجَنَّةَ بِغَيْر حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ» إذًا أمة النبي ﷺ أمة مرحومة، لكن طائفة منها أكمل وأعلى درجة، ومن كمالها وفضلها وثوابها أنها تدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.
ثم دخل النبي ﷺ منزله، وهنا تباحث الصحابة في العلم، فأخذوا يخوضون فيمن هم السبعون ألف؟ انتبه فهذا مجلس واحد من مجالس النبي ﷺ، بعدما دخل إلى منزله جلس الصحابة يتباحثون، إذًا من العلم النافع أننا نتداول ونقرأ أحاديث الرسول ﷺ، وندرس ما فيها من العلم بالرجوع إلى كتب العلماء الموثوقين.
قال بعضهم: (فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ) المتحدثون أليسوا صحابة؟
الجواب: بلى، ولكن مُرادهم القدماء، يعني: الذين أسلموا قديمًا.
وقال بعضهم: (فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا باللَّهِ شَيْئً) يعني: نحن خالطنا الشرك أول حياتنا ثم أسلمنا، يهضمون أنفسهم رضي الله عنهم.
(وَذَكَرُوا أَشْياءَ) كل هذا من المباحثة في العلم، وهذا مما ينفع بإذًا الله، وتدبر النصوص فيه فوائد عظيمة جدًا، تدبر الآيات، تدبر الأحاديث، هذه تسمى مدارسة ومذاكرة للعلم.
ثم خرج النبي ﷺ فأخبروه، فقال: «هُم الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقونَ، وَلَا يَكْتَوونَ، وَلَا يَتَطَيَّرونَ، وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكّلُونَ» فذكر وصف السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
أوَّلُ وصف قال: «لَا يَسْتَرْقونَ» وهذا هو السبب الذي دعا سعيد بن جبير إلى ذكر هذا بتمامه، يعني: يا حصين لو تركت الاسترقاء فهو خير لك، ولكن ليس معنى هذا أن لا ترقي نفسك، أو لا تقبل أن يرقيك غيرك، ولهذا ينبغي للمؤمن إذا زار أو عاد المريض أن لا ينتظر أنَّ المريض لا يطلب منه، بل هو يُبادر فيقول: يا أخي أو يا أختي -إذا كانت محرمًا- سأقرأ عليك القرآن، سأقرأ عليك رقية شرعية، لا ينتظر منهم أن يسألوه حتى لا يحرجهم، فهذا لا بأس به، فالنبي ﷺ رقى غيره من الصحابة، ورقاه جبريل، ولا يرد الإنسان من يرقيه، ويقول: لا، لا ترقيني، ولكن سؤال الرقية تركه أولى.
لا نقول سؤال الرقية حرام، لكن تركه أولى حتى لا يتعلق قلبه بغير الله عز وجل، هذا معنى «لَا يَسْتَرْقونَ».
أمَّا الرواية: «لا يرقون» فالصواب أنها «لَا يَسْتَرْقونَ» حيث تكلم العلماء على عدم صحة لفظ «لا يرقون» وأنَّ الصواب «لَا يَسْتَرْقونَ»؛ لأنَّ النبي ﷺ رَقَى، فكيف يقول في هؤلاء أنهم لا يرقون؟ والرقية إحسان، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُم أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ».
قال: «وَلَا يَتَطَيَّرونَ» التطير هو التشاؤم بالأشياء، والتشاؤم سوء ظن بالله عز وجل، وهذا من نقص التوحيد، ترك السفر أو ترك الزواج أو ترك البيع أو ترك الشراء، وذلك بناء على طير أو على وهم أو على رقم أو على كل هذا من أمور الجاهلية، فتركوا هذه الأشياء.
الثالثة: «وَلَا يَكْتَوونَ» تركوا الكي مع أنه جائز وهو علاج، والنبي ﷺ قال: «الشِّفَاءُ في ثَلَاثَةٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نَارٍ، وأَنْهَى أُمَّتي عَنِ الكَيِّ»؛ لأنَّ الكيَّ فيه تعذيب؛ لأنَّ الحديد يحمى في النار حماء شديدًا ثم يوضع على جلد الإنسان، فهذا فيه ألم شديد، فَكَرِهَ ذلك النبي ﷺ لأمته، أمَّا إذا دعت الحاجة للكي فلا بأس؛ لأنَّ النبي ﷺ هو بنفسه كوى بعض أصحابه، وأيضًا الصحابة ذكروا أمراضًا فاكتووا منها، وهذا يُبين جواز الكي، لكن تركه أفضل، وتركه من أعمال السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، لكن البحث عن دواء غيره أو دواء أفضل منه هذا هو الأفضل، لكن لو احتاج للكي فلا بأس، كذلك الاسترقاء لو احتاج للاسترقاء نقول: لا بأس؛ لأنَّه ليس كل أحد يقوى على ذلك، وفي حديث أسماء أم أولاد جعفر رضي الله عنهم أجمعين، قالت: إنَّ ولدَ جعفرٍ تُسرِعُ إليهمُ العينُ، أفأَسْترْقي لهمْ؟! قال: «نعَمْ؛ فإنهُ لو كان شيءٌ سابقَ القدرَ لسبقتهُ العينُ» ، وهذا يدل على جواز الاسترقاء كما ذكرنا جواز الكي عند الحاجة لذلك.
الأمر الرابع: «وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكّلُونَ» هذا هو الجامع، أنهم يعتمدون على الله عز وجل، ويفوضون الأمور إليه، يثقون بالله عز وجل، وأنه لا يُصيبهم إلَّا ما كتب الله لهم، وأنَّ ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وما أصابهم لم يكن ليخطئهم، ومع ذلك من كمال توكلهم أنهم يبتعدون عن الأشياء التي فيها أمور مكروهة كالتعذيب بالنار بالكي، ويتركون الاسترقاء، ويتركون سؤال الناس، لكن ليس معنى هذا ترك سؤال العلم. ولا ترك فعل الأسباب، وإنما معنى هذا أنهم: حققوا التوحيد لله عز وجل، وأخلصوا الدين لله سبحانه وتعالى، ففعلوا الواجبات.
انتبه لهذا أخي الكريم وأختي الكريمة، فعلوا الواجبات، تركوا المحرمات، قاموا بالمستحبات، تركوا المكروهات، ومن جملة ذلك أنهم ابتعدوا عن الأمور التي فيها نقصٌ، ولكن الأسباب لم يتركوها، فالأسباب باشروها، وأعظم من هؤلاء رسول الله ﷺ، هو سيد المرسلين وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعليِّ وبقية العشرة وأمهات المؤمنين أزواج النبي ﷺ، وغيرهم من الصحابة، فعلوا الأسباب المشروعة والأسباب المباحة، فلا يترك الإنسان الأسباب ويقول: أنا أتوكل على الله، هذا باطل؛ لأنَّ ترك الأسباب المشروعة أو المباحة بزعم التوكل هذا لا يجوز في الشريعة الإسلامية، وهذا باطل، وهذا من الابتداع الذي يفعله بعض المبتدعة مع ترك الأسباب.
طيب لو تركت الأكل والشرب تموت من الجوع، لو تركت اللباس تموت من البرد، أو تتعرى أمام الناس وهذا لا يجوز، وكذلك يتجر الإنسان ويبيع ويشتري ويطلب الرزق، الأسباب لا بد منها، لكن الرسول ﷺ أخبر عن هؤلاء بترك أسباب معينة فيها نقص معين وهو اتجاه للآخرين بنوع من السؤال ونوع من المذلة، فترك هذا واستغنى عنه بأسباب أخرى، أما أن يترك الأسباب بالكلية فهذا ليس من دين الله عز وجل.
(فَقَامَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ، فَقال: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُم، فقال: «أَنْتَ مِنْهُم» وفي رواية قال: «اللهم اجعله منهم») فاستجاب الله دعاء نبيه ﷺ، وأكرم الله عكاشة بأن مات شهيدًا في حروب الردة، فـ (قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقال: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُم، فَقال: «سَبَقَكَ بِها عُكَّاشَةُ») قال العلماء: هذا من استعمال المعاريض ومن الأدب، ما قال أنت ما تستحق هذا المقام، أو أنت مقامك نازل أو نحو ذلك أو أن بعض الناس يقول: ربما يسألها يعني أناس ليس فيهم هذا المقام، فالنبي ﷺ استعمل التي ليس فيها جرح للمستمع أو المقابل له، وإنما تكلم بكلام فيه معاريض، وهذا من حسن أخلاق النبي ﷺ.
المقصود، أنَّ هذا يدل على كمال تحقيق التوحيد، وما الجزاء؟ قال: (يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب).
هل هم سبعون ألفًا فقط؟ جاء في حديث آخر أنه مع كل ألف سبعون ألف.
نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن حقق التوحيد.
{اللهم آمين، ويجعلنا وإيَّاكم جميعًا وشيخنا ممن يدخل الجنة بغير حساب.
نأخذ الباب الذي بعده، أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله تعالى: (بَابُ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ .
وقال الْخَلِيلُ: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَام﴾ )
.
قال رحمه الله: (بَابُ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ) انظر الترتيب، تعريف التوحيد، فضله، تحقيقه، وبعد ذلك الخوف من ضده، ما هو ضد التوحيد؟ الشرك.
هل الخوف من الشرك؟ يعني: أمر واجب؟
نقول: نعم؛ لأنه مخوف جدًا، أخطر شيء يمكن أن تواجهه في حياتك هو الشرك والكفر، ولا يوجد شيء أخطر منه، كما أنك الآن لو أردت أن تسافر وهناك أسد مفترس أو ذئاب مفترسة أو حيات تنهش وتقتل الإنسان، فأنت تعلم هذه الحيات أو هذه الأسود المفترسة، وتعلم أنَّ صاحبك سيمشي في هذا الطريق، ماذا تفعل؟ ماذا تقول له؟ تقول له: انتبه، هناك كذا وكذا، تحذره من هذه المخاطر، هذا من محبتك له.
النصوص الشرعية من الآيات والأحاديث دلت على وجوب الخوف من الشرك، يعني: هذا الأمر واجب، وليس مستحبًا، يعني أن يكون في قلبك خوفٌ من الشرك، ما معنى هذا؟ يعني أن تحذر من الوقوع في الشرك، وأن تعرف أنَّ الشرك أعظم الذنوب، وأن تعلم علم اليقين أنَّ الله عز وجل لا يغفر لمن قابل الله وهو مشرك، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ فإذا متَّ وأنت على الشرك -أيها الإنسان- فإنَّ الله عز وجل لا يغفر لك، هذا خبر من الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ ، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72]. وقال الله عز وجل للنبي ﷺ: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر:65]. فحينئذٍ تخاف منه، مثلما يحذر الناس الآن من عقوق الوالدين، التحذير هذا جميل ومهم، هل هو مفيد ولا لا؟ نعم مفيد حتى لا يقع الإنسان في عقوق الوالدين.
يحذرون من ترك الصلاة؛ لأنَّ من ترك الصلاة خرج من الدين، يحذرون من ترك الزكاة، طيب في شأن التوحيد التحذير من ماذا؟ التحذير من الشرك بالله عز وجل والكفر به.
طيب ما الدليل؟ قال: وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ انظر إلى هذا واعرف حقيقة الأمر.
الذنوب تنقسم إلى قسمين:
الأول: الشرك.
الثاني: ما دون الشرك، يعني: الذنوب والمعاصي التي دون الشرك، ليست كفرًا ولا تخرج من الملة لكنها ذنوب، القتل، السرقة، الزنا، العقوق، أكل أموال اليتامى، كلها كبائر عظيمة، ومرتب عليها عقوبات شديدة، ومع هذا قال الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ يعني: إذا مات الإنسان ولقي الله عز وجل وهو مشرك، فهذا لا يغفر له، أمَّا دون ذلك ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾
طيب ما معنى الشرك في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ ؟
الشرك هو التشريك معه في العبادة، أن تجعل معه معبودًا آخر، أي: تعبده وتعبد غيره، ولهذا سمي الشرك شركًا؛ لأنَّ معناه من التشريك؛ لأنَّ المشرك ماذا فعل؟ عبد الله وعبد غيره، قوم الفتية الذين هم أصحاب الكهف. في سورة الكهف.
قال الله عز وجل: ﴿إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ قال بعدها: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ إذًا قومهم كانوا يعبدون الله ويعبدون آلهة أخرى، فتبرأوا من قومهم، وهكذا سائر شرك الأمم، يعبدون الله عز وجل ويعبدون غيره، قوم ثمود ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ . يعني لَمَّا أرادوا أن يعظموا الأمر فيما بينهم -التسعة الرهط- أرادوا أن يقسموا، فبماذا أقسموا؟
أقسموا بالله، يعظمون الله، ويعرفون الله، وقريش الذين بعث فيهم النبي ﷺ وأهل مكة كانوا يحجون ويقولون في التلبية: "لبيك لا شريك لك إلَّا شريكا هو لك" يلبون لله، يحجون لله، لكن يصرفون العبادة لغيره، يقول عمر رضي الله عنه: "إنِّي نذَرْتُ أنْ أعتكفَ ليلةً في المسجدِ الحرامِ في الجاهليَّةِ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أَوْفِ بنَذْرِكَ»"، في الجاهلية قبل الإسلام يعتكف لمن؟ يعتكف لله عز وجل، إذًا المشركون لِمَاذا سُموا بهذا الاسم؟ أي: "مشركون، مشرك، أهل الشرك" ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ لماذا سموا بهذا الوصف؟ لأنهم أشركوا، كيف أشركوا؟ يعني: عبدوا الله وعبدوا معه غيره، هذا المعنى إذا فهمته عرفت التوحيد ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ .
هذه الآية في الملاقاة، يعني: فيمن لقي الله من غير توبة، طيب بقية الذنوب دون الشرك، هي تحت المشيئة.
ننتقل إلى آية أخرى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ جميعًا حتى الشرك، نعم حتى الشرك، إذًا آية سورة النساء ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ تسمى في الملاقاة، يعني: من لقي الله عز وجل بهذا، سواء لقي الله عز وجل وهو مشرك أو لقي الله عز وجل بما دون الشرك. هذا حكمه.
الأول: المشرك لا يغفر الله له.
الثاني: حكمه أنه تحت المشيئة
الآية الثانية في سورة الزمر: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ هذا فيمن تاب، فالتوبة في الدنيا لجميع الذنوب، توبة من الشرك أو السحر أو الكفر أو جميع الذنوب، من تاب تاب الله عليه، من مات فهذا حكمه.
قال: (وقال الْخَلِيلُ: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَام﴾ ) وهذا يُبين لك عِظَم خطر الشرك، أنَّ إبراهيم الخليل الذي حَطَّمَ الأصنام، وكسر الأصنام بيده، يسأل الله عز وجل ويدعو الله عز وجل أن يُجنبه هو ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ﴾ وأن يجنب بنيه عبادة الأصنام؛ لأنَّ فتنتها فتنة عظيمة، وتسرع إلى الناس إسراعا هائلًا، وتدخل على الناس من مداخل متنوعة، أكبرها الغلو في الصالحين، وتعظيم العباد كما وقع في قوم نوح، فسأل إبراهيم الخليل أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام.
وما هي عبادة الأصنام؟ عبادة الأصنام هي دعاؤها من دون الله، والسجود لها، والذبح لها، وهذا الذي كان يفعله أهل الشرك، ويعكفون عندها ويسجدون لها، ويتبركون بها، ويطلبون منها البركة، ويطلبون منها كذا، وإذا سئلوا قالوا: ﴿هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾ وإذا سئلوا هل تنفعكم أو تضركم؟ قالوا: ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَ﴾ فهم على هذا التناقض، وعلى هذا الظلام.
ما الفرق بين الصنم والوثن؟
قال العلماء: الصنم ما كان فيه صورة إنسان، يعني: صورة عين وأنف وفم، أو يعني رسومات تدل على صورة.
أمَّا الوثن فهو يشمل الأصنام وغيرها من الشجر والحجر، تراب يجمع، عمود، خشبة، قبر يعبد، كل ذلك يسمى وثنًا.
{نعم. أحسن الله إليكم، قال رحمه الله: (وَفِي الحَديثِ: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ: الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ»، فَسُئِلَ عَنْهُ؟ فَقال: «الرِّيَاءُ».
وَعَن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو للَّهِ نِدًا؛ دَخَلَ النَّارَ» رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ جابِرٍ س أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ به شَيْئًا دَخَل الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ»)
.
هذا الصنيع من المؤلف يوضح أنه ناصح وواضح أيضًا.
الخوف من الشرك، قال ﷺ: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ: الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» إذًا نستفيد من هذا الحديث أنَّ النَّبي ﷺ خاف على أمته. ومن المخاطبون؟! الصحابة خير قرون هذه الأمة، فما بالك بمن بعدهم؟ أولى أن يخاف عليهم؛ لأنَّ الصحابة أقوى الناس إيمانًا، وأكمل هذه الأمة، «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» فخاف عليهم، فما بالك بمن بعدهم؟ الخوف أدعى وأحرى.
ثانيا: قوله ﷺ: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ: الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» نستفيد منه فائدتين:
أولًا: الخوف من الشرك.
ثانيًا: أنَّ الشرك فيه أصغر وأكبر، إذا كان هناك أصغر، إذًا هناك شرك أكبر، فتقسيم الشرك إلى أكبر وأصغر مأخوذ من كلام النبي ﷺ، ومما دلت عليه النصوص، فالشرك الأصغر لا يخرج من الملة، بينما الشرك الأكبر يخرج من الملة.
الشرك الأصغر يحبط العمل الذي قارنه، أمَّا الشرك الأكبر فيحبط جميع الأعمال.
الشرك الأصغر لا يوجب الخلود في النار، أمَّا الشرك الأكبر فيوجب الخلود في النار.
الشرك الأصغر صاحبه لا يعتبر كافرًا، بل هو مسلم مرتكب للذنوب، وتعتبر هذه الأعمال الشركية التي من الشرك الأصغر من جملة الكبائر، أمَّا الشرك الأكبر فصاحبه قد خرج من ملة الإسلام، نسأل الله العافية والسلامة.
إذًا هذا لَمَّا أخبرهم النبي ﷺ عن الشرك الأصغر سألوه، ما هو؟ فقال: «الرياء»، والرياء هي المراءة، يعني: أن يُرِيَ الناس عمله، والرياء يُبتلى به الصالحون أكثر من غيرهم، ممن يعمل الأعمال الصالحة كقراءة القرآن والصدقة والصلاة، فيأتيهم الشيطان ويقول لهم: افعلوا هذا حتى يراكم الناس.
الرياء نوعان:
رياء كامل، يُرائي بالدين كله، يعني: هو دخل في الدين ليري الناس أنه مسلم وهو ليس بمسلم، وهذا ما يسمى بالنفاق الأكبر -النفاق الاعتقادي.
رياء أصغر أو يسير الرياء، وهذا هو المراد بالحديث هنا، وهو الشرك الأصغر، وهو الذي يُبتلى به الصالحون، وهو يُصيب الإنسان أثناء العمل، يأتي فيقول في نفسه: فلان يراني، إذًا هذا شيء طيب ويَسْتَحْسِنُ هذا.
فالرياء خطير على العمل؛ لأنه يفسد العمل، ويذهب أجره ويحبطه، نسأل الله العافية والسلامة.
فيجب على المؤمن أن يحذر منه، وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: «مَن يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللَّهُ به، ومَن يُرائِي يُرائِي اللَّهُ بهِ» سمَّع: يعني في الأمور التي تسمع، كما في القراءة، أو مثل النصيحة والكلام أو الدعوة أو الذكر أو الدعاء إذا دعا أو فعل هذه الأمور بصوت عالٍ حتى يسمعه الناس وهو مرائي، فإنَّ الله عز وجل يُسمِّع به، وهذا عقوبة له، وإذا فعل أشياء ليراه الناس فإنه يحبط عمله، نسأل الله العافية.
قال الله عز وجل في الحديث القدسي: «أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ» لكن نقول لإخواننا وأخواتنا: إذا ابتلي الإنسان بمثل هذا فليستعذ بالله، ولا يترك العمل الصالح؛ لأنَّ بعض الناس يقول: أنا لن أذهب للمسجد حتى لا أقع في الرياء، أنا لن أتصدق حتى لا أقع في الرياء، نقول: لا، الشيطان يفرح بهذا أكثر؛ لأنَّ الشيطان يريد منك أن لا تعمل، وإذا عملت يريد أن يُحبط عملك، فهل تستجيب له في الـأول أو تستجيب له في الثاني؟
لا هذا ولا هذا، اعمل وأخلص لله عز وجل عملك واجتهد، وإذا وقع في قلبك شيء فتعوذ بالله منه، واستمر في عملك ولا تلتفت إلى هذه الوسوسة.
أمَّا الفرح، عندما يراك الإنسان، يدخل عليك وأنت تصلي، أنت تصلي لله، ولكن فتحوا الباب ورأوك تصلي فدخلك السرور في هذا لا يضرك، هذا أخبر النبي ﷺ عنه أنه عاجل بشرى المؤمن، هذا الشيء لا يضرك، ولا تلتفت إلى حمد الناس ولا مدحهم.
ننتقل إلى الحديث الآخر، قال: (وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو للَّهِ نِدًا؛ دَخَلَ النَّارَ») يعني: من مات وهو يدعو ندًا، والند هو النظير والمثيل، فكل من دُعِيَ من دون الله عز وجل، فالداعي جعله لله ندًا؛ لأنَّ الدعاء حق الله سبحانه وتعالى، فهذا يُبين لك أنَّ الذي يموت على هذا يدخل النار، نسأل الله العافية والسلامة، وهذا في خطر الشرك، والخوف من الشرك، والخوف من دعاء من سوى الله عز وجل.
قال: (وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ جابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ به شَيْئًا دَخَل الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ») وهذا كما في الحديث الآخر، هما الموجبتان:
الأولى: موجبة للجنة.
والثانية موجبة للنار.
وهذا يدل على وجوب الخوف من الشرك، وهذا يدل أيضًا على فضل التوحيد وفضل تحقيق التوحيد.
وقوله: «لَا يُشْرِكُ به شَيْئً» (ل) نافية، (يُشرك) هذا فعل مُضارع، (شيئً) هذه نكرة في سياق النفي، قال العلماء: النكرة في السياق النفي أو النهي أو الشرط تعم، فكل شيء يدخل في ذلك، إذا أٌشرك به، فهذا يبين لك أنه لا يجوز أن يدعى مع الله غيره، ولا أن يعبد مع الله غيره، لا في عبادة الدعاء، ولا في الذبح، ولا في النذر، ولا في غير ذلك من سائر العبادات، بل كلها لله سبحانه وتعالى، فهذا يبين فضل التوحيد، كما يبين خطر الشرك، ووجوب الخوف من الشرك.
وبهذا نختم هذا الدرس، نسأل الله جل وعلا لنا ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، أحسن الله إليكم شيخنا، وجزاكم الله خيرًا على هذا الشرح المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن لقي الله لا يشرك به شيئًا.
ونلتقي إن شاء الله في حلقة قادمة وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك