الدرس الأول
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيُّها الإخوة والأخوات من المشاهدين والمشاهدات، في درس جديد، وهو الدرس الأول من: (كتاب التوحيد) من برنامج (جادة المتعلم) والذي تقدمه لكم/ (جمعية هداة)، أسأل الله عزَّ وَجَلَّ أن يُوفقنا وإيَّاكم إلى كل خيرٍ.
معنا في هذا الدرس فضيلة الشيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فنرحب أيضًا بفضيلة الشيخ، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلاً وسهلاً بكم وبالإخوة والأخوات، والطلاب والطالبات، المشاهدين والمشاهدات، نسأل الله جل وعلا أن يجزي القائمين على هذه الجمعية خير الجزاء، وأن يُبارك في هذه الدروس العلمية، وأن يُبارك في جهود هذه الجمعية، ونسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه سبحانه وتعالى سميعٌ مجيبٌ.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، لو قَدَّمتُم بنبذة عن (كتاب التوحيد)، وعن مؤلفه رحمه الله تعالى}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد؛ فهذا هو الدرس الأول من شرح (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) لشيخ الإسلام الإمام المجدد/ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي، المولود سنة خمس عشرة ومئة وألف من الهجرة، والمتوفى سنة ست ومئتين وألف من الهجرة.
هذا الإمام العالم العلامة ألَّفَ هذا الكتاب وألَّفَ غيره من الكتب التي تشهد على صدقه، وعلمه، وتمسكه بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وحرصه التام على النُّصح للمسلمين، وهذا يظهر جليًا لكلِّ من اطلع على مؤلفات الشيخ -رحمه الله تعالى- فهو دائمًا في كلِّ مؤلفاته يستند فيما يقول ويُقرِّر على الآيات وعلى الأحاديث الصحيحة، وكذلك على ما يُقرره ويتفق عليه جميع علماء الإسلام.
وُلِدَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نجد ونشأ فيها، وكان في نجد -كغيرها من البُلدان والمناطق في العالم الإسلامي- أوضاع منحرفة، وأمور مُخالفة للعقيدة مثل: التعلق بالأموات، وسؤالهم الحاجات، وطلب المدد منهم، وكذلك التعلق حتى بغير الأموات كالأشجار والأحجار والتعلق بالقبور، وكذلك أنواع من الضلالات والبدع والخرافات.
هذه الأمور كانت مُنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي، وكان يُنكرها كثير من أهل العلم، ولكن لم يكن لهم يدٌ في إزالتها، ولم يكن لهم سلطانٌ يُؤيدهم على تغييرها، ولذلك استمرت هذه الأمور، وظهرت وكَتَبَ عنها العلماء في ذلك العصر وقبله، كتبوا عن ذلك كما يظهر في كتب التواريخ، وكما يظهر في فتاوى محفوظة، وفي مؤلفات معروفة لعلماء في اليمن، وعلماء في الشام، وعلماء في مصر، وعلماء في العراق، وعلماء في الهند وما وراءها، وعلماء في إفريقيا، كتبوا عمَّا رأوه من مخالفات شركية بصرف العبادة لغير الله، والتعلق بأصحاب القبور، والاستغاثة بهم، والذبح لهم، والتعلق بالجنِّ، والتعلق بالأشجار، هذه الأوضاع ليست في منطقة واحدة من مناطق العالم الإسلامي، بل كانت مُنتشرة، فالشيخ رحمه الله تعالى لَمَّا وفقه الله عز وجل لهذا العلم والدراسة الشرعية على يدي مشايخ بلده، ثم ذهب إلى مكة والمدينة فطلب العلم هناك على علمائها، ثم ذهب إلى الأحساء ثم العراق، وطلب العلم على علماء مشهورين بالسنة والحديث، وكان يجري في هذه الجلسات مُناقشات ومحادثات، فكان -رحمه الله- يُبَيِّنُ هذا الأمر ويستفهمه من العلماء فيقررون أنَّ هذا الأمر الموجود والمنتشر بين الناس هو من الشرك، ومما يُخالف الإسلام. وكثير منهم – أي: من هؤلاء العلماء- لا يستطيع أن يتكلم خوفًا من سطوة العامَّة والسفهاء أو خوفًا من سطوة بعض السلاطين الظلمة، أو خوفًا على الجاه، وبعضهم يمنعه من ذلك كونه ليس له من ينصره ويؤيده.
وهناك أسباب أخرى لكثير من أهل العلم جعلتهم لا يكون لهم تلك الشهرة وهذا القبول.
الشيخ رحمه الله كان صريحًا وواضحًا، ويُؤلف الكتب ومما ألَّفَه في تلك الفترة في شبابه هذا الكتاب الذي بين أيدينا (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)، وسوف نرى ونسمع ونقرأ هذا الكتاب المبارك، والذي لا يوجد فيه إلا آيات وأحاديث كما يظهر لكل قارئ فيه، حتى إنَّ شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى يقول: "لَاَ أَعْلَم أَنَّه أُلِّفَ فِي بَابِه مِثْلُه"؛ لأنه جَمَعَ النصوص والأحاديث المتعلقة بكل ما يَختص بتوحيد العبادة.
وعبارة الشيخ هذه عن كتاب التوحيد: "لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ سَبَقَ أَنْ أُلِّفَ مِثْلُه" يعني: في معناه، على صغر حجمه وكثرة فوائده، فينبغي حفظه.
"وهذه رسالة إلى إخواني وأخواتي -هذا كلام الشيخ عبد العزيز بن باز- فينبغي حفظه وتأمل ما فيه من الآيات والأحاديث لِمَا فيها من العلم النافع، والهدى المستقيم، والدلالة على توحيد الله والإخلاص له، وعلى بُطلان الشرك، وسائر ما حَرَّمَه الله من البدع والمعاصي، التي نهى عنها سبحانه وتعالى" هذا كلام الشيخ عبد العزيز في الثناء على هذا الكتاب.
ومما أذكره ولا أنساه أنَّ الشيخ -رحمه الله- في دروسه التي كان يدرسها في الجامع وفي جامع سارة أيضًا في حي البديعة في الرياض أنَّه كان كُلَّمَا فرغ من قراءة كتاب التوحيد وانتهوا منه، يأمر بإعادة الكتاب مرة أخرى، ولأهميته فلا يكاد درس أسبوعي يمر عليه إلا وفيه شرح لكتاب التوحيد؛ لأهمية هذا الكتاب وعظم فائدته.
نرجع إلى الحديث عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كان يُراسل الناس ويُبَيِّنُ للأمراء ويُبَيِّنُ للمشايخ الموجودين في نجد حقيقة الدعوة الإسلامية، وصفاء العقيدة، وإبطال الشرك، والتعلق بغير الله عز وجل، فواجه أُنَاسًا عارضوه، وواجه أُناسًا قبلوا منه، والشيخ رحمه الله دعوته كانت باللين والحكمة، ليس فيها عنف ولم يكن يدعو إلى قتل الناس أو إلى الإساءة إلى الناس، بل كان يسلك مسلك الحكمة.
ومن القصص المشهورة أنه كان يأتي عند أُناسٍ يستغيثون بقبرٍ أو بصاحبِ قبرٍ في منطقة في نجد، يقولون: يا زيد، يعني: يريدون زيد بن الخطاب، وكان زيد استشهد في معارك اليمامة، فيقال إنَّ قبره هناك، فيأتون عند هذا فيقولون: يا زيد، يا زيد، ويستغيثون به، فيأتي ويرفع صوته قريبًا منهم حتى يسمعوه ويقول لهم: الله خير من زيد، الله خير من زيد.
ففي دعوته للناس وتعليمه لم يكن يأتي بالضرب أو بالقسوة أو بالقتل، ولَمَّا كانَ في إحدى المدن وطلب منه أميرها أن يخرج بالرغم من أنه كان له دروس كثيرة، وكان له طلاب كثيرون، وحلقات علمية اشتهرت.
فلَمَّا أَمَرَ بإقامة الحد على زانية واشتهر هذا الأمر؛ قام بعض السفهاء بالوشاية والكذب عليه والإساءة له، حتى أوغر صدر الأمير، وأوغر صدر المسؤول في البلدة وخارجها، فقالوا: أخرجوا هذا المطوع من قريتكم، فقال له: اُخرج من القرية؛ فخرج من تلك البلدة لا يدري أين يذهب، ولم يقل لطلابه اخرجوا على هذا الأمير أو أنَّ هذا الأمير كذا وكذا، إنَّما ابتعد عن الفتن، وسلك مسلك الصبر، فلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، ثم هَداه الله ويَسَّرَ له أن أتى إلى الدِّرْعِية، وتسامع به أهل العلم وأهل الخير وطلاب العلم، وهم يعرفونه لأنَّ له سمعة، فوصل الخبر إلى زوجة الأمير محمد بن سعود -رحمه الله ورحمها- فأشارت على الأمير وقال: هذا خير ساقه الله لك، فلا تُفَوِّتْ هذا الخير. قال: سأدعوه من أجل أن يأتي إليَّ. قالت: لا، أكرمه؛ لأنَّ إكرام العلماء سبب لعزك، وكانت هذه المرأة صالحة وموفقة، والأمير أيضًا كان صالحًا وموفقًا -رحمه الله.
فذهب الأمير إلى الشيخ، وشرح له الشيخ حقيقة الدعوة، وحقيقة التوحيد، وأنَّه من أهم المهمات نجاة الناس من عذاب الله عز وجل، وذلك يكون بتحقيقهم للتوحيد والإسلام الذي كان عليه الرسول ﷺ والصحابة، وأمَّا هذه الشركيات والخرافات، فالواجب أن ننقذ الناس منها، وأن نعلقهم بالله عز وجل، ونرجعهم إلى ما كان عليه الرسول ﷺ والصحابة، ونحذرهم من الشركيات ونمنعها.
فشرح الله صدر الأمير بذلك، فصار أعظم ناصرٍ للتوحيد -رحمه الله، ثُمَّ ذُريته من بعده إلى يومنا هذا.
الدولة السعودية الأولى استمرت وانتشرت واتسعت أطرافها حتى عَمَّتْ غالب جزيرة العرب، وهذا من فضل الله عز وجل.
الشيخ -رحمه الله- لم يكن طالب دُنيا، ولم يكن طالب قتال، وإنَّما كان صاحب دعوة، ولذلك أغلب القُرى وأغلب النَّاس في نجد وخارجها لَمَّا عرفوا الحقيقة صاروا أنصارًا للدعوة، وليست المسألة أنَّهم غُلِبُوا بالقهر، وانتهى أمرهم فصاروا مقهورين، لا، بل صاروا أَنصارًا للدعوة، وهذا أمر واضح في كل من عَرَفَ الحق، وكل من شرح الله صدره للحق فإنه يكون من أسباب عِزِّ الدين.
وعلى سبيل المثال نُذَكِّرُ بأنَّ النبي ﷺ قال: «اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ بأحبِّ هذين الرجُلين إليك بأبي جهلٍ أو بعمرَ بنِ الخطابِ» فكان أحبُّهما إلى اللهِ عمرَ بنَ الخطابِ، فهدى الله عمر بن الخطاب مع أنه كان شديدًا على النبي ﷺ والصحابة قبل إسلامه، ثُمَّ لَمَّا هداه الله صار من أعظم أنصار الدين، رضي الله عنه وأرضاه.
فالشاهد من هذا، أنَّ هذه الدعوة استمرت وانتشرت، ولم تكن خاصة أو محلية أو مناطقية، ولم تكن تعصبًا لشخصٍ، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يريد من الناس أَن يتعصبوا له، ولا أن يضعوا له تماثيل، ولا أن يكتبوا عنه، ولا أن يمدحوه، ولا يريد هذا من أحدٍ أبدًا ولم يقل للناس: امدحوني أو اثنوا علي، ونحن عندما نتكلم عن هذا الكتاب أو نشرح هذه العقيدة وغيرنا من مشايخنا وعلمائنا لا نقصد بذلك تمجيد شخصٍ معينٍ، ولا ندعو إلى تعظيم شخصٍ دون غيره، وإنَّما المقصود: هو هذا الدين، المقصود الكتاب والسنة، وهذا حقيقة الإسلام، أن نَرُدَّ الناس إلى تحقيق العبادة لله رب العالمين، وأن تكون هذه العبادة خالصة لله، لا يصرف شيء منها لغيره، لا لملك ولا لرسول ولا لغيرهما، وكذلك أن تكون هذه العبادة على وفق السُّنَّة المحمدية، لا يكون فيها بدعة ولا انحراف ولا خروج عن هدي النبي ﷺ، وبهذا تنتشر الدعوة.
ولهذا ولله الحمد، هذه الدعوة ما كانت حبيسة في الجزيرة العربية فقط، بل انتشرت في سائر أقطار الأرض، ولله الحمد نجد أن دعاة التوحيد الآن في جميع البلدان، في مختلف أقطار الكرة الأرضية، فتجد في كل قارة وفي كل بلد دعاة للتوحيد وأنصارًا له، لم يقال لهم: ادعوا للتوحيد بالمال، ولا بالسلاح، ولا بالتخويف، بل إنهم دعوا للتوحيد؛ لأنهم عرفوا الحق، وهذا مصداق قول الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ بماذا؟ ﴿بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ فالظهور هنا: يشمل المعنيين، ظهور حسي، وظهور معنوي، ظهور بالسنان والقوة، وظهور بالحجج والبينات، ولهذا أهل التوحيد هُم الذين معهم الحجج، وأهل الشرك ليس معهم حجة، كما قال الله تعالى في مواضع في كتابه: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانً﴾ ، ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ أي: ما في برهان، ما في سلطان.
الآن على سبيل المثال: بعض الناس يَدَّعي أنه شيخ، أو يَدَّعي أنه كذا، ثم يقول للناس: "اذهبوا إلى الموتى، ومن يُسمونهم أولياء، فاطلبوا منهم والجأوا إليهم"، هكذا يُغررون بالناس، ويخدعون الناس، ويضلون الناس، هؤلاء هم الأئمة المضلون.
هؤلاء ما حُجتهم؟ ليس معهم حجة، وليس معهم سلطان، بينما الموحد ماذا يقول للناس؟
يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ ، ويقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وكل أفعالك أيُّها الإنسان يجب أن تكون مِمَّا يُتَعَبَّدُ به، ويجب أن تكون خالصةً لله عز وجل، دعاؤك، صلاتك، ركوعك، سجودك، ذبحك، نذرك، وهكذا سائر أنواع العبادة.
وهذا الذي بين أيدينا: مُؤَلَّفٌ لهذا الأمر، وهو جَمع بعض -وليس كل- جمع بعض النصوص الشرعية من القرآن ومن السُّنة، وتبويبها على مسائلٍ تتعلق بتوحيد العبادة؛ لأنَّ أنواع التوحيد ثلاثة:
- توحيد الربوبية.
- توحيد الألوهية.
- توحيد الأسماء والصفات.
والمقصود هنا في هذا الكتاب، أي: المقصود الأعظم هو: توحيد الألوهية، أي: تحقيق العبادة لله رب العالمين.
هذه نبذة عن المؤلف رحمه الله، وعن كتابه الذي هو: (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) وهو مُشتملٌ على سبعة وستين بابًا، الخمسة الأولى هي كالمقدمة للكتاب، ثم تأتي أبواب أخرى، وإذا نظرت عرفت أن هناك بعض الروابط بين تلك الأبواب سنأتي إليها في حينها إن شاء الله تعالى.
الآن نقرأ في الكتاب يا شيخ ريان حفظك الله تعالى.
{أحسن الله إليكم، ولعلنا لا زلنا نتفيأ من ظلال هذه الدَّعوةِ المباركة في بلادنا، وأيضًا دراسة هذا الكتاب عبر البرامج وعبر المواقع وفي المساجد، هذه نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى}
الحمد لله، أحسن الله إليكم.
{نبدأ في قراءة المتن؟}
تفضل يا شيخ.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، قال الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرَّحيمِ. كِتابُ التَّوْحِيد، وَقَوْلُ اللَّه تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ .
وقولُهُ: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ الْآيَةُ.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكَمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئ﴾ إِلى قَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ الْآيَةَ.
وقوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً﴾ الْآيَة.
وقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً﴾ الْآيَة.
قال ابْنُ مَسْعُودٍ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي عَلَيْهِا خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكَمْ عَلَيْكَمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ الْآيَة".
وَعَن مَعَاذِ بنِ جَبَلٍ س قال: "كُنْت رَدِيفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ، فَقال: «يا مَعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَاد، ومَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟»، قلت: اللَّهُ وَرَسُولهُ أَعْلَمُ.
قال: «فإن حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدوهُ وَلَا يُشْرِكوا به شَيْئاً، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِك به شَيْئ». فقلت: يا رَسُول اللَّهِ! أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قال: «لَا تُبَشِّرْهُم فِيتَّكُلو». أَخْرَجَاهُ في الصحيحيْنِ)}.
هذا الباب اشتمل على استدلالات بآيات وأحاديث، عدد الآيات، يعني من جهة المواضع: خمس مواضع، والأحاديث حديث واحد وهو حديث معاذ، والأثر لابن مسعود رضي الله عنه.
إذًا، هذا مقدمة الكتاب يُبين فيها التوحيد من خلال النظر في هذه الآيات، أي: يقول لك: هذا كتاب التوحيد، اقرأ هذه الآيات، وتأملها مرة بعد مرة، فسيظهر لك معنى التوحيد.
وأول شيء بدأ بالبسملة كما هي عادة أهل العلم، ثم قال: (كِتابُ التَّوْحِيد) يعني: هذا الكتاب يجمع مسائل ماذا؟
يجمع مسائل التوحيد، ما معنى التوحيد؟
التوحيد في اللغة: مصدر (وَحَّدَ) هذا هو الفعل، و (يُوَحِّدْ) فعل مضارع، والمصدر: توحيدًا، وَحَّدَ يُوَحِّدُ توحيدًا، ما معنى وَحَّدَ؟
أي: جعل الشيء واحدًا، فإذا قلت: أنا وَحَّدتَ الله، أي: اعتقدته واحدًا، ومعنى: (جعل) هنا ماذا؟ اعتقد، يعني: (جعل) ليس معناها صير، وإنما معناها: (اعتقد) مثل قوله: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثً﴾ يعني: اعتقدوا، وليس المعنى صيروا؛ لأنّ (جَعَلَ) تأتي بمعنى صَيَّر أحيانًا إذا كان لها مفعول ثان.
نقول في تعريف التوحيد في اللغة: (وَحَّدَ يُوَحِّدُ تَوْحِيدً) أي: اعتقد الشيء واحدًا.
إذا اعتقدنا أنَّ الله واحدًا، ما معنى هذا؟
أي: أنه هو المعبود وحده لا شريك له، لا نعبد معه غيره، ولا يستحق العبادة غير الله عز وجل، فكل عبادةٍ يجب أن تكون لله، عبادتي أنا، عبادة أهلي، عبادة زوجتي، عبادة أمي، عبادة أبي، عبادة المجتمع كله، عبادة الناس، كل عبادة يتعبد بها يجب أن تُصْرَفَ لله وحده، فهو المستحق للعبادة، ولا يجوز أن يصرف شيء من هذه العبادة لغير الله عز وجل.
فلو صرف أحد من هؤلاء الخلق -من الإنس أو من الجن- صرف العبادة لغير الله، لم يُوَحد الله عز وجل، بل يكون قد أشرك، لماذا؟ لأنَّ ضد التوحيد الشرك، والشرك هو التثنية أو التثليث أو التربيع، يعني: تجعل له شركاء، إمَّا واحد أو اثنان أو ثلاثة، فبعض الناس يدعو مثلاً جنيًا، وبعض الناس يدعو نبيًا، وبعض الناس يدعو مَلكًا من الملائكة، وبعض الناس يدعو الشمس، وبعض الناس يدعو القمر، فهذا في دعائه صَرَفَ العبادة لغير الله عز وجل، فجعل لله شركاء، فمنهم من يجعل مع الله شريك، ومنهم من يجعل معه شركاء.
أهل التوحيد يبرأون إلى الله من هذا، ويعتقدون أنَّ هذا كفر، ويعتقدون أنَّ هذا هو الشرك الأكبر، الذي يحبط العمل، ويخرج صاحبه من الملة، ويدخله في الكفر ويخلده في النار، فيبرؤون إلى الله عز وجل من هذا، ويخلصون عباداتهم لله عز وجل، وهذا هو الإسلام الحق الصافي الذي جاء به الرسول ﷺ، وهو أن تكون العبادة لله عز وجل.
وهذا معنى التوحيد، أي: اعتقد أنَّ الله عز وجل هو المنفرد بالعبادة، لا يُعبد مع الله غيره.
وهنا نأتي إلى سؤال مُهم جدًا، إذا قلنا: إنَّ العبادة لا تُصرف إلا لله، طيب ما هي العبادة؟
بعض الناس يجاوبك ويقول: هي الصلاة والزكاة والصوم، نقول: نعم، أركان الإسلام عبادات جليلة، بل هي أم العبادات، لكن تفاصيل ذلك يجب أن تُدركها، فالصلاة مُشتملة على:
نية، أعمال قلبية، قول باللسان، أعمال بالجوارح، وفيها دعاء، وفيها تسبيح، وفيها تهليل، وفيها ركوع، وفيها سجود، وفيها تعظيم لله عز وجل بالقيام، وفيها أشياء كثيرة من أنواع العبادة.
كذلك الزكاة مالية، والصيام بالإمساك، والحج بأمور مالية وبدنية وقلبية، وهناك عبادات يعني: داخل ضمن هذه العبادات، وهي: الدعاء والخوف والمحبة والرجاء.
إذًا هناك عبادات كثيرة جدًا، ما الضابط؟
"اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة". هذا هو تعريف العبادة، إذًا كلُّ ما يُحبه الله ويرضاه، يعني: أمر به إمَّا أمر إيجاب أو أَمْرَ استحباب، كل هذا يُسمَّى عبادة.
إذا ورد أمر لنا بالطواف، فالطواف عبادة، قال تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتيقِ﴾ .
أمرنا الله عز وجل أن ندعوه، قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ ، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ، إذًا الدعاء عبادة.
أمرنا الله بالصلاة، وأمرنا بالنحر، فقال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ إذًا الصلاة عبادة، والنحر كذلك عبادة، فكما أننا لا نصلي لغير الله، كذلك لا ننحر للجن ولا للملائكة ولا للقبور ولا لأصحابها.
إذًا النحر عبادة لله عز وجل، والصلاة عبادة لله عز وجل، وبهذا نعرف معنى التوحيد.
إذًا التوحيد: أن نعتقد أنَّ الله عز وجل هو المستحق للعبادة، وحده لا شريك له.
قال العلماء: التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أنواع: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
توحيد الألوهية: هو إفراد الله تعالى بالعبادة.
توحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير.
توحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله عز وجل بكل ما يستحقه من الأسماء والصفات التي سمى أو وصف بها نفسه، أو سماه بها رسوله ﷺ أو وصفه بها رسوله ﷺ من غير تمثيل ولا تعطيل، ومن تشبيه ولا تحريف، كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ، هذه أنواع التوحيد الثلاثة، وإنما نذكرها هنا لمسيس الحاجة لها؛ لأنَّ توحيد الربوبية في الجملة يُقر بها غالب أهل الأرض، قال الله عن فرعون -وهو أطغى طاغية وجماعته أيضًا-: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّ﴾ وهكذا كُل ملحدٍ وكل مُستكبرٍ يعرف الحق فيكابر. متى يظهر هذا الحق الذي يعرفه؟ يظهر عند الشدة، فإذا ماجت الأمواج، واضطربت السفينة عليهم؛ ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ فرعون أدركه الغرق، قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ وهكذا كل من يَدَّعي الإلحاد، والإلحاد دعوة أكثر منها واقع، هو دعوة فارغة، لكن البلاء العظيم هو بالشرك؛ لأنَّ هناك شبهات عند دعاته، ولله الحمد الشرك والإلحاد كلهم مدحورون بكتاب الله وبسنة رسوله ﷺ.
قال رحمه الله: (وَقَوْلُ اللَّه تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ) هذا الأسلوب عند العلماء يسمى أسلوب الحصر، من أين أُخِذَ الحصر؟ الحصر أُخِذَ من النفي ثم الإثبات، فقوله: ﴿وَمَ﴾ هذه نافية، وقوله: ﴿إِلَّ﴾ هذا إثبات، إذًا هناك شيء حُصِرَ؛ لأنَّ الغاية والحكمة من خلق الإنس والجن هي عبادة الله وحدة لا شريك له.
يقول عبد الله بن عباس: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: ليوحدون.
الآية الثانية: (وقولُهُ: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ) هذه الآية نستفيد منها فوائد منها:
أولاً: أنَّ الله عز وجل من رحمته بعباده أرسل الرسل ليقيم على الناس الحجة، وهذا ليس لأمة واحدة، بل في كل أمة، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولً﴾ وهذا يدعونا إلى أن نرجع قليلا، يعني: نفكر قليلا في التاريخ، فأول أهل الأرض من الإنس آدم، وهو أبو البشر، ومنه خلقت حواء، ومنهما، أي: بعد حملها جاءت ذرية آدم، وتكاثروا وتناسلوا وبقوا على التوحيد عشرة قرون، كما قال عبد الله بن عباس، وهذا مما يُستفاد من قول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ ، وفي قراءة: {فاختلفوا} يعني: في زمن نوح، فـ ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ ، كان آدم نبي مكلم، وهو أول أهل الأرض، لكن أول النبيين الذين أرسلوا إلى أهل الأرض، يعني: لدعوتهم هو نوح عليه الصلاة والسلام، وقد قَصَّ الله عز وجل علينا خبر نوح في مواضع كثيرة في القرآن؛ لعظم الحاجة لإدراك هذا المعنى، وهذه أول أمة، ولكن ماذا حدث لهذه الأمة؟ لم يسلم منها إلا القليل، وأغرق الله أهل الأرض كلهم.
وكان سبب الشرك في هؤلاء -وهذا مُهم جدًا أن تعرفه- الغلو في الصالحين، الغلو في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا -كما سيأتي في باب خاص في هذا-، ثم بعد ذلك نزلوا إلى الأرض، وانتشر أبناؤه في الأرض، وبعد ما انتشروا في جميع أهل الأرض، بقوا على التوحيد ما شاء الله ثم رجعوا إلى الشرك.
فبعث الله إليهم الرسل، وذكر الله عز وجل لنا من الرسل الذين أرسلوا: هودًا، وصالحًا، ولوطًا، وشعيبًا، ومن الرسل أيضًا: إبراهيم وهو أبو الأنبياء، وأبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام هو من أولي العزم من الرسل ولم تؤمن له جماعته ولا قومه، إلا ابن أخيه لوط وزوجته سارة فقط، فتأمل!
لم يؤمن أحد من قومه، وكلهم ألقوه في النار؛ فأنجاه الله عز وجل.
وفي ذريته جعل الله البركة العظيمة، فرزق الله إبراهيم بإسماعيل وإسحاق، ومن ذرية إبراهيم نبينا محمد ﷺ، وإسحاق رزقه الله بيعقوب، ويعقوب رزقه الله بيوسف والأسباط، وبعدهم استمرت الدعوة، ثم بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام، وهو نبيٌّ مكلمٌ، فهو كليم الله، وآمن من آمن من قومه، وبعده تتابعت الرسل، ثم آخر رسول قبل نبينا محمد ﷺ هو عيسى ابن مريم، كل هذه الأمم في الأراضي والأنحاء كلها ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَسُول﴾ فسمَّى الله عز وجل لنا رسلاً في القرآن، ورسل آخرون لم يسمهم الله، أي: لم يذكر الله عز وجل أسماؤهم، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ ، ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ ، وكان آخرهم هو محمد ﷺ، وبعثه الله للعالمين، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ فرسالته باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والحمد لله الذي أكرمنا ببعثة نبينا محمد ﷺ.
هؤلاء الرسل منذ آدم إلى محمد ﷺ كلهم يقولون هذه الكلمة: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ، وإذا لم تفهم هذا المعنى جيدًا فلن تفهم التوحيد، فكل رسول كانت هذه دعوته، ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ . فلم تقل الرسل لأقوامهم: اعرفوا الله، أو أنَّ المعرفة تكفي، أو التصديق يكفي، لا وإنما قالوا: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ ؛ لأنَّ العبادة تتضمن المعرفة والايمان والتصديق، فالعبادة هي فعل العبد، ولذا يجب أن يكون فعلك لله عز وجل، تقربك واتجاهك وتعلقك بالله سبحانه وتعالى، في قلبك وفي لسانك وفي جوارحك بكل عبادة مشروعة.
﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ الذي عبد مع الله عز وجل، والذي يعبد من دون الله عز وجل، كل ما عبد من دون الله يسمى طاغوتًا إذا كان راضيًا، أمَّا إذا كان غير راض مثل: الرسل إذا عُبدوا من دون الله، أو الملائكة أو الصالحون الذين لا يرضون بهذا؛ فعبادتهم تسمى عبادة طاغوتية لكنهم لا يرضون بهذا، فلا يسمون بالطاغوت، وإنما الطاغوت هو الشيطان الذي زين لبعض المشركين عبادتهم. هذا معنى قوله: ﴿أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ .
يقول العلماء: إنَّ ﴿أَنِ﴾ في قوله: ﴿أَنِ اُعْبُدُو﴾ تسمى (أن التفسيرية) يعني: تفسر خلاصة البعثة لكل رسول.
قال: (وقوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً﴾ ) هذه في سورة الإسراء، وسورة الإسراء بها تسعة عشر وصية وِأَمْر.
﴿وَقَضَى﴾ يقصد بها القضاء الشرعي وليس القضاء الكوني والقدري، إنما هو القضاء الشرعي، ومعنى القضاء الشرعي: أنَّ الله عز وجل أمر ووصى، يعني: قضى ووصى ربك.
﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ هذا أيضًا حصر، "نفي وإثبات"، ونفي العبادة عما سواه وبيان أنه مُستحق للعبادة.
قال: (وقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ ) هذه تُسَمَّى آية الحقوق العشرة في سورة النساء؛ لأنَّ فيها عشرة حقوق، بدأها الله عز وجل بأعظم حق، وكذلك الآية التي قبلها في سورة الإسراء، وقد بدأها الله عز وجل بأعظم حق، والآية التي سورة الأنعام: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكَمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئ﴾ تسمى: آية الوصايا، وهذه الوصايا لعظم شأنها قال عنها عبد الله بن مسعود: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي عَلَيْهِا خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ " يعني: يُشير إشارةً مختصرةً، الشخص المحبوب المعظم إذا مات يُسأل الناس ماذا قال في آخر حياته، فما بالك بسيد المرسلين، وإمام المتقين، وسيد ولد آدم ﷺ؟ فالناس متشوفون إلى معرفة وصاياه الأخيرة، بماذا وبأي شيء وَصَّى؟
فابن مسعود يريد أن يُطمئن ويقول للناس: عليكم بالقرآن والسنة، ليس هناك شيء تبحثون عنه مختلف، فالله حافظ دينه، فـ من أراد أن ينظر إلى هذه الوصية التي عليها النبي الخاتم -يعني مؤكدة مئة بالمئة- فليقر الآيات.
﴿قُلْ تَعَالَوْ﴾ يعني: هلموا وأقبلوا.
﴿أَتْلُ﴾ يعني: أَقُصُّ وأبين وأخبركم ﴿مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: ما هو الشيء الذي حرم ربكم عليكم؟ هذا رد على المشركين كما في سورة الأنعام، وقد ذكر الله عز وجل في سورة الأنعام أنَّ أهل الشرك حَرَّموا أشياءً، وحرَّموا بهيمة الأنعام، وَحَرَّمُوا أشياء ما أنزل الله بها من سلطان ابتداء من عندهم، فجاء الرد عليهم: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ﴾ يعني: أقص عليكم وأبين لكم ما حرم ربكم عليكم، ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ إلى آخر الآيات.
وهذه الآيات عظيمة جدًا، ومما يُبين لك أهمية التوحيد أنه سبحانه وتعالى قَدَّمَهُ على كل الوصايا، فهو أول الوصايا، وهذا له نظائر في القرآن.
مثال: وصايا لقمان، لَمَّا أوصى لقمان ابنه ببعض الوصايا وقد ذكرها الله عز وجل في كتابه، فماذا كانت أول وصية؟
أول وصية هي: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ بينما هو أوصاه بأخلاق، وأوصاه بأعمال، وأوصاه بصلاة، وببر الوالدين، كل هذا قدم عليه ماذا؟ قدم عليه التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل، فهذا يبين لك أن هذا أفرض الفرائض وأعظم الواجبات، وأكبر الحقوق، وأوجب ما على المسلم تحقيقه، وهو العبادة لله عز وجل بفعل الأوامر، وترك النواهي، والوقوف عند حدود الله عز وجل.
ثم ختم الشيخ هذا الباب بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، ومعاذ رضي الله عنه هو من خيار الصحابة، وهو من الأنصار رضي الله عنه، وتوفي سنة ثمان عشرة في طاعون عمواس في الشام، وكان معاذ بعد وفاة النبي ﷺ قد جلس ونصب نفسه لتعليم العلم والصبر على ذلك، فهو من كبار علماء الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، قال: (كُنْت رَدِيفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ) هذا من تواضع النبي ﷺ أنه كان يركب الحمار، وأيضًا يردف عليه، وفيه جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق ذلك.
(فَقال: «يا مَعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَاد، ومَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟» قلت: اللَّهُ وَرَسُولهُ أَعْلَمُ. قال: «فإن حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدوهُ وَلَا يُشْرِكوا به شَيْئاً، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِك به شَيْئ». فقلت: يا رَسُول اللَّهِ! أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قال: «لَا تُبَشِّرْهُم فِيتَّكُلو» أَخْرَجَاهُ في الصحيحيْنِ).
وهذا فيه حسن تعليم النبي ﷺ، وهو أنه لا ينتظر ممن حوله أن يسألوه أو يبادروه، بل هو بادرهم بالسؤال، فأحيانًا يكون إخراج العلم للناس بسؤالهم، أن تأتي إليهم في مجلس وتسألهم، وتقول لهم: أخبروني عن كذا وكذا، فيقومون ويحدثونك بشيء فيصيبون ويخطؤون؛ فتخرج لهم بالعلم، وهذا من حُسن تعليم النبي ﷺ، وهذا يقع في قلب المسؤول موقعًا عظيمًا؛ لكونه سيتذكر أنه لم يعرف هذا السؤال أو أنه أخطأ في هذا الجواب وسمع الإجابة الصحيحة.
فهنا قال معاذ: (اللَّهُ وَرَسُولهُ أَعْلَمُ) وهذا من الأدب، أنَّ الإنسان إذا لم يكن يعلم فعليه أن يسكت، والرسول ﷺ يعني حيٌّ، ولهذا قال معاذ: (اللَّهُ وَرَسُولهُ أَعْلَمُ). فإذا سئلت عن مسألة والرسول ﷺ قد توفاه الله عز وجل وكانت المسألة مما يتعلق بأحكام الشريعة، فلا بأس أن تقول: (اللَّهُ وَرَسُولهُ أَعْلَمُ) لكن إذا كانت المسألة مما يتعلق بأمور حدثت بعد وفاة النبي ﷺ فعليك أن تقول: (اللَّهُ أَعْلَمُ)، فلو قال فلان لك مثلا: أين المتاع؟ أو أين الغرض الفلاني؟ فلا تقول: (اللَّهُ وَرَسُولهُ أَعْلَمُ) وإنما تقول: (اللَّهُ أَعْلَمُ) أو تقول: لا أدري.
أما في حياة النبي ﷺ فإنه لا بأس بهذا الجواب، وأمَّا بعد وفاته ﷺ فإنه لا يدري ما حال الناس بعده، ولهذا جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ».
وهذا الحديث فيه بيان حق الله على العباد، ولهذا عَرَّفَ الشيخ كتاب التوحيد بقوله: (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد).
هنا قال: (أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَاد؟) الله عز وجل له حق علينا، هو خلقنا وأوجدنا من العدم، أوجدنا هملاً، أوجدنا سُدى، ﴿أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ لا، بل أوجدنا لحكمة عظيمة، ما هي؟ قال: «أَنْ يَعْبُدوهُ وَلَا يُشْرِكوا به شَيْئ» فهذا هو حق الله على العباد.
قال: (ومَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟) قال: «وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِك به شَيْئ» هنا الحق حق تكرم وتفضل وإنعام، ليس حق يوجبه العباد على الله، فلا أحد يُوجب على الله عز وجل؛ لأنَّ الله عز وجل أعلى وأجل، والعباد أحقر وأذل، لكن هذا الحق تكرم الله به على عباده الموحدين، وهو أنه لا يعذبهم.
نسأل الله جلَّ وعلا أن يُنجينا وإيَّاكم من عذاب الله، وأن يُدخلنَا وإيَّاكم في رحمته، اللهم آمين آمين.
{أحسن الله اليك فضيلة الشيخ.
نأخذ الباب الثاني يا شيخ؟}.
نعم.
{قال رحمه الله تعالى: (باب فَضْلُ التَّوْحِيد وَمَا يُكَفِّرُ مِنَ الذُّنوبِ
وَقَوْلُ اللَّه تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَّهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُهْتَدُونَ﴾ .
عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِت رضي الله عنه قال: قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَروحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدَخَلهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» أَخْرَجَاهُ.
وَلَهُمَا فِي حَدِيثِ عِتْبانَ: «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ».
وَعَن أَبِي سَعِيدٍ س مَرْفُوعًا: «قال: مُوسَى يَا رَبِّ! عَلِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ وَأّدْعُوكَ بِهِ؟ قال: قُلْ يا مُوسَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قال: يَا رَبِّ! كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا.
قال: يا مُوسَى! لَوْ أَنَّ السَّمَواتِ السَّبْعَ وَعَامرُهُنَّ غَيْري والْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فِي كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّان، وَالْحاكِمْ وَصَحَّحَهُ.
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ: عَنْ أَنَسٍ س قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يَقُول: «قال اللَّهُ تعالى: يا ابْنَ آَدَمَ! إنك لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً؛ لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَةً»)}.
بعدما ذكر المؤلف رحمه الله معنى التوحيد في الباب الأول، قال بعده: (باب فَضْلُ التَّوْحِيد وَمَا يُكَفِّرُ مِنَ الذُّنوبِ) أي: ليشوق القارئ ويعلمه أهمية هذا الأمر، فهو أعظم الأمور وأكبر الواجبات وأفرض الفرائض، فإذا كانت الفرائض لها ثواب عظيم مثل:
الصلاة لها ثواب عظيم، والزكاة لها ثواب عظيم، والصوم له ثواب عظيم، والحج له ثواب عظيم، فما بالك بالتوحيد؟ ثوابه أعظم وأكبر، وما هو ثوابه؟ أنه يكفر الذنوب إذا صدق الإنسان في توحيده.
ولنستمع ونقرأ هذه النصوص التي تُبين لك فضل تحقيق العبادة لله والسلامة والبراءة من الشرك وأهله.
قال: (وَقَوْلُ اللَّه تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَّهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُهْتَدُونَ﴾ ).
قوله: ﴿الَّذِينَ آَمَنُو﴾ يعني: آمنوا بالله، وبكل ما يجب الإيمان به من أركان الإيمان، والإيمان بالله، أي: أخصلوا العبادة له ووحدوه، وقد بَيَّنَ ذلك بقوله: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُو﴾ يعني: لم يخلطوا إيمانهم، يعني: توحيدهم، ﴿بِظُلْمٍ﴾ أي: بشرك. ما جزاؤهم؟ ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُهْتَدُونَ﴾ .
إذًا من جزاء التوحيد ومن فضائل التوحيد أنَّ أصحابه لهم الأمن في الدنيا وفي الآخرة، ﴿وَهُم مُهْتَدُونَ﴾ أي: في الدنيا هُم أهل الهدى.
الحديث الذي أورده بعد هذا هو حديث عبادة بن الصامت، وهو حديثٌ عظيمٌ، وهو أصلٌ في تلقين الداخل في الإسلام، وهو اصل يجمع الخير كله، ويرد على جميع الطوائف، قال: (قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَروحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدَخَلهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» أَخْرَجَاهُ في الصحيحين)، وهذا الحديث يُبين لنا فيه أنَّ هذه الأمور الخمسة مَنْ شَهِدَ بها شهادة حقٍ ويقينٍ وصدقٍ فإنه من أهل الجنة، وأنَّ الله عز وجل يدخله الجنة، وينجيه من النار.
«عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» يعني: منزلته في الجنة على حسب عمله الصالح، أو «عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» أي: إذا كان عنده تقصير فإنه لا بد أن يكون مآله إلى الجنة.
قال: (وَلَهُمَا فِي حَدِيثِ عِتْبانَ رضي الله عنه: «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ») هذا الحديثُ حديثٌ طويلٌ وكثيرُ الفوائد، ذكرها ابن حجر العسقلاني رحمه الله وابن رجب، وأنصح بالرجوع إلى فتح الباري للوقوف على فوائد هذا الحديث العظيم، حديث عتبان، «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» والتحريم هنا تحريم على التأبيد، يعني: لا يدخل النار أبدًا إذا كان حققها وكملها وقام بحقوقها ولوازمها، أو تحريم أن يُخَلَّدَ في النار.
فالأول إمَّا تحريم الدخول، أي: لا يدخلها أو يكون التحريم بمعنى أن لا يخلد فيها، وهذا في حق أهل المعاصي، وهذا لا بد فيه من الجمع بين النصوص؛ لأنَّ الله عز وجل قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فهم تحت المشيئة.
فهذا عتبان لَمَّا تكلموا في أحد الناس، فقال قائل: إنَّه منافق، وقال قائل: إنَّه كذا، فقال النبي ﷺ: «لَا تَقُلْ ذلكَ، ألَا تَرَاهُ قدْ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، يُرِيدُ بذلكَ وجْهَ اللَّهِ» قالَ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّا نَرَى وجْهَهُ ونَصِيحَتَهُ إلى المُنَافِقِينَ، قال ﷺ: «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ»، فهذه المسائل خطيرة جدًا، ويجب أن نفهم أنَّ تحقيق التوحيد يلزم منه أحد أمرين:
إمَّا أن يكون قد حققه على وجه الكمال؛ فسلم من المعاصي، وسلم من الذنوب، أو إذا وقع فيها وُفِّقَ للتوبة، والمبادرة للتوبة، فمات على هذا الحال على -حال التوبة- وعلى حال تحقيق التوحيد؛ فهذا ممن يدخل الجنة من أول وهلة، وهذا جزاء الموحدين.
وإمَّا أن يكون تحقيقه بالسلامة من الشرك لكن لَطَّخَهُ بالمعاصي والذنوب، ووقع في الكبائر ولم يتب، فهذا أمره تحت المشيئة، إذا مات على هذا من غير توبة فهو إلى الله عز وجل إن شاء عَذَّبَه وإن شاء عفا عنه، وإن عَذَّبَه فإنه لا يُخلد في النار، وإنما يكون مآله إلى الجنة، وهذا فيه الرد على طائفة المرجئة وعلى طائفة الخوارج والمعتزلة.
ثم ختم الشيخ بحديثين يُبين فيهما فضل (لا إله إلا الله)، حديث أبي سعيد الخدري، وحديث أنس بن مالك، أمَّا حديث أبي سعيد الخدري فإنَّ فيه هذا الحديث القدسي، وهو أنَّ الله عز وجلَّ قال: «يا مُوسَى! لَوْ أَنَّ السَّمَواتِ السَّبْعَ وَعَامرُهُنَّ غَيْري والْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فِي كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ومعلوم أيُّها الإخوة أنَّ كثيرًا من أهل الذنوب الذين وردت النصوص أنهم يدخلون النار، يقولون: (لا إله إلا الله) ومع ذلك أخبر النبي ﷺ عن بعض الذنوب أنَّ أصحابها يُعذبون في النار، فما معنى هذا؟ معنى هذا أنَّ الذي ينطق بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ) ليسوا على درجة واحدة في تحقيقها والقيام بحقوقها، فمنهم من ينطق بها ويلتزم بمدلولها، ويقوم ويتوب إلى الله عز وجل، ومنهم من هو دون ذلك، فهم متفاوتون، لكن من حيث هي هذه الكلمة العظيمة فإنها ترجح في السماوات والأرض.
وحديث أنس كذلك حديث قدسي، قال الله عز وجل: («يا ابْنَ آَدَمَ! إنك لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً؛ لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَةً») وهذا يُبين لك فضل التوحيد، وهو أنَّ الخطايا وجميع السيئات لا تقوم أمام هذه الكلمة، وهذا كما يقول أهل العلم: في حق من قالها صادقًا مخلصًا لم يصر على السيئة، ليس هناك أحد من المؤمنين لا يذنب، بل «كُلُّ بَنِي آَدَمَ خَطَاء، وَخَيرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُون» فهذا الذي يقول: (لَا إِلَهَ إِلَّا الله) كمَّلَهَا وأدَّى حَقَّهَا وليس معه من هذه الذنوب إلا وقد تاب منها؛ فهذا يكون له الجنة والكرامة.
النَّوع الثاني: قال هذه الكلمة وأتى إلى الله تائبًا من خطاياه وسيئاته، وأقلع من جميع الذنوب والخطايا، يعني: وقع في ذنوب وقَصَّرَ لكنه تاب؛ فهذا أيضًا يدخل الجنة، ويكون من أهل النعيم.
أمَّا العُصَاةُ وأهل الذنوب وأهل الكبائر، يقول: أنا أقول: (لَا إِلَهَ إِلَّا الله) ولا تضرني الذنوب، نقول: لا، هذا غلط، هذا مذهب المرجئة، بل الذنوب تضرُّ وتُضْعِفُ الإيمان، وتنقص الإيمان، وتُعَرِّض صاحبها للوعيد، فالمؤمن إذا مات وهو على ذنوب وكبائر فهو على خطر حتى لو كان موحدًا، نقول: أمره إلى الله عز وجل، ونقول في حقه: هو مؤمن، هو مسلم، ما نكفره بهذه الذنوب، ولكن نقول: أمره إلى الله، نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء.
أمَّا أمره في الآخرة، فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عز وجل عَذَّبَه، وإن شاء الله عز وجل عَفَا عنه، وإن عُذِّبَ فإنه لا يُخلد في النار.
هذا في الحقيقة مقام عظيم، أولاً: نعرف منه فضل التوحيد، وعظم ثوابه وجزائه، ونعرف منه أيضًا أنَّ هذا التوحيد يحتاج إلى تحقيق وإلى قيام به، كما سيأتي في الباب الذي بعده.
هذا ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإيَّاكم ممن حقق التوحيد، ونال فضله وثوابه، ونسأل الله أن يجعل تحقيقنا للتوحيد تحقيقًا لفعل جميع ما أمرنا الله عز وجل به، وترك ما حرم الله عز وجل علينا، إنَّه سبحانه وتعالى سميعٌ مجيب الدعاء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{اللهم آمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، جزاكم الله خيرًا فضيلة الشيخ على هذا الشرح المبارك، حياكم الله، ونشكر أيضًا الإخوة المشاهدين والمشاهدات على متابعتهم لهذا الدرس، ونلتقي إن شاء الله في الدرس القادم، وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12469 18
-
16292 9
-
33972 6
-
2976 13
-
3064 12
-
4088 11
-
5498 12