الدرس الثالث
فضيلة الشيخ د. حسن بن محمد الحفظي
إحصائية السلسلة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ
وعلى آله وصحابته أجمعين.
الأفعال ثلاثة:
الماضي: وقد انتهينا منه.
والمضارع: وقد بدأنا فيه ولم ننتهِ منه.
والأصل في المضارع أن يكون مرفوعًا، وعلامته: دخول "لمْ" أو "لنْ" أو السين، أو
"سوف"؛ وهذه علامات خاصَّة بالفعل المضارع، ولا تدخل على غيره.
الفعل المضارع لابدَّ أن يبدأ بواحد من الأحرف الزائدة هذه، والمجموعة في قولك:
"أنيتُ":
الهمزة: للمتكلم.
النون: للمتكلمِينَ، أو المتكلمَيْنِ.
الياء: للغائب.
التاء: للمخاطَب والمخاطَبة، وللمخاطَبيْن والمخاطَبِينَ.
وحق الفعل المضارع أن يكون مرفوعًا، ويكون منصوبًا أو مجزومًا، فإذا تقدَّم عليه
ناصب نُصِبَ، وإذا تقدَّم عليه جازمٌ جُزِمَ.
والنواصب التي تنصب الفعل المضارع كثيرة عند الكوفيين، ومحدودة عند البصريين، لأنَّ
الكوفيين يرونَ أنَّ بعض الحروف لا تنصب الفعل المضارع، مثل: "حتى"، فيقولون هي لا
تنصب الفعل المضارع، وإنما الذي ينصب الفعل المضارع هو "أنْ" المضمرة بعد "حتى"،
وإضمار "أنْ" قد يكونُ جائزًا، وقد يكون واجبًا، إلى آخره...
الحاصل: أنَّ الأصل في الفعل المضارع أن يكون مرفوعًا، لتجرُّده من الناصب والجازم،
فإذا دخل عليه ناصب نُصبَ، وإذا دخل عليه جازمٌ جُزِمَ.
نبدأ بالنواصب التي تنصب الفعل المضارع، وهي كثيرة -كما ذكرتُ لكم قبل قليل- عند
الكوفيين، ومحدودة عند البصريين.
البصريون يقولون: الناصب للفعل المضارع هو:
- "أنْ"، قال تعالى: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
الدِّينِ﴾ [الشعراء: 82]، فـ "يغفر" فعل مضارع منصوب بـ "أنْ".
- "لنْ"، قال تعالى: ﴿قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ
إِلَيْنَا مُوسَى﴾ [طه: 91].
- "كيْ"، مثل: "جئتُ كيْ أتعلمَ". ولها شروط، منها: أنها يجب أن تكون مصدريَّة:
يعني تؤوَّل مع ما بعدها بمصدر، وتكون مصدريَّة إذا تقدَّمت عليها اللام
التعليليَّة تحقيقًا -يعني ملفوظ بها- أو تقديرًا -أي مقدرة.
تقول: "جئتُ لكي أتعلمَ"، فالفعل في "لكي أتعلمَ" منصوب بـ "كي"، لأنها تقدَّمت
عليها اللام التعليليَّة.
أما قولك "جئتُ كي أتعلَّمَ" إنْ قدَّرتَ اللام قبلها فالفعل المضارع منصوب بـ
"كي"، وإنْ لم تُقدِّر اللام، فالناصب هو "أنْ" مضمرة بعدَ "كي".
وأما "أنْ" المصدريَّة، فهي تعمل ظاهرة ومقدَّرة، ولذا يقولون إنها أمُّ الباب.
وأنا أذكر لكم الكلام هذا بإيجاز لأنه نحو ليس صرفًا، ولكن صاحبنا هنا ذكره فنذكره
بسرعة.
بقي من النواصب التي تنصب الفعل المضارع: "إذن" ويشترط في نصب الفعل المضارع بعدها
ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن تكون في صدر جملتها.
الشرط الثاني: أن تدل على الاستقبال، يعني أن يكون الزمن بعدها مستقبلًا.
الشرط الثالث: أن لا يفصل بينها وبين الفعل بفاصل إلَّا القَسَم، فلا مانع أن يُفصل
بقسَمٍ.
والمثال الذي يجمع الشروط الثلاثة هو أن يقول شخصٌ: "آتيكَ غدًا" فتقول له: "إذن
أكرمَك"، فـ "أُكرم" فعل مضارع منصوب بـ "أنْ" وهي مستوفية للشروط، فهي متصدرة في
جملتها، ولم يفصل بينها وبين الفعل بفاصل، ودالَّة على المستقبل.
وبعضهم يزيد "حتى" ولام الجحود، وبعضهم يزيد اللام التعليليَّة، وبعضهم يزيد الفاء
السببيَّة ويشترطون فيها أن تكون مسبوقة بطلبٍ أو بنفيٍ خالصين، وبعضهم يزيد "أوْ"
في نصب المضارع، وكذلك واو المعيَّة؛ وهذه كلها تفصَّل في باب النحو، فنحن -على
استحياء- ذكرنا لكم أربع أدوات فقط، مع أنها ليست صرفًا، لأنها لا تغيِّر في بنية
الفعل شيئًا، ونحن نقول: إنَّ الصرف يختص ببنية لكلمة ولا شأن له بضبط آخر للكلمة.
أما الجوازم التي تجزم الفعل المضارع فتنقسم إلى قسمين، فنقرأ ما ذكر المصنف هنا،
ثم أذكر لكم الجوازم بإذن الله تعالى.
قال المصنف -رحمنا الله وإيَّاكم وإيَّاه: (ويَدْخُلُ الجازِمُ: فَيَحْذِفُ مِنهُ)،
يعني: من المضارع.
قال: (حَرَكَةَ الواحِدِ)، مثل: "ينصرُ - لمْ ينصرْ" حذفت الحركة.
قال: (والواحِدَةِ الغائِبَةِ)، مثل: "لمْ تنصرْ فاطمةُ أختها".
قال: (ونُونَ التَّثْنِيَةِ والجَمْعِ المُذَكَّرِ والواحِدَةِ المُخاطَبَةِ)، هذا
يسمونه باب الأفعال الخمسة.
وحقيقة الأفعال الخمسة: كل فعلٍ مضارعٍ اتصلت به ألف الاثنين، أو واو الجماعة، أو
ياء المخاطبة.
وبعضهم يسميها: الأمثلة الخمسة.
والأفعال الخمسة: تُرفع بثبوت النون، وتنصَب وتجزَم بحذف النون.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، الفعل "يؤمنون" مرفوع
بثبوت النون.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُو﴾ [البقرة: 24]، الفعل المضارع مجزوم بـ "لمْ".
قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُو﴾، الفعل المضارع منصوب بـ "لنْ"؛ وحُذفت النون
فيهما.
إذًا؛ الأفعال الخمسة تنصب بحذف النون، وكذلك تُجزَم بحذف النون.
قال: (ونُونَ التَّثْنِيَةِ)، يعني نون المثنى كما في: "تكتبان، يكتبان".
قال: (والجَمْعِ المُذَكَّرِ)، مثل: "يكتبون، تكتبون".
قال: (والواحِدَةِ المُخاطَبَةِ)، مثل: "تكتبينَ".
قال: (ولا يَحْذِفُ نُونَ جَماعَةِ المُؤَنَّثِ فَإنَّهُ ضَمِيرٌ)، تقول:
"المسلماتُ يحضرنَ، المسلمات لنْ يحضرنَ، المسلمات لمْ يحضرنَ" فتثبت النون، فالنون
الدالة على جماعة الإناث لا تحذف؛ بل تبقى، لأنها ليس علامة للرفع، والفعل المضارع
قبلها مبني على السكون، قال تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: 228]، فـ "يتربَّصْ" فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله
بنون النسوة.
قال: (كالواوِ فِي الجَمعِ المُذكَّرِ: فَتَثْبُتُ عَلى كُلِّ حالٍ، تَقُولُ: (لَمْ
يَنْصُرْ، لَمْ يَنْصُرا، لَمْ يَنْصُرُوا، لَمْ تَنْصُرْ، لَمْ تَنْصُرا، لَمْ
يَنْصُرْنَ، لَمْ تَنْصُرْ، لَمْ تَنْصُرا، لَمْ تَنْصُرُوا، لَمْ تَنْصُرِي، لَمْ
تَنْصُرا، لَمْ تَنْصُرْنَ، لَمْ أنْصُرْ، لَمْ نَنْصُرْ)).
الأمثلة:
"لَمْ يَنْصُرْ محمدٌ، الزيدان لَمْ يَنْصُرا، الزيدون لَمْ يَنْصُرُوا، أنتَ لَمْ
تَنْصُرْ، أنتما لَمْ تَنْصُرا، النسوة لَمْ يَنْصُرْنَ، فاطمة لَمْ تَنْصُرْ
أختها، هما لَمْ تَنْصُرا أختهما، أنتم لَمْ تَنْصُرُوا إخوانكم، أنتِ يا فاطمة
لَمْ تَنْصُرِي أختكِ، أنتما يا هندان لَمْ تَنْصُرا أختيكما، أنتنَ يا نسوة لَمْ
تَنْصُرْنَ أخواتكن، لَمْ أنْصُرْ، لَمْ نَنْصُرْ".
والمؤلف لم يذكر من أدوات الجزم إلا "لَمْ"، وأذكر لكم بسرعة وباختصار الجوازم، وهي
على نوعين:
- ما يجزم فعلًا واحدًا.
- ما يجزم فعلين:
أما ما يجزم فعلًا واحدًا فهي خمسة:
الأول: جزمُ الفعل المضارع في جواب الطالب، كقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ
مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 151]، فـ "أتلُ" فعل مضارع مجزوم
لوقوعه في جواب الطلب، والطلب هو قوله تعالى ﴿تَعَالَوْ﴾.
الثاني: جزم الفعل المضارع بـ "لَمْ"، كقوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾
[الإخلاص: 3].
الثالث: جزم الفعل المضارع بـ "لمَّا"، قال تعالى: ﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا
أَمَرَهُ﴾ [عبس: 23]، فـ "لمَّا" ولمْ" يتشابهان في أربعة أمور، ويختلفان في أربعة
أمور، والمهم أنَّها نافية وتجزم الفعل المضارع.
الرابع: جزم الفعل المضارع باللام الطلبيَّة، مثل: قوله تعالى على لسان مَن في
النار -والعياذ بالله: ﴿وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾
[الزخرف: 77]، فهذا دعاء، وكذلك في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾
[الحج: 29]، فـ "يقضوا" فعل مضارع مجزوم باللام الطلبية.
وعلى كلٍّ؛ فاللام الطلبيَّة تشمل:
- الطلب: كقوله: ﴿وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾.
- الدعاء: كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾، وقوله: ﴿فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرً﴾ [التوبة: 82].
الخامس: جزم الفعل المضارع بـ "لا" وتشمل أيضًا:
- النهي: كقوله تعالى على لسان لقمان: ﴿يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
- الدعاء: كقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرً﴾ [البقرة: 286].
أما ما يجزم فعلين فهي أدوات الشرط، وتجزم فعل الشرط وجواب الشرط، وهي ثلاثة عشرة
أداة، أذكر لكم أهمها:
- "إنْ"، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ﴾ [الأنفال: 19].
- "حيثما"، كقوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾
[البقرة: 144].
- "منْ".
- "ما"، كقوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة:
197].
- "مهما"، كقول الشاعر:
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ ** وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ
تُعلَمِ
- "أيْ" الشَّرطيَّة، قال تعالى: ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110].
- "أينما"، كقوله تعالى" ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء:
78].
إذًا؛ هي ثلاثة عشرة أداة تجزم فعلين: الأول فعل الشرط، والثاني جواب الشرط؛ فإذا
وقع فعل الشرط ماضيًّا أو جواب الشرط ماضيًّا فإنَّه حينئذٍ يكون في محل جزمٍ بأداة
الشرط، لأن الفعل الماضي مبني.
قال: (ويَدْخُلُ النّاصِبُ عَلَيْهِ: فَيُبْدِلُ مِنَ الضَّمَّةِ فَتْحَةً،
ويُسْقِطُ النُّوناتِ، سِوى نُونِ جَمْعِ المُؤَنَّثِ)، كقولك: "أنتنَّ لنْ
تلعبنَ".
أما قولك: "لنْ تلعبا، ولنْ تلعبوا، ويا فاطمة لن تلعبي؛ فهذه الأفال الأخمسة التي
ذكرناها؛ فإنها تُحذف النون منها في النصب وفي الجزم.
أما حرف العلة فلا يُحذف للنصب، وإنما تُقدَّر عليه الحركة أحيانًا مع الألف، وتظهر
مع الواو والياء، مثل: "لنْ يسعى، لنْ يرميَ، لنْ يدعوَ"، ظهرت الفتحة عليه.
أما الجزم فيحذف حرف العلة ويحذف النون ويحذف الحركة، ويستبدل كل ذلك بالسكون،
ويستبدل بحذف النون في الأفعال الخمسة.
قال: (فَتَقُولُ: "لَنْ يَنْصُرَ، لَنْ يَنْصُرا، لَنْ يَنْصُرُوا، لَنْ تَنْصُرَ،
لَنْ تَنْصُرا، لَنْ يَنْصُرْنَ" إلى آخِرِهِ).
الأمثلة: "لَنْ يَنْصُرَ محمد جارَه، الطالبان لَنْ يَنْصُرا زميلهما، وهم لَنْ
يَنْصُرُوا إخوانهم، وأنتَ لَنْ تَنْصُرَ، وأنتما لَنْ تَنْصُرا، والنسوة لَنْ
يَنْصُرْنَ"، فما حذفنا النون في " يَنْصُرْنَ"، لأنها نون جمع الإناث.
قال: (ومِنَ الجَوازِمِ: لامُ الأَمْرِ)، وهذه ذكرناها، كما في قوله تعالى:
﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرً﴾ [التوبة: 82]
قال: (ومِنها: "لا" النّاهِيَةُ)، وهذه ذكرناها أيضًا، مثل: قوله تعالى:
﴿يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ [لقمان: 13].
و "لا" الدعائيَّة، مثل: قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا
أَوْ أَخْطَأْنَ﴾ [البقرة: 286].
وبهذا ينتهي الفعل المضارع.
والحديث الآن في فعل الأمر.
والأمر علامته مكوَّنة من أمرين:
الأمر الأول: الدلالة على الطلب.
الأمر الثاني: قبول ياء المخاطبة.
ولابد أن يكون الأمران معًا، فلو ذهب واحد منهما فهذا ليس فعل أمر.
أمثلة:
المثال الأول: قولك "صه" فهذا يدل على الطلب، ولكنه لا يقبل ياء المخاطبة، فهذا ليس
فعل أمر، وإنما يسمونه اسم فعل أمر.
المثال الثاني: قولك: "اكتب"؛ فهذا يدل على الطلب ويقبل ياء المخاطبة فتقول
"اكتبي"، ويقبل نون التوكيد فتقول: "اكتبنَّ"؛ إذًا هو فعل أمر.
المثال الثالث: "أنتِ يا فاطمة تكتبين"؛ فهنا قَبِلَ ياء المخاطبة، ولكنه لا يدل
على الطلب، لأنك تخبر بأنَّها تكتب.
إذًا؛ لابدَّ من اجتماع الشأنين في فعل الأمر:
- أن يدل على الطلب.
- أن يقبل إما نون التوكيد أو ياء المخاطبة.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وأَمّا الأَمْرُ بِالصِّيغَةِ: وهُوَ أمْرُ الحاضِرِ،
فَهُوَ جارٍ عَلى لَفْظِ المُضارِعِ المَجْزُومِ).
يعني: فعل الأمر الأصل فيه أنه مبني على السكون، وقد تبنيه على حذف حرف العلة، مثل:
قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]، وقولك: "ارمِ بالسَّهم، اسعَ إلى الخير".
وقد تبنيه على حذف النون، وذلك فيما كان المضارع منه من الأفعال الخمسة، فتقول:
"اُكتبا، اكتبوا، اكتبي"، حذفت النون في المواضع الثلاثة.
قال المؤلف: (فَإنْ كانَ ما بَعْدَ حَرْفِ المُضارَعَةِ مُتَحَرِّكًا: فَتُسْقِطُ
مِنهُ حَرْفُ المُضارَعَةِ، وتَأْتِي بِصُورَةِ الباقِي مَجْزُومًا، فَتَقُولُ فِي
أمْرِ الحاضِرِ مِن: "تُدَحْرِجُ - دَحْرِجْ")، يعني كان ما بعد حرف المضارعة
متحركًا فتكتفي في الدلالة على الأمر بحذف حرف المضارعة فقط.
مثلًا: "أنت تُدحرجُ الكرة" عندما تحوله إلى فعل فاحذف التاء، فيصير "دَحْرجْ
الكرةَ"، وكذلك تقول: "دَحْرِجا" للاثنين وللاثنتين، و"دَحْرِجُوا" للجماعة،
و"دَحْرِجِي" للمخاطبة، و"دَحْرِجنَ" للمخاطبات.
قال: (وهَكَذا تَقُولُ فِي: (فَرِّحْ، وقاتِلْ، وتَكَسَّرْ، وتَباعَدْ،
وتَدَحْرَجْ)، يعني أنَّك تقول هذا سواء أكان الفعل مجرَّدًا أو كان مزيدًا).
انتهينا من الحالة الأولى للفعل الأمر التي تكتفي فيه بحذف حرف المضارعة، وهو إذا
كان أوَّل الفعل فيه متحركًا.
قال: (وإنْ كانَ ما بَعْدَ حَرْفِ المُضارَعَةِ ساكِنًا: فَتَحْذِفُ مِنهُ حَرْفَ
المُضارَعةِ، وتَأْتِي بِصُورَةِ الباقِي مَجْزُومًا، مَزِيدًا فِي أوَّلِهِ
هَمْزَةُ وصْلٍ مَكْسُورَةً)، فإنَّك حذفت حرف المضارعة والحرف الذي بعده ساكن،
فمستحيل أن تنطق بالساكن، لأن العرب لا تبأ بساكن؛ فتبدأ بهمزة وصل قبله، فتقول:
"اكتب" فأصله "يكتب"، فالحرف الثاني الذي بعد حرف المضارعة ساكن، فلما حذفنا الياء
لا يُمكن أن تنطق بالكاف وهي ساكنة، فتزيد قبلها همزة تسمى بهمزة الوصل، للتَّوصُّل
للنُّطق بالساكن، فتقول: "اكتب".
قال: (إلّا أنْ تَكُونَ عَيْنُ المُضارِعِ مِنهُ مَضْمُومَةً: فَتَضُمُّها،
فَتَقُولُ: "اُنْصُرْ، اُنْصُرا، اُنْصُرُوا، اُنْصُرِي، اُنْصُرا، انْصُرْنَ")،
هنا كرَّرَ "انْصُرَا" مرتين، لأنه مرة للمذكر ومرة للمؤنث.
قال: (وكَذَلِكَ: "اضْرِبْ، واعْلَمْ، وانْقَطِعْ، واجْتَمِعْ، واسْتَخْرِجْ")،
يعني سواء كان مجردًا أو مزيد، ثم تُلحق بها ألف التثنية، أو واو الجماعة.
ثم قال: (وفَتَحُوا هَمْزَةَ "أكْرِمْ" بِناءً عَلى الأَصْلِ المَرْفُوضِ، فَإنَّ
أصْلَ: تُكْرِمُ "تُؤَكْرِمُ").
قلنا: إذا كان الحرف الثاني ساكنًا فإنَّك تحذف حرف المضارعة، وتأتي بهمزة وصل،
لماذا لم نفعل هذا في "أكرمَ"؟
نقول" "أكْرِم" مضارعه في الأصل "يُؤَكْرِمُ"، مثل: "دَحرجَ - يُدحرجُ"، ومثل:
"بايعَ - يُبايِعُ"؛ فنحن اتبعنا الأصل، فرجعنا في "يُكرم" إلى "يُؤَكْرِمُ"، فكان
ما بعد حرف المضارعة متحركًا في الأصل، فلذلك لم نحتَجْ إلى همزة الوصل هنا،
وإنَّما أتينا به كأننا حذفنا حرف المضارعة، فقلنا فيه "أكرِم" في الأمر.
نأتي الآن إلى شيءٍ جديد، وهو: اجتماع تاءين في أول المضارع.
مثل: "تَعلَّمَ" فعل ماضٍ، فإذا أردتُّ أن أُخاطب شخصًا فأقول له "أنت تتعلَّم
قراءة القرآن"؛ فاجتمع عندنا تاءان.
أما في "تَفَعَّلَ، وتَفاعَلَ، وتَفَعْلَلَ"، فلك الآن إما إثبات التاءين فتقول
"تتعلَّم، تَتَجَنَّبُ وتَتَقاتَلُ وتَتَدَحْرَجُ"، أو حذف إحداهما.
قال: (ويَجُوزُ حَذْفُ إحْداهُما، كَما فِي التَّنْزِيلِ: ﴿فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدّى﴾)، فأصله -والله أعلم: "تتصدَّى"، فحذفت إحدى التاءين جوازًا تخفيفًا.
بالمناسبة!
لابد من الإشارة إلى أن العرب تعمَدُ في أكثر كلامها إلى التخفيف، ولذلك تسهل
الهمزة أحيانًا، وتحذف الهمز أحيانًا، مثل: "يكرم" فأصله "يؤكرم" وهذا من باب
التخفيف، ومن التخفيف جواز حذف إحدى التاءين، كما في قوله تعالى ﴿فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدّى﴾، وقوله: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نارًا تَلَظّى﴾، أصله "تتلظَّى"، ومثله قوله
تعالى: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ﴾، أصله "تتنزَّل الملائكة". والله أعلم.
ثم إن عندنا بابان كبيران: باب الإبدال، وبابا الإعلال؛ والحقيقة أنَّ الإبدال
يشملهما جميعًا، ولكن الصرفيون فصلوا فقالوا: إذا كان التغيير في حرف من حروف العلة
فإنَّه لا يسمَّى إبدالًا، وإنما يُسمَّى إعلالًا، أما إذا كان التغيير في حرف ليس
من حروف العلة وإنما هو حرف صحيح فإنه يُسمَّى إبدالًا.
مرة ثانية: أصل الباب كله إبدال، سواء كان فيه حرف علة أو ليس فيه حرف علة،
فالإبدال هو تغيير حرف مكان حرف، فإن كان المبدَل حرفَ علَّةٍ سموه إعلالًا للفرق
بينهما فقط، وإلا فهو إبدال حرف مكان حرف، أما لو كان الإبدال في حرف صحيح فإنه
يبقى على تسميته بالإبدال.
الآن عندنا حرف التاء أحيانًا يُقلبُ طاءً، وذلك باجتماع شرطين:
الشرط الأول: أن يكون في صيغة "افْتَعَلَ - يَفْتَعِلُ - افْتِعَالًا"، فلابد أن
يكون في الافتعال ومشتقاته.
الشرط الثاني: أن تكون فاء "الافتعال" صادًا أو ضادًا أو ظاءً أو طاءً "ص، ض، ط،
ظ".
الأمثلة:
هاتِ وزن "افْتَعَلَ" من "صفى"؟
لا تقول "اصتفى"؛ وإنما تقول "اصطفى"، وهذا من التخفيف لأنه يصعب النطق بالتاء بعد
الصاد، فتقلب التاء طاءً، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ
وَنُوحً﴾ [آل عمران: 33]، منه قولك "اصطلحَ".
هاتِ صيغة "افتَعَلَ" من "ضَرَبَ"؟
لا تقول "اضترب"، وإنما تقول "اضطربَ"، فتقلب التاء طاءً لاجتماع الأمرين:
- صيغة "افتعلَ".
- الحرف الذي قبل تاء الافتعال ضادً.
هاتِ صيغة "افتعل" من "طرد"؟
تقول: "اطَّردَ"، وأصلها "اطتردَ"، فتقلب التاء طاءً، وتدغم الطاء في الطاء.
هاتِ صيغة "افتعل" من "ظَلَمَ"؟
لا تستطيع أن تقول "اظتلم"، وإنما تقول "اظْطَلَمَ".
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكَذَلِكَ سائِرُ تَصَرُّفاتِهِ)، يعني: الماضي، المضارع،
الأمر، اسم الفاعل، اسم المفعول.
قال: (نَحْوُ: "اِصْطَلَحَ يَصْطَلِحُ اصْطِلاحًا، فَهُوَ مُصْطَلِحٌ، وذاكَ
مُصْطَلَحٌ عَلَيْهِ")، فهذه كل تصرفات "افتعلَ"، سواء كانت اسم فاعل، اسم مفعول،
فإنَّك تقلب تاء الافتعال طاءًا بالشرطين:
الشرط الأول: أن يكون على وزن "الافتعال" وما تصرَّف منه.
الشرط الثاني: أن يكون ما قبل تاء الافتعال صادًا، ضادًا، طاءً، ظاءً.
وقد تُقلب تاء "الافتعال" دالًا، وذلك بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون وزن "الافتعال" وتصرفاته.
الشرط الثاني: أن تكون فاء "افْتَعَلَ" دالًا أو ذالًا أو زايًا "د، ذ، ز".
هاتِ وزن "افْتَعَلَ" من "دَرءَ"؟
الجواء: تقول "ادَّرءَ"، والأصل "ادترء"، ولكن ما تستطيع النطق بها.
ومنه "ذَكَرَ" فتقول: "اذَّكَرَ" أو "ادَّكرَ"، ومنه قوله تعالى: ﴿وَادَّكَرَ
بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: 45]، فيجوز في الذال أن تقلبها ذالًا أو تقلبها دالًا،
وكلهما خفيفتان.
وكذلك "زَجَرَ"، وزن "افَتَعَلَ" منها هو "ازدَجَرَ"، وأصله "ازتجر".
نأتي الآن إلى قلب فاء الافتعال.
فإذا كانت فاء الافتعال واوًا أو ياءً أو ثاءً؛ قُلِبَت الواو والياء والثاء تـاءً.
هاتِ وزن "افْتَعَلَ" من الفعل "وقى"؟
الجواب: تقول "اتَّقى الله امرٌ فعلَ خيرًا"، فأصله "اوتقى" لأنه من "وقى"؛ فقلبت
الواو في "الافتِعَال" تاءً؛ وأُدغمت التاء في التاء.
هاتِ وزن "افْتَعَلَ" من الفعل "يَسَر"؟
تقول: "اتَّسَرَ"، وأصله "ايتَسَرَ" فتقلب التاء ياءً.
هاتِ وزن "افْتَعَلَ" من الفعل "ثَغَرَ"؟
تقول: "اتَّغَرَ"، وأصله "اثْتَغَرَ".
إذًا؛ تُقلَبُ فاء "الافتعال" إذا كان واوًا أو ياءً أو ثاءً؛ تقلبُ تاءً.
فتقول: "اتَّقَى" وأصله "اوتَقَى".
وتقول: "اتَّسَرَ" وأصله "ايتَسَرَ".
وتقول: "اتَّغرَ" وأصله "اثْتَغَرَ".
ننتقل إلى باب: نون التوكيد.
لنون التوكيد أحكام نحويَّة، وأحكام صرفيَّة.
نذكر بإيجازٍ الأحكام النحويَّة، ثم ننصرف إلى الأحكام الصرفيَّة.
الحكم النحوي:
أولًا: أن نون التوكيد لا تلحق الفعل الماضي، ولا تلحق الأسماء، وإنما تلحق إما
الفعل المضارع، وإما فعل الأمر.
ثانيًا: نون التوكيد نونان:
- نون خفيفة: وهي النون الساكنة.
- نون ثقيلة: وهي المشدَّدة.
قال الله تعالى على لسان امرأة العزيز: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ
لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [يوسف: 32]، فإذا فتحت المصحف
وجدتَّ أن "ليسجنن" مرسومة نون"، بينما "ليكونًا" مرسومة بالألف، لأن رسم المصحف
مبني على الوقف، يعني أنَّك إذا وقفت على الكلمة بالتاء في المصحف فإنَّك تجدها
مفتوحة، مثل: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]،
فإن التاء مرسومة مفتوحة، فتقف عليها مفتوحة، أما في قوله ﴿رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾
[الأنعام: 147]، فهذه مرسومة بالتاء المربوطة، فتقف عليها بالهاء.
إذًا؛ رسم المصحف يتوقَّف على الوقف على الكلمات، وهنا في قوله ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾ تقف
عليها بالنون، لكن لو وقفت على ﴿وَلَيَكُونً﴾ فتقف عليه بالألف بإجماع القراء،
وكذلك في قوله تعالى: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ [العلق: 15]، تقف بالألف.
وهذا خاص برسم المصحف والوقف في المصحف، ولكن إذا كان في غير القرآن فعامَّة
المتحدثين -فيما أعلم- يقفون عليها بالنون، سواء كانت النون خفيفة أو ثقيلة، أما في
المصحف فنحن متعبَّدون بما ورد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وليس
لنا أن نقرأ بما يجوز لغةً، وإنما نقرأ بما ثبت عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
أما لو ثبت في بعض القراءات الشاذة أنهم وقفوا عليها بالنون في قوله ﴿لَنَسْفَعً﴾،
فإن هذا يكون شاهدًا لأهل اللغة يعتمدون عليه، ولكن لا يجوز القراءة بها في الصلاة
أبدًا.
والسيوطي -رَحِمَهُ اللهُ- له كتاب اسمه "الاقتراح" في أصول النحو، والسيوطي هذا
آية من آيات الله -سبحانه وتعالى- وذكر له بعض المؤرخين أكثر من خمسمائة مؤلف، ما
بين كتاب ورسالة، كتب كبيرة وكتب صغيرة، ويُقال عن السيوطي -رَحِمَهُ اللهُ - إنه
لو قُسِّمَت الأوراق التي كتبت عنه على أيام عمره منذ كان في اللفافة وحتى توفاه
الله؛ لكن يجب عليه أن يكتب في اليوم الواحد مائتي صفحة!
فكان الذي يصير -أيُّها الأحباب- أنه يعطي دروسًا بعد الفجر، وبعد الظهر، وبعد
العصر، وبعد المغرب، وبعد العشاء، والطلاب يكتبون وينقلون عنه، ولم يكن -رَحِمَهُ
اللهُ- مجرد ملقي؛ بل كان يُسند الآراء إلى أصحابها، فمثلًا ينقل رأيا عن سيبويه أو
المبرد أو الزجاج، فتجيء عند مراجعة كلامه تجده كما هو في كتبهم، وأنا قد فعلتُ هذا
ورأيته، وتوفي -رَحِمَهُ اللهُ- سنة 911 هجريًا، وندعو له بالخير، ووالله -يا أيها
الأحباب- قد وفَّرَ لنا السيوطي -رَحِمَهُ اللهُ- مجموعة من الكتب التي لم تصل
إلينا، ولكننا وجدناها في كتبه، فعنده كتاب اسمه "الأشباه والنظائر" آية من آيات
الله، نقل فيه كتبًا كان يُمليها من حفظه، والطلاب يكتبون، رحمهم الله ورضي عنهم.
يقول السيوطي: "ولا أعلم مخالفًا في صحَّةِ الاستشهاد بالقراءات متواترها وشاذها
على مسائل النحو واللغة، وإن اختلف في الاستشهاد بها في مسائل الفقه"، فالفقه في
اختلاف في الاستشهاد بالقراءات الشاذة، أما في اللغة والنحو فيُستَشهَد بها.
نعود إلى موضوعنا:
نون التوكيد الثقيلة يُوقَفُ عليها بالنون، ونون التوكيد الخفيفة فيُقَفُ عليها في
المصحف بالألف، ولو وقفت عليها في غير المصحف بالألف فلا مشكلة أبدًا، لأنَّك تتبع
القراءة.
ما يحصل في الفعل المضارع وفعل الأمر إذا اتصلت بهما نون التوكيد؟
يُبنَى الفعل الفتح بشرط أن تكون النون ملاصقة للفعل وليس بينهما فاصل.
هل يُمكن أن تكون نون التوكيد متصلة بالفعل المضارع ومفصولة عنه؟
نعم، يكون ذلك في الأفعال الخمسة، وهي الفعل المضارع التي يتصل به ألف الاثنين أو
واو الجماعة أو ياء المخاطبة، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ﴾ [يونس: 89]،
فالفعل هنا ليس مبنيًّا وإنما هو معرب، لفصل ألف الاثنين.
وكقوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 186]،
فُصِلَ بواو الجماعة.
وكقوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدً﴾ [مريم: 26]، فُصِلَ
بياء المخاطبة.
فهذه هي الحالات الثلاث التي لا يُعدُّ الفعل المضارع فيها مبنيًّا، وإنَّما يُعدُّ
معربًا.
ويُبنى الفعل المضارع كما في قوله تعالى: ﴿لَنَسْفَعً﴾ لأن نون التوكيد ملاصقة
للفعل، وكقوله: ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾، كذلك.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (ويَلْحَقُ الفِعْلَ غَيْرَ الماضِي والحالِ)، يعني
لابد أن يكون دالًا على المستقبل.
إذًا الفعل الماضي والفعل الذي يدل على الحال لا تلحقه نون التوكيد.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (ويَلْحَقُ الفِعْلَ غَيْرَ الماضِي والحالِ: نُونانِ
لِلتَّأْكِيدِ خَفِيفَةٌ ساكِنَةٌ، وثَقِيلَةٌ مَفْتُوحَةٌ، إلّا فِيما يَخْتَصُّ
بِهِ، وهُوَ فِعْلُ الاِثْنَيْنِ مُطْلَقً)، ففعل الاثنين أبدًا ما يُمكن أن تلحق
نون التوكيد المباشرة.
قال: (وجَماعَةِ النِّساءِ: فَهِيَ مَكْسُورَةٌ فِيهِما أبَدً)، يعني نون التوكيد
الثقيلة المشدَّدة مفتوحة إلا مع ألف الاثنين، كقوله ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ﴾، وكذلك
مع نون النسوة، كـ "اذهبنَانِّ يا نسوة"
قال: (فَتَقُولُ: "اذْهَبانِّ لِلاِثْنَيْنِ، واذْهَبْنانِّ لِلنِّسْوَةِ"،
فَتُدْخِلُ ألِفًا بَعْدَ نُونِ جَمْعِ المُؤَنَّثِ، لِتَفْصِلَ بَيْنَ
النُّوناتِ).
عندنا نون ثقيلة، وهي عبارة عن نونين، لأن النون المشددة هي نون ساكنة وبعدها نون
متحركة، وعندنا نون النسوة، فلا يُمكن أن تجمع ثلاث نونات، فلا تقول "اذهبنَنْنَ"؛
فتفصل بينهما بألف، فتقول "اذهبنَانِّ يا نسوة".
قال: (فَتُدْخِلُ ألِفًا بَعْدَ نُونِ جَمْعِ المُؤَنَّثِ، لِتَفْصِلَ بَيْنَ
النُّوناتِ، ولا تُدْخِلُهُما الخَفِيفَةَ)، يعني ألف الاثنين ونون النسوة لا تأتي
بعدهما النون الخفيفة، وإنما يلزم أن تأتي النون الثقيلة، لأن ألف دائمًا ساكنة،
والنون الخفيفة ساكنة، فلا يُمكن أن يجتمعا، لأنَّك ما يُمكن أن تُحرِّك الألف
أبدًا، والأصل في التخلص من التقاء الساكنين أن تحرِّك واحدًا منهما، فإذا حرَّكتَ
النون فقد أبطلتَ حالها، لأن حالها أن تكون ساكنة، والألف لا تتحرك أبدًا.
قال: (ولا تُدْخِلُهُما الخَفِيفَةَ، لأَنَّهُ يَلْزَمُ التِقاءُ السّاكِنَيْنِ
عَلى غَيْرِ حَدِّهِ)، فهم أجازوا التقاء الساكنين، ولكن بشرط أن يكون ما قبلهما
حرف مد، كقوله تعالى ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]، فله حالة مع الياء وله
حالة مع الواو، أما ما عداه فليس على حدِّه.
قال: (فَإنْ التِقاءَ السّاكِنَيْنِ: إنَّما يَجُوزُ إذا كانَ الأَوَّلُ حَرْفَ
مَدٍّ، والثّانِي مُدْغَمًا، نَحْوُ: "دابَّةٌ، ولا الضّالِّينَ")، فهنا يجوز
التقاء الساكنين، لأنه موافق للقاعدة.
قال: (وتُحْذَفُ مِنَ الفِعْلِ مَعَهُما: النُّونُ الَّتِي فِي الأَمْثِلَةِ
الخَمْسَةِ، وهِيَ: "يَفْعَلانِ، وتَفْعَلانِ، ويَفْعَلُونَ، وتَفْعَلُونَ،
وتَفْعَلِينَ". وتُحْذَفُ: واوُ "يَفْعَلُونَ، وتَفْعَلُونَ"، وياءُ "تَفْعَلِينَ"،
إلّا إذا انْفَتَحَ ما قَبْلَهُما نَحْوُ: "لا تَخْشَوُنَّ، ولا تَخْشَيِنَّ"،
و"لَتُبْلَوُنَّ" و"فَإمّا تَرَيِنَّ").
فهنا يجوز أن تحذف النون في هذه الأمثلة من أجل نون التوكيد، لأنَّك أتيت بها لغرض،
والنون الأخرى لو أثبتها لاجتمع عندنا ثلاث نونات، فتحذف النون، وتُحْذَفُ: واوُ
"يَفْعَلُونَ، وتَفْعَلُونَ"، وياءُ "تَفْعَلِينَ"، إلّا إذا انْفَتَحَ ما
قَبْلَهُما نَحْوُ: "لا تَخْشَوُنَّ، ولا تَخْشَيِنَّ"، و"لَتُبْلَوُنَّ"، و"فَإمّا
تَرَيِنَّ".
وبهذا ننهي الحديث في هذه الحلقة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
سلاسل أخرى للشيخ
-
6146 6