الدرس الخامس
فضيلة الشيخ د. عبدالله بن صالح الكنهل
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله علا وبعد، فهذه قواعد تعد.
خمسًا هي الكبرى من القواعد ... أولها الأمور بالمقاصد
يقيننـــــــا بالشــــك لا يـــزال ... مشقـــة تجلب يســـــرا
قالـــوا وضرر يزال ثم العادة ... قد حكمت جميع السادة
أهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامج: (جادة المتعلم) ، نشرح فيه (مَنْظُومَةُ الْقَواعِدِ الْفِقْهِيَّةِ) ، للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الله بن صالح الكنهل.
أهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة المستمعين والمستمعات.
{نستأذنكم في البداية بقراءة المتن}.
تفضل- بارك الله فيك.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه: (
وَكُلمَا نَشَا عَنِ المـأْذُونِ ... فَذَاكَ أَمْرٌ لَيْسَ بِالمَضْمُونِ
) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فقبل الشروع في مضمون ما ذكره الشيخ -رحمه الله- في البيت الذي سمعناه آنفًا، أُنبه على أمرٍ يتعلق بالقاعدة السابقة المذكورة في الحلقة الماضية، وهو أني ذكرت حالتين، وهما:
- حالة ما إذا كان المقدور وسيلة محضة.
- وحالة ما إذا كان بنفسه لا يكون عبادة.
وهاتان الحالتان هما استثناءٌ من القاعدة، بمعنى أنَّ الأصل أنَّ الميسور لا يسقط بالمعسور، فيجب على المكلف أن يأتي بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه، إلا في هاتين الحالتين.
وأمَّا القاعدة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- فيما سمعناه آنفًا، فهي قاعدة: (ما ينشأ عن المأذون) ، ويعبر عنها بعض الفقهاء فيقولون: (ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون) ، والإذن يشمل الإذن من جهة الشارع، والإذن من جهة المالك، فمن فعل فعلاً مأذونًا له فيه شرعًا، أو مأذونًا له فيه من مالكه، فترتب على ذلك إتلاف؛ فلا ضمان عليه.
ومفهوم هذه القاعدة: أنَّ ما ترتب على غير المأذون فيه فهو مضمون.
أذكر أمثلة على ذلك:
المسألة الأولى: يسميها الفقهاء (مسألة السراية) المراد بالسراية: يعني الآثار الجانبية المترتبة على الجناية أو على الحد، عندما نقطع يد السارق قد يحصل عنده تسمم فيموت، وكذلك إذا جنى شخص على شخص فقطع يده جناية، فحصل له تسمم فمات.
فيقال حينئذ: إنه سرت الجناية إلى نفسه فمات، هذه تسمى سِراية، هذه السراية هل هي مضمونة؟ أو غير مضمونة؟
نطبق عليها القاعدة المتقدمة، فنقول: سِراية إقامة الحد لا تضمن؛ لأن الحد مأذون فيه -بل مأمور به- شرعًا، وبناء على ذلك إذا قطعت يد السارق وتقيَّد منفِّذ الحد بالأحكام الشرعية، فلم يتعدَّ في قطعه يدَ السارق حدود الشرع، فترتَّب على ذلك أن حصل عنده هلاك، أو شلل، أو ما أشبه ذلك؛ فلا ضمان على القاطع؛ لأن ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون، وإقامة الحد مأذون فيه شرعًا -بل مأمور به شرعا- فالإذن يشمل الإباحة ويشمل ما هو مشروع.
أما إذا كانت السراية سراية جناية، شخص جنى على شخص فقطع يده فسَرَت هذه الجناية إلى نفسه فمات؛ هل يضمن هذه السراية أو نقول ليس عليه إلا جريمة القطع؟
الجواب: يضمن السراية، وعليه القصاص إذا سرت الجناية إلى النفس فمات، وإذا سقط القصاص فعليه دية النفس؛ لأن ما ترتَّب على غير المأذون فهو مضمون، والجناية غير مأذون فيها شرعًا، فيكون ما ترتب عليها مضمونٌ.
من الأمثلة على ذلك -وهذا مثال مر معنا سابقًا: دفع الصائل، لو صال عليه بعير وهاج عليه، فإنه يدفعه بالأسهل فالأسهل، إذا لم يندفع هذا البعير الهائج إلا بقتله؛ هل يضمنه؟
لا يضمنه؛ لأنه مأذون له شرعًا في دفع الصائل، ما دام تدرَّج في الأسهل فالأسهل، وما ترتب على المأذون فيه فهو غير مضمون.
هذه بعض الأمثلة على القاعدة.
{أحسن الله إليكم، (
وَكُلُّ حُكْمٍ دَائِـرٍ مَـعْ عِلَّتِـهِ ... وَهْيَ الَّتِي قَدْ أَوْجَبَتْ لِشِرْعَتِهِ
) }
هذه القاعدة هي في الواقع من القواعد الأصوليَّة، وحديثنا في هذه القاعدة سيكون من خلال النص الفقهي لها، ثم المراد بالعلة والفرق بينها وبين الحكمة، ثم بيان المراد بالعلة التي تستلزم الحكم، ثم أذكر مسائل تدخل في القاعدة.
أما النَّص الفقهي للقاعدة فيقولون: (إنَّ الحكم يدور مع علته وجود وعدمًا) وهذا هو النص الفقهي للقاعدة والمعنى: أنه إذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا عُدمت العلة عُدم الحكم.
والعلة يُعرفها الأصوليون بقولهم: هي وصف ظاهر منضبط يصلح مناطًا للحكم.
ويفرقون بينها وبين الحكمة، لأن الحكمة هي مقصود الشارع من مشروعية الحكم.
ومن الأمثلة التي توضِّح الفرق بين الأمرين: السفر علة لجواز القصر وجواز الجمع، والحكمة في ذلك: هي وجود المشقة، الحكم يدور مع العلة أو مع الحكمة؟
الجواب: مع العلة، ولهذا لو سافر بالطائرة مثلًا، وقال: أنا لا أجد مشقة؛ جاز له أن يجمع ويقصر لوجود العلة، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ولا يدور مع الحكمة.
ومما يتعلق بهذه القاعدة: بيان المراد بالعلة التي تستلزم الحكم، ابن تيمية له كلام في هذه القضية بيَّن فيه أنَّ العلة تُستعمل استعمالات، ومن أبرز استعمالاتها:
الاستعمال الأول: العلة الموجبة، وتسمَّى العلة التَّامَّة، والمراد بها مجموع ما يستلزم الحكم من وجود جميع الأسباب والشروط وانتفاء جميع الموانع، والعلة بهذا المعنى إذا وجدت لا بد أن يوجد الحكم، فإذا حصلت هذه الأمور حصل الحكم ولا بد، فلا يمكن أن يتخلف.
المعني الثاني للعلة: وهو العلة المقتضية للحكم، وأن توقف الحكم على ثبوت شرط أو انتفاء مانع، وهذا النوع من العلة إذا عُدمت عُدم الحكم إن لم يكن للحكم علة أخرى سواها، فإذا عدمت عدم الحكم، لكن إذا وجدت لا يلزم أن يوجد الحكم حتى توجد الشروط وتنتفي الموانع، وهذا على ما تقدم تقريره في قاعدة سبقت.
مثال ذلك، نقول: السرقة علة للقطع، كما قال الله -عز وجل: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة/38]، والفقهاء يقولون: إن ترتيب الحكم على وصف، يدل على أنَّ هذا الوصف علة للحكم، فقوله: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ أي: لأنهما سرقا، إذا وجدت هذه العلة؛ فهل يلزم أن يقطع في جميع الأحوال؟
الجواب: لا بد من أن توجد الشروط وتنتفي الموانع، فلو فرضنا أنه سرق من غير حرز؛ فلا قطع، وهذا معنى قولنا: إن الإطلاق الثاني للعلة لا يلزم من وجودها وجود الحكم، إلا إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع مع العلة. فهذا بيان العلة التي تستلزم الحكم.
أمَّا الأمثلة على المسائل التي تدخل في هذه القاعدة فقد تضمَّن ضِمن كلامنا المتقدم شيءٌ من الأمثلة، مثل مسألة أن المشقة علة في بعض الأحكام، فإذا كانت المشقَّة علة لحكم معين فمتى وُجدت المشقة وُجد الحكم، فمثلًا الجمع بين الصلاتين لعذر المطر، يقول الفقهاء: إذا وجدت معه مشقة، ولهذا يقولون: إذا كان المطر يبل الثياب، يعني توجد معه مشقة، فلو كان المطر خفيفًا لا توجد معه مشقة؛ فلا يجوز الجمع حينئذٍ.
ومر معنا مسألة السفر، فالسفر علة لجواز القصر، فإذا وُجد السفر جازَ القصر، لو انقطع السفر كما لو أن المسافر أقام في بلد أكثر من أربعة أيام، وعند جمهور الفقهاء أن المسافر إذا أقام أكثر من أربعة أيام أخذَ حكم المقيم، بالتالي لا يجوز له أن يقصر، لأنه زالت العلة فزال الحكم، وهذا من أمثلة دوران الحكم مع العلة وجودًا وعدمًا.
{أحسن الله إليكم، قال -رحمه الله: (
وَكُلُّ شَرْطٍ لاَزمٌ لِلعَاقِدِ ... في البَيْعِ وَالنِّكاحِ والمَقَاصِدِ
إِلاَّ شُرُوطًا حَلَّلَت مُحرَّمًا ... أو عَكْسَهُ فَبَاطِلاَتٌ فَاْعلَمَا
) }
هذه القاعدة نصها الفقهي: أن الأصل في الشروط في العقود الصِّحة إلا ما أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا.
فإذا فرضنا أنه في عقد بيع أو عقد نكاح أو غيرهما من العقود، اشترط أحد المتعاقدين شروطًا، فالأصل في هذه الشروط هو الحل والإباحة، إلا إذا تضمَّنت تحليل محرم أو تحريم حلال. هذا هو النص الفقهي للقاعدة ومعناها.
والشروط في العقود نوعان:
النوع الأول: الشروط الصحيحة، وهي كل شرط اشترطه المتعاقدان لهما أو لأحدهما فيه مصلحة، وليس فيه محظور شرعي، فهذا الأصل فيه هو الصحة واللزوم، ويدخل في ذلك: الشروط في البيوع، والإيجارات، والرهون، والضمانات، والنكاح، وغيرها من بقية العقود.
النوع الثاني: الشروط الباطلة، مثل: الشروط التي تتضمن تحليل حرام أو تحريم حلال.
دليل هذه القاعدة: قوله ﷺ: «المسلمونَ على شروطِهم إلَّا شرطًا حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا» ، رواه الترمذي في سننه.
مثال ما أحلَّ حرامًا: بيع العينة، فهو يتضمن شرطًا يُتحايل به على الربا المحرَّم، وصفة بيع العينة أن يقول: أبيعك مؤجَّلًا بمائة بشرط أن تبيعنيه حالًّا بثمانين، فالسلعة سترجع إلى البائع، والمشتري سيقبض الثمانين ويصير في ذمته مائة، وهذا هو حقيقة الربا، أن الشخص يقبض مالًا ويؤخذ منه زيادة عليه والسلعة رجعت إلى بائعها، فهذا الشرط تضمَّن استباحة محرَّم وهو التحايل على الربا.
ومن أمثلة ما حرم حلالًا: أن يقول أبيعك بشرط ألا تبيعه، أو بشرط ألا تهبه، معلومٌ أن البيع إذا صحَّ ترتَّب عليه مِلك المشتري للسلعة، وله أن يتصرف فيها بأي وجه من أوجه التَّصرف المباح، ومن المباح أن يبيعَ أو يهب، فكون البائع يشترط عليه ويقول: أبيعك بشرط ألا تبيع، أو بشرط ألا تهب؛ فهذا شرط حرم حلالًا، فيكون شرطًا باطلًا ينافي مقتضى العقد كما قرر ذلك الفقهاء -رحمهم الله.
{أحسن الله إليكم، قال المؤلف -رحمه الله: (
تُسْتَعْمَلُ القُرْعَةُ عِنْدَ المُبهَمِ ...مِنَ الحُقُوقِ أَو لَدَى التَّزاحُمِ
) }
هذه القاعدة تتعلق بموضوع القرعة، والشيخ في هذا البيت من منظومته بيَّن مواضع استعمال القرعة شرعًا.
أولا سأذكر الدليل على استعمال القرعة الشرعية: ثبت في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين، «أنَّ رجلًا أعتقَ ستَّةَ مملوكينَ لَهُ عندَ موتِهِ لم يَكُن لَهُ مالٌ غيرَهُم، فدعاهم رسولُ اللَّهِ ﷺ فجزَّأَهُم أثلاثًا، ثمَّ أقرعَ بينَهُم فأعتقَ اثنينِ وأرَقَّ أربعةً» رواه مسلم، لأن التصرف في مرض الموت، أو الوصية بعد الموت لا تكون إلا في حدود الثلث، يعني التبرع والعتق والصدقة لا تكون إلا في حدود الثلث، النبي ﷺ أقرع بينهم، فدلَّ ذلك على أن القرعة وسيلة شرعية في مثل هذه الحال.
الشيخ -رحمه الله- ذكر لنا حالتين، قال:
تُسْتَعْمَلُ القُرْعَةُ عِنْدَ المُبهَمِ ... مِنَ الحُقُوقِ أَو لَدَى التَّزاحُمِ
محل استعمال القرعة من خلال ما ذكره الشيخ:
المحل الأول: إذا جُهل المستحق لحقٍّ من الحقوق، يعني علمنا أن هذا الحق استحقَّه شخصٌ لكن جهلنا عينه، ولا مزيَّة لأحدهما على الآخر؛ فحينئذ نلجأ إلى القرعة.
المحل الثاني: إذا حصل تزاحم في أمر من الأمور، ولا مرجِّح أحدهما على الآخر؛ نلجأ حينئذٍ أيضًا إلى القرآن.
أذكر مثالًا على التزاحم: إذا تشاح اثنان في الأذان، يعني خرجنا مثلًا إلى الصحراء للنزهة، فاثنان كلاهما يقول: أنا الذي سأؤذن، وكلاهما صالح للأذان؛ فيُقرع بينهما، ولهذا قلت: ولا مزية لأحدهما على الآخر.
مثال على جهل المستحق: إذا تنازع اثنان لقطة، بمعنى وُجدت لقطَة كلاهما يقول: أنا الذي التقطتها، ولا مزية لأحدهما على الآخر، واللقطة -كما هو معلوم- تعرف سنة ثم يجوز لملتقطها أن يتملَّكها بشرط ضمانها لمالكها إن جاء في يوم من الأيام، فتنازع هذان الاثنان في لقطة وجهلنا أيهما المستحق والملتقط؛ فيقرع بينهما.
مثال ثالث إذا طلَّق مبهمةً من نسائه، كأن يكون عنده زوجتان، فيقول: إحداكما طالق، يقول الفقهاء: إذا نوى بقلبه إحداهما تطلق المنوية، لكن إذا قال: أنا لم أنوِ، كأن يكون وضعه المادي لا يسمح بأنه يصرف على بيتين، وهو يقول: أريد أن أخلي إحدى الزوجتين، وليست إحداهما أرغب عندي من الأخرى، فقال: إحداكما طالق، ويقول: أنا لم أنوِ هذه ولا تلك، لكني أريد هذا المقصود.
ما العمل حينئذ؟ الطلاق لا بد أن يقع على إحداهما، فنلجأ إلى القرعة، فنقرع بينهما، فمن وقعت عليه القرعة فإنها تطلق حينئذٍ.
{أحسن الله إليكم، قال المؤلف -رحمه الله: (
وإِنْ تَسَاوى العَمَلانِ اجْتَمَعَا ... وَفُعِلَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَمِعَا
) }.
هذه القاعدة يسميها الفقهاء: (قاعدة التداخل) ، إذا اجتمع عملان هل يحصل بينهما تداخل أو لا؟
الشيخ -رحمه الله- في شرحه للمنظومة ذكر شرطين للتداخل، وسأزيدك شرطًا ثالثًا:
الشرط الأول: أن يكون العملان من جنس واحد.
مثال ذلك: اجتمعت صلاتان، كأن دخل المسجد قبيل صلاة الفجر، فاجتمع عنده الآن مشروعية تحية المسجد ومشروعية راتبة الفجر، وهما جنس واحد كلاهما صلاة، فيتداخلان ويصلي بنية الراتبة، وتجزئ عن تحية المسجد.
الشرط الثاني: أن تكون أفعالهما متفقة، وهذا يُخرج مَن دخل المسجد فكبَّر لصلاة الجنازة، هل تجزئه عن تحية المسجد؟
الجواب: لا تجزئه؛ لأن الأفعال مختلفة، الجنس واحد وكلاهما صلاة، لكن الأفعال مختلفة.
الشرط الثالث: أن تكون الأمور المتداخلة غير مقصودة في نفسها جميعًا، وذلك بأن يكون أحدهما مقصودًا والآخر غير مقصود، أو كلاهما غير مقصود، فهنا يحصل التداخل، أما إذا كان كلاهما مقصود فلا تداخل حينئذٍ.
مثال ما كان أحدهما مقصودًا: ما ذكرته سابقًا، وهو ما إذا دخل المسجد وصلَّى راتبة الفجر وهي مقصودة، أجزأت عن تحية المسجد، فتحية المسجد ليست مقصودة في ذاتها، المقصود هو ألا يجلس حتى يصلي ركعتين، فتُجزئ راتبة الفجر عن تحية المسجد؛ لأن تحية المسجد غير مقصودة.
كذلك إذا كانتا كلاهما غير مقصودتين، أيضا يجزئ أحدهما عن الآخر، مثال ذلك: دخل المسجد بعد أن توضأ، يُشرع له سنة الوضوء ركعتين، وتحية المسجد ركعتين، فإذا صلى ركعتين، فتجزئ عن الثنتين؛ لأن كل منهما غير مقصودة، المقصود هو أن يصلي إذا دخل المسجد أو أن يصلي إذا توضأ.
هذا بخلاف ما إذا كانت كلا الصلاتين مقصودة، مثال ذلك: جمع المغرب والعشاء وهو مريض، اجتمع في حقه الآن راتبتان: راتبة المغرب ركعتان، وراتبة العشاء ركعتان، فلا تتداخلان؛ لأن كلا منهما مقصودة لذاتها.
وبهذا تتبين شروط القاعدة، وقد تضمَّن ذكر هذه الشروط أيضًا بعض الفروع المترتِّبة عليها.
{أحسن الله إليكم، قال -رحمه الله: (
وَكُلُّ مَشْغُولٍ فَلاَ يُشَغَّلُ... مِثَالُهُ المَرْهُونُ والمُسَبّل
) }.
هذه القاعدة يعبر عنها الفقهاء فيقولون: (المشغول لا يشغل) ، فهذا هو التعبير أو النص الفقهي للقاعدة.
ومعناها: أن الشيء إذا اشتغل بشيء لم يشغل بغيره حتى يفرغ من هذا المشغول.
من الأمثلة على ذلك: العين المرهونة مشغولة بالرهن، ولهذا يقول الفقهاء: لا يجوز بيع الرهن ولا تجوز هبته، لأن العين المرهونة مشغولة بعقد الرهن، إذا انفك الرهن جازَ لمالك العين المرهونة أن يبيعها أو أن يهبها، لأن الشغل زالَ بانفكاك الرهن.
من الأمثلة على ذلك: الموقوف، ولهذا الشيخ قال: (مِثَالُهُ المَرْهُونُ والمُسَبّل) ، مراده بالمسبل: يعني الموقوف.
ولهذا يقرر الفقهاء أن العين الموقوفة لا يجوز بيعها ولا يجوز هبتها، ولا يجوز رهنها؛ لأنها مشتغلة بكونها وقفًا.
من الفروع التي ذكرها الفقهاء في كتاب الروض المربع، ذكر فرعًا وهو مسألة الزيادة في الدين الذي به رهن، قال: إذا رهن عبدًا بمئة، لم يصح جعله رهنًا بخمسين مع المئة ولو كان يساوي ذلك، وعلَّل ذلك بقوله: "لأن الرهن اشتغل بالمئة الأولى والمشغول لا يشغل". يعني هو عليه دينا بمئة ألف، رهن سيارة عند الدائن، لزمه لهذا الدائن خمسين أخرى، هل له أن يقول السيارة التي جعلتها عندك رهن بالخمسين أيضًا؟
الجواب: لا يصح؛ لأن الرهن هذا شُغِل بالدين الأول، والمشغول لا يُشغل.
ولهذا في الروض يقول: حتى لو كانت السيارة تساوي مئة وخمسين، لأن المشغول لا يشغل.
{أحسن الله إليكم، قال -رحه الله: (
وَمَنْ يُؤَدِّ عَنْ أَخِيهِ وَاجِبًا ... لَهُ الرُّجُوعُ إِنْ نَوَى يُطالِبَا
) }.
هذه القاعدة يعبر عنها بعض الفقهاء بقولهم: كلُّ مَن أدَّى عن غيره دَينًا واجبًا عليه ونوى الرجوع، فإنه له أن يرجع، بشرط أن يكون هذا الواجب لا يحتاج إلى نية.
وبناء على ذلك فمَن أدَّى عن غيره دينًا واجبًا هل له أن يرجع عليه فيطالبه بما أداه عنه؟
نقول: نعم له أن يرجع بشرطين:
الشرط الأول: أن ينوي حين الأداء الرجوع على المؤدَّى عنه ومطالبته.
الشرط الثاني: ألا يحتاج هذا الأمر إلى نية.
فإذا اختلَّ الشرط الأول كأن أدَّى عن غيره دينًا، سمعت مثل أن زيدًا من الناس عليه دين بمقدار خمسين ألفًا، فذهبتُ إلى الدائن وأعطيته خمسين ألفًا ولم أنوِ الرجوع على المدين، كأن نويت التبرع مثلا أو لم أنوِ شيئًا؛ فليس لي أن أرجع عليه، لأنه لم يوكلني ولم يأذن لي في سداد الدين، ولم أنوِ أنا الرجوع عليه، وإن كنت متبرعًا فتبرعات لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض، أما إذا نويت الرجوع فلي أن أرجع، لكن لا بد من الشرط الثاني وهو أن يكون لا يحتاج إلى نية.
مثال ما يحتاج إلى نية: الزكاة، علمت أن زيدًا من الناس عليه زكاة لم يؤديها، قدرها عشرة آلاف ريالًا، فذهبتُ ودفعتُ عشرة آلا ريالًا بنية أنها الزكاة التي على زيد، ونويت أن أرجع عليه؛ فهل لي أن أرجع عليه؟
الجواب: لا يجوز، لأن الزكاة تحتاج إلى نية من المكلف، وهو لم يعلم حتى ينوي.
طبعًا القاعدة هذه في أصلها هي في حال ما إذا أدى عن غيره دينًا واجبًا من غير أن يستأذنه، لأنه لو استأذنه لكان بمثابة الوكيل، وحينئذٍ لا إشكال في جواز الرجوع، فالقاعدة المفروضة في حالة ما إذا لم يستأذنه، كما انه مفروضة في حالة ما إذا كان هذا الدين واجبًا، ولو كان غير واجب فليس له الرجوع، إذا كان لم يستأذنه والدين واجب ووجد الشرطان المتقدمان وهما: نية الرجوع على المؤدى عنه، وكون الدين مما لا يحتاج إلى نية؛ فحينئذٍ له أن يرجع عليه ويطالبه.
{أحسن الله إليكم، قال المؤلف -رحمه الله: (
والوَازِعُ الطَّبْعِي عَنِ العِصْيَانِ... كَالوَازِعِ الشَّرْعِي بِلاَ نُكْرَانِ
) }.
هذا البيت الذي ذكره المصنف -رحمه الله- يقصد به أن الوازع الطَّبعي كالوازع الشَّرعي، بمعنى أنه يُكتفى بالوازع الطَّبعي إذا كان موجودًا فلا نحتاج إلى زاجر شرعي مع وجود الوازع الطبعي، والشيخ في شرحه ذكر أمثلة على هذا، يبينها أن المحرمات على نوعين:
النوع الأول: محرمات تميل إليها النفوس وتشتهيها، وهذه جعل الشرع في مقارفتها عقوبات مناسبة لتلك الجناية، خِفةً وثِقلًا، فجعلَ فيها وازعًا شرعيًّا، والمراد بالوازع: يعني الرادع الذي يردع عن الوقوع فيها.
مثال ذلك: الزنا، فهو شهوة تحبها النفوس، الخمر أيضا يشتهيها متعاطوها، فجعل الشرع في الزنا حدًّا وفي شرب الخمر حدًّا.
النوع الثاني من المحرمات: يوجد زاجر فيها طبيعي عند الإنسان، بحيث إن النفوس السويَّة تنفر منها بدافع الطبيعة، هنا لا يتحدث عن دافع الإيمان والتقوى، لأن دافع والتقوى قد يزجر حتى عن الزنا وعن جميع المحرمات، لكن أتكلم عن الزاجر الطبيعي الذي هو من جبلة الإنسان، من هذه المحرمات مثلًا: أكل النجاسات، فأكل النجاسات محرم كما أن شرب الخمر محرم، لكننا نجد أن الشرع جعل في شرب الخمر حدًّا فجعل فيها وازع شرعي يردع عن مقارفة شرب الخمر، بينما أكل النجاسات ليس فيه حد، وكذلك تعاطي السموم وشربها ليس فيه حدود، وهذا اكتفاء بالوازع الطبعي لأن النفوس تنفر عن تعاطي مثل هذه الأشياء، لكن لو حصل تعاطيها، هل يعاقب متعاطيها؟ نعم يعاقب، لكن تعزيرًا، فالشرع لم يجعل فيها حدًّا، فلو فرض أن شخصًا يتعاطى محرَّمات تنفر عنها الطبائع كسموم أو نجاسات أو غيرها، فإنه يعزر على تعاطيها كما يعزر على سائر المعاصي التي لم يرتب عليها عقوبة.
{قال -رحمه الله: (
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّمــــــــَامِ ... فِي الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ وَالـــدَّوَامِ
ثُمَّ الصَّلَاةُ مَـــعَ سَلَامٍ شَائِعِ ... عَلَى النَّبِيِّ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِ
) }.
الشيخ -رحمه الله- ختم منظومته المباركة كما بدأها، وقد بدأها -رحمه الله- بحمد الله وختمها بحمد الله، وقد تقدَّم أن الله -عز وجل- محمود أولًا وآخرًا، فكلُّ ما تضمَّنته هذه المنظومة، وكلُّ ما أنعم الله به على عباده من علوم الشريعة، وما أنزله من الكتاب والحكمة، هو نعمة من أجلِّ النِّعم وأعظمها، ولهذا مرَّ معنا في مطلع الكلام على هذه المنظومة أن نِعمَ الله لا تحصى وأن أعظم هذه النِّعم هي إنزال الكتاب والحكمة، وما شرعه الله -عز وجل- لعباده من الشرائع التي بها مصالحهم في الدنيا والآخرة، ولهذا ختم الشيخ -رحمه الله- منظومته بحمد الله -عز وجل- على إتمامها كما بدأ ذلك حصل الختم، ولهذا قال:
(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّمَامِ ... فِي الْبَدْءِ وَالْخِتامِ وَالدَّوَامِ)
فنحن نحمد الله -عز وجل- على إتمام شرح هذه المنظومة، كما نحمده -جل وعلا- كما حمدناه عند البدء في شرحها، وكما نحمده -جل وعلا- في دوام أمورنا وشؤوننا ثم نصلي ونسلم على نبينا ﷺ- الذي بلغنا شرع ربنا وكان ﷺ- حريصًا أمته: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة:128]، وهذه الشريعة الكاملة التي فيها الرحمة بالعباد، وفيها المصالح العظيمة في الدنيا وفي المعاد هي من الله -عز وجل- إنعامًا، ووصلتنا على يدي النبي الكريم بلاغًا، فله -جل وعلا- الشكر والإقرار بالنعم وعلى نبيه ﷺ، وعلى أصحابه الغر الميامين الذين بلغونا الشريعة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
هذه المنظومة ذكر بعض مَن حققها أنَّ الشيخ كتب في مطلعها بخطه عبارة أذكرها في ختام شرح هذه المنظومة، قال: "قد علقناها في أول بدايتنا بالتصنيف، أبياتُها فيها خللٌ، ربما نتمكَّنُ من إصلاحهِ"، وهذا يفيدنا أن هذه المنظومة على ما تضمَّنته من معانٍ عظيمة نظمها الشيخ في بداية عهده بالتَّصنيف، وقد قُدِّر ذلك بحسب ما بان أنه كان في سنِّ الرابعة والعشرين من عمره -رحمه الله-، لهذا يوجد فيها بعض الخَللِ في النَّظم، لكن العبرة بالمعاني العظيمة التي تضمنتها هذه المنظومة.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وجزاكم عنا خير الجزاء.
والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين على متابعتكم لنا في هذه الحلقات، على أمل اللقاء بكم في برامج أخرى، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13365 5