الدرس الأول
فضيلة الشيخ د. عبدالله بن صالح الكنهل
إحصائية السلسلة
بسم الله الرحمن الرحيم.
{الحمد لله العلي الأرفقِ، وجامع الأشياء والمفرق، للنعم الواسعة الغزيرة، والحكم الباهرة الكثيرة، ثم الصلاة مع سلام دائم، على النبي القرشي الخاتم.
أهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نبدأ فيه بمتن جديد، ألا وهو (منظومة القواعد الفقهية) للشيخ العلامة/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المتوفى سنة ألف وثلاثمائة وست وسبعين هجرية، يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ عبد الله بن صالح الكنهل، أهلاً وسهلاً بفضيلة الشيخ}.
حياكم الله وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المستمعين جميعًا.
{شيخنا أحسن الله إليكم، لو بينتم لنا فوائد علم القواعد الفقهية}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعد، فمما ينبغي لدارس القواعد أن يتفطن إليه في بداية دراسته للقواعد، ما تتعلق بفوائد دراسة هذه القواعد؛ لأنَّ إدراك هذه الفوائد من شأنه أن يحمله على الجِدِّ في طلبها، والتزود منها، ولهذا كان من المناسب قبل الشروع في شرح ما ذكره الشيخ -رحمه الله- من قواعد، أن أشير إلى بعض فوائد دراسة القواعد، وإن كان الشيخ -رحمه الله- سيشير إلى شيء منها في منظومته -كما سيأتينا إن شاء الله- لاحقًا.
من هذه الفوائد: أنَّ دراسة القواعد تُمَكِّنْ طالب العلم من الإحاطة بجملة من الفروع، دون حفظ جزئياتها، بل بمعرفة الكليات التي ترجع إليها تلك الفروع.
معلوم أنَّ الفقه علم واسع، وهو من أوسع العلوم؛ لأنه يتناول أفعال المكلفين، ومن ثم كانت الإحاطة بفروع علم الفقه من الصعوبة بمكان، جاءت هذه القواعد الفقهية لتيسر لطلاب العلم الإحاطة بجملة من الفروع، من خلال معرفة الكليات والقواعد التي تَرجع إليها تلك الفروع، فإن عجزوا عن الإحاطة بالفروع بأفرادها فإنهم يتمكنون -بإذن الله- من الإحاطة بتلك الفروع من خلال القواعد والكليات.
فائدة ثانية: وهي أنَّ من الملكات التي يحتاج إليها الفقيه، أن يوجد عنده ملكة معرفة الجمع بين المتشابهات والنظائر، والتفريق بين المختلفات؛ لأنَّ بعض الفروع تتشابه في حكمها، وبعضها قد تتشابه في صورتها، لكن الحكم يكون مختلفًا لكل منها.
وهذه الملكة وهي -ملكة جمع بين المتشابهات والنظائر والتفريق بين المختلفات- يستفيدها طالب العلم من خلال دراسة القواعد وعلم الفروق الفقهية، وهي ملكة ضرورية للفقيه.
الفائدة الثالثة: وهي أنَّ الفقيه قد يحتاج إليه في الفتوى، والناس تنزل بهم نوازل، بمعنى: مسائل جديدة لم يتكلم عنها الفقهاء السابقون، فتحتاج إلى بيان أحكامها الشرعية، من أهم فوائد القواعد الفقهية: أنها تُمكن طالب العلم من الفتوى؛ لأنَّ الفتوى هي تنزيل للحكم الشرعي على واقعة مُعينة، فمعرفة القواعد الفقهية تُمكن طالب العلم من الفتوى في المسائل الجديدة، وتمكن أيضًا من إدراك الحكم الشرعي لِمَا يحصل من نوازل، وبيان ذلك بخلاصة الكلام على قضية يتناولها المؤلفون في القواعد الفقهية بشكل عام. وهي قضية هل يصح الاستدلال بالقاعدة الفقهية أو لا؟
خلاصة الكلام في هذه القضية: أنَّ القاعدة الفقهية لها حالتان:
الحالة الأولى: أن تكون مُستندة إلى نص شرعي من كتاب أو من سنة، وحينئذ تكون هذه القاعدة حُجة لكن ليس لكونها قاعدة فقهية، وإنما لاعتمادها على دليل النقل.
مثال ذلك: عندما نَذكر مسألة فقهية، ونقول في تعليلها: لأنَّ الأمور بمقاصدها، والواقع أنَّ هذه القاعدة تستند -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- إلى قوله ﷺ: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ مَا نَوَى» فيستقيم.
وبناءً على ذلك جعلوا القاعدة الفقهية دليلاً؛ لأنَّ التعليل هو دليل، فالدليل قد يكون نصًا من كتاب أو سنة أو قول صحابي، وقد يكون دليلاً عقليًا وهو التعليل، فيمكن أن يُعَلل بالقواعد في مثل هذا النوع من القواعد.
أمر آخر، وهو أنه إذا لم يوجد نص شرعي في الحكم على النوازل، فإنَّ الاستناد إلى القاعدة الفقهية في إلحاق هذه النازلة بنظائرها، مما دلت الأدلة الشرعية على حكمه، هذا نوع من أنواع الاستدلال الصحيح، إذا لم يعارض ذلك ما هو أقوى منه.
هذه أبرز ما يبين أهمية دراسة القواعد.
{شيخنا أحسن الله إليكم، لو بينتم لنا منهجكم في شرح هذه المنظومة}.
هذا أيضًا موضوع مهم، لا بد للمستمعين الكرام أن يعرفوا منهجي وطريقتي في شرح هذه المنظومة؛ لأنَّ معرفة طريقة الكاتب إذا كنت تقرأ كتابا، أو المدرس إذا كنت تحضر درسًا أو تستمع إليه، هذا يفيدك كثيرًا، ومنهجي ممكن ألخصه في خمس نقاط:
الأمر الأول: الاعتناء بذكر النص الفقهي للقاعدة، ويكون ما في النظم تذكرة به؛ لأنَّ النظم لحاجته إلى الوزن والقافية قد يُدخل في القاعدة ألفاظًا لا تدل على المقصود دلالة دقيقة، فأنا سأذكر النص الفقهي الذي اعتمده الفقهاء للقاعدة، وقد يكون موافقًا لِمَا جاء في النظم، وقد يكون فيه نوع من الاختلاف، وأجعل الشرح منصبًا على النص الفقهي، ويكون ما في النظم تذكرة بهذا النص.
الأمر الثاني: وهو ذكر الشروط للقاعدة، والقيود المعتبرة لها إن وجدت، فبعض القواعد لها شروط، يعني: حتى تطبق تلك القاعدة لابد أن تتوافر شروط معتبرة شرعًا، فإن وجدت هذه الشروط، وهذه توجد في بعض القواعد دون بعض، فإني أذكرها، وقد تكون هذه الشروط مُضمنة في النص الفقهي للقاعدة، بمعنى أنَّ بعض القواعد من خلال القيود الواردة في نصها الفقهي، يستطيع الفقيه أن يستنبط من هذا النص الفقهي شروط تطبيق هذه القاعدة.
الأمر الثالث: وهو بيان معنى القاعدة، وما يحتاج إلى توضيح من ألفاظها.
الأمر الرابع: وهو ذكر دليل القاعدة -إن وجد-.
الأمر الخامس: وهو التفريع على القاعدة، مع بيان وجه ارتباط الفرع بالقاعدة عند الحاجة، وهذا من أهم ما يكون؛ لأنَّ القواعد هذه ليست قواعد نظرية، بل هي قواعد لها فروع عملية، فيحتاج -الفقيه أو المتفقه أو طالب الفقه- أن يعرف بعض هذه الفروع.
أحيانًا يكون وجه ارتباط الفرع بالقاعدة واضحًا، وفي تلك الحالة لا حاجة لبيان وجه ارتباط الفرع بالقاعدة. ولكن إن كان غير واضح، فإني أُبين ذلك -إن شاء الله تعالى-.
هذه الأمور الخمسة قد توجد كلها في بعض القواعد، وقد يوجد بعضها في قواعد أخرى حسب ما يقتضيه المقام، وعلى كل حال، في كل قاعدة سأذكر غالبًا في بداية الكلام عليها عناصر الكلام فيها قبل الشروع في توضيحها.
{شيخنا أحسن الله إليكم. لو بينتم ما تتضمنه هذه المنظومة من أنواع القواعد}.
القواعد كما يقول العلماء نوعان: قواعد فقهية، وقواعد أصولية. هل ما تضمنته هذه المنظومة من النوع الأول أو من النوع الثاني؟
الجواب: تضمنت المنظومة قواعدَ من النوع الأول، وقواعدَ من النوع الثاني، لكن الغالب عليها هو القواعد الفقهية.
فمثلا القواعد: (الأمور بمقاصده) ، (المشقة تجلب التيسير) ، (اليقين لا يزول بالشك) وقد أوردها الشيخ بألفاظ أخرى حسب النظم، كلها تندرج تحت: "القواعد الفقهية"، وأمَّا القواعد: (المصلحة، ورعاية الشريعة للمصالح) ، (دلالة النهي على الفساد) ، (ألفاظ العموم) ، وقد أوردها الشيخ أيضًا في منظومته، تعد من قبيل القواعد الأصولية.
{أحسن الله إليكم.
نستأذنكم في البدء بالمنظومة.
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولمشايخنا، وللمسلمين، قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: بسم الله الرحمن الرحيم.
(الحمدُ للهِ العليِّ الأَرْفَقِ ... وجامعِ الأشياءِ والمُفرِّقِ
ذي النِّعمِ الواسعةِ الغزيرةْ ... والحِكمِ الباهرةِ الكثيرةْ
ثم الصلاةُ معْ سلامٍ دائمِ ... على الرسولِ القرشيِّ الخاتَمِ
وآله وصحبِه الأبرارِ ... الحائزين مراتبَ الفَخَارِ
اعلمْ هُديتَ أنّ أفضلَ الْمِنَنْ ... علمٌ يُزيلُ الشكَّ عنك والدَّرَنْ
ويَكشِفُ الحقَّ لذي القلوبِ ... ويُوصِلُ العبدَ إلى المطلوبِ
) }.
الشيخ -رحمه الله- بدأ بحمد الله تعالى والثناء عليه، والحمد والثناء على الله -عز وجل- بصفات كماله، وسابغِ إنعامه، وسعةِ جوده، وبديعِ حكمته، ثم إنَّ الشيخ بعد ذلك قال: (العليِّ الأَرْفَقِ) والعلي من أسماء تعالى، وهو -جل وعلا- له العلو التام المطلق من جميع الوجوه، والعلماء يذكرون أنَّ العلو: علو ذات، وعلو قدر، وعلو قهر، وكل ذلك داخل في اتصافه -جل وعلا- بالعلو.
الأرفق يعني: الرفيق -جل وعلا- في أفعاله، أفعاله رِفْقٌ جاريةٌ على رعاية مصالح العباد، وعلى الحكم العظيمة الباهرة، وقد جاء في حديث عن النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ».
ثم قال الشيخ: (وجامعِ الأشياءِ والمُفرِّقِ) وهذا إشارة إلى ما تقدمت الإشارة إليه أنَّ القواعد تُعنى ببيان ما يجمع الفروع المتعددة، فالقاعدة تجمع فروعًا مُتعددة، كما أنه في كثير من كتب القواعد يذكرون أيضًا الفروق بين المسائل المتشابهة، والشيخ -رحمه الله- أشار بهذه العبارة إلى هذا المعنى.
قوله: (ذي النِّعمِ الواسعةِ الغزيرةْ ... والحِكمِ الباهرةِ الكثيرةْ) .
الله -عز وجل- له النعمة السابغة والحكمة البالغة، ومن أعظم نعمه -جل وعلا- أن امتنَّ على عباده بإنزال الكتاب والحكمة، وعلَّمهم ما لم يكونوا يعلمون، فهذه الشريعة وما تضمنته من أحكام وحكم، هي من نعم الله -عز وجل- العظيمة على العباد، وهي في الوقت نفسه مُتضمنة دلالات عظيمة على حكمة الباري -جل وعلا- فيما شَرَعَه لعباده، حيث شَرَعَ هذه الأحكام لمصالح العباد في الدنيا والآخرة.
ثم إنَّ الشيخ -رحمه الله- صلَّى على النبي ﷺ، فقال: (ثم الصلاةُ معْ سلامٍ دائمِ ... على الرسولِ القرشيِّ الخاتَمِ) ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأبرار، والآل يراد بهم اتباع النبي ﷺ على دينه إلى يوم القيامة، ويدخل الصحابة في الآل بناء على هذا المعنى، وبذلك يكون عطف الصحابة على الآل كما جاء في عبارة الشيخ من قبيل عطف الخاص على العام، وعطف الخاص على العام له مقاصد، من أهم مقاصده بيان شرف الخاص، فعطف الخاص على العام بيانٌ لشرف الخاص وعلو منزلته، كقوله سبحانه: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:98]، وجبريل وميكال من الملائكة، لكن عَطْفهم على الملائكة لعلو منزلتهم بين الملائكة، وهكذا الصحابة -رضي الله عنهم- فهم من آل النبي ﷺ ومن أتباعه على دينه، ولكن لَمَّا كان لهم من المنزلة ما ليس لغيرهم؛ ناسب أن يعطف ذكرهم والصلاة عليهم على الصلاة على آل النبي ﷺ.
الصلاة معناها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى، كما جاء تفسير ذلك عن أبي العالية وغيره، ففيها الدعاء بحصول الخير للمصلى عليه، وَقَرْنُها بالسلام؛ لأنَّ السلام فيه دفع الشر والآفات، فإذا قُرِنَتْ الصلاة بالسلام تضمنت الدعاء بالخير جلبًا له، والشر دفعًا له عن المصلى عليه دعاء له.
قال الشيخ: (اعلمْ هُديتَ أنّ أفضلَ الْمِنَنْ ... علمٌ يُزيلُ الشكَّ عنك والدَّرَنْ)
الشيخ -رحمه الله- فيما مضي بَيَّنَ أنَّ لله -عز وجل- على عباده نِعَمٌ باهرة وعظيمة، كما أنَّ له حِكَمًا عظيمة في تشريعاته، ومن أعظم هذه النعم نعمة العلم الشرعي، ولهذا ذكرها هنا في هذا البيت، فقال: (اعلمْ هُديتَ أنّ أفضلَ الْمِنَنْ ... علمٌ يُزيلُ الشكَّ عنك والدَّرَنْ) .
من الأدلة على فضل العلم قول الله -عز وجل-: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ﴾ [البقرة:231]، والمفرد المضاف ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ يفيد ماذا؟ يفيد العموم، وعلى هذا فقوله سبحانه: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ يشمل جميع النعم، النعم الدينية والدنيوية، النعم على العباد في أبدانهم، وفي أديانهم، وفي سائر شؤونهم، لكن الله -عز وجل- عطف عليها ﴿وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾ يعني: واذكروا هذه النعمة العظيمة، وهذا مثلما ذكرت لك من قبيل عطف الخاص على العام، وقد أشرت قبل قليل إلى أن فائدته علو مرتبة الخاص، فنعمة إنزال الكتاب، ونعمة تعليم الناس الكتاب والحكمة هي من أعظم النعم، ولهذا قال الشيخ -رحمه الله-: (اعلمْ هُديتَ أنّ أفضلَ الْمِنَنْ ... علمٌ يُزيلُ الشكَّ عنك والدَّرَنْ) .
قوله -رحمه الله-: (يُزيلُ الشكَّ عنك والدَّرَنْ) هذا هو بيان لفائدة هذا العلم، فهذا العلم له فائدتان عظيمتان، وهما أنه يزيل عن القلب شيئين:
الشيء الأول: فتنة الشبهات، والشيء الثاني: فتنة الشهوات، فهو يزيل عن القلب الفتنتين، وهما نوعا الفتنة التي قد يتعرض لها العباد. فالشبهات تورث الشك، والشهوات تورث مرض القلب، ودرنه، وقسوته، والعلم يُزيل الشك فتندفع فتنة الشبهات، ويُزيل الدرن والمرض، فتندفع فتنة الشهوات.
مقابل هذين الأمرين، وهما: دفع فتنة الشبهات، وفتنة الشهوات يحصل للعبد بالعلم شيئان عظيمان:
الأول منهما: إذا اندفعت عنه فتنة الشبهات؛ حصل له اليقين، وإذا اندفعت عنه فتنة الشهوات حصل له الصبر، فالصبر تُدفع به فتنة الشهوات، واليقين تدفع به فتنة الشبهات، ولهذا قال الله -جل وعلا- جامعًا بين هاتين الصفتين: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:24].
قال -رحمه الله-: {(
وَيَكْشِفُ الحقَّ لِذِي القُلُوبِ ... وَيُوصِلُ العَبْدَ إِلى المطْلُوبِ
فَاحْرِصْ على فَهْمِكَ للقَواعِدِ ... جَامِعَةِ المَسَائِلِ الشَّوارِدِ
لِتَرْتَقِي في العِلْمِ خَيْرَ مُرتَقَى ... وتَقْتَفِي سُبْلَ الَّذِي قَدْ وُفِّقَا
وَهَذِهِ قَواعِدٌ نَظَمْتُها ... مِنْ كُتْبِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ حَصَّلْتُها
جَزاهُمُ المَوْلَى عَظِيمَ الأَجْرِ ... وَالْعَفْوَ مَعْ غُفْرانِهِ وَالْبِرِّ
) }.
الشيخ -رحمه الله- هنا حضَّ طالب العلم على فهم القواعد، وأشار هنا إلى شيء من فوائدها، وقد سبقت الإشارة في مُقدمة حديثي إلى شيء من هذه الفوائد، التي أشار الشيخ -رحمه الله- هنا إلى شيء منها.
فالشيخ بَيَّنَ بعض فوائد معرفة القواعد، وَبَيَّنَ أنها محصلة من كتب أهل العلم، وهذا شأن القواعد، وهي قواعد متداولة متكررة عند الفقهاء، ويتداولها الفقهاء فيما بينهم، وهذا يعطيها أصالة وثقة، فليست من أفكار فقيه واحد، وإنما درج عليها الفقهاء، وتناقلوها واعتمدوها، وهذا يعطيها قوة ومتانة.
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: {(
والنية شَرْطٌ لِسَائِر الْعَمَلْ ... بِهَا الصَّلاحُ وَالفَسَادُ لِلْعَمَلْ
الدِّينُ مَبْنِيٌّ عَلَى المَصالِحِ ... في جَلْبِهَا وَالدَّرْءِ لِلْقَبائِحِ
) }
بدأ الشيخ في صلب الأمر، وذلك بعد المقدمة التي تقدم بها، فكل ما تقدم يمكن أن نعده بمثابة مقدمة لهذه المنظومة، وما سيأتي هو صلب تلك القواعد.
قوله: (والنية شَرْطٌ لِسَائِر الْعَمَلْ ... بِهَا الصَّلاحُ وَالفَسَادُ لِلْعَمَلْ)
هذا إشارة إلى القاعدة الأولى من القواعد الكلية الكبرى، وسيكون الحديث في هذه القاعدة من خلال العناصر التالية -كما وعدتكم-، فأنا ذكرت لكم أني في بداية كل قاعدة سأذكر عناصر الحديث في هذه القاعدة، وهي:
العنصر الأول: النص الفقهي للقاعدة.
العنصر الثاني: أهمية القاعدة ومنزلتها.
العنصر الثالث: المراد بالنية ومراتبها.
العنصر الرابع: الدليل والقاعدة.
العنصر الخامس: التفريع عليها.
العصر السادس: ما يحتاج إلى نية من التكاليف.
هذه العناصر الستة هي عناصر الحديث عن القاعدة الأولى.
أمَّا النص الفقهي للقاعدة، فالفقهاء يقولون: (الأمور بمقاصده) ، وهذه من القواعد الكلية الكبرى، بل عادة يُصدر بها الفقهاء القواعد الكلية الكبرى.
النقطة الثانية، أهمية القاعدة: القاعدة كما أشرت هي قاعدة كلية كبرى، وأهميتها أنها من القواعد المهمة التي تدخل في جميع أبواب الفقه، ولهذا قال الشيخ -رحمه الله- في شرحه للقواعد: "وهذه القاعدة أنفع القواعد وأجلها"، الشيخ بالمناسبة له شرحٌ لهذه المنظومة، كما أنَّ له كتابًا في القواعد، وهو: "القواعد والأصول الجامعة"، وفي الشرح فوائد تتعلق بالقواعد المذكورة في المنظومة، كما أنَّ في كتابه الآخر، وهو: "القواعد والأصول الجامعة" فوائد زوائد تتعلق بهذه القواعد، فمن طالع شرحه وكتابه الآخر، استفاد كثيرًا في فهمه لهذه المنظومة، ولعلي أشير إلى أبرز ما ذكره سواء في شرحه لهذه المنظومة أو في كتابه الآخر، المخصص في القواعد الفقهية.
ففي شرحه للمنظومة ذكر أنَّ هذه القاعدة أنفع القواعد وأجلها، وأنها تدخل في جميع أبواب العلم؛ لأنَّ صلاح الأعمال سواء كانت بدنية أو مالية يترتب على أعمال القلوب، والجوارح إنما تستقيم بما في القلب من النيات، وفساد هذه الأعمال بفساد ما في القلب، ولهذا إذا صلحت النية، صلحت الأقوال والأعمال، وإذا فسدت النية، فسدت الأقوال والأعمال، كما قال النبي ﷺ: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ مَا نَوَى». هذه إشارة إلى أهمية القاعدة.
النقطة الثالثة، وهي المراد بالنية: عندما نقول: الأعمال بالنيات. أو نقول: "الأمور بمقاصدها"؛ لأنَّ المقاصد بمعنى النيات. النية تطلق على أمرين:
تطلق على نية نفس العمل، يعني: قصد ذات العمل، وهذا الإطلاق هو الذي يذكره الفقهاء غالبًا.
وتطلق النية أيضًا على معنى آخر، وهو نية المعمول له، بمعنى أن يكون العمل خالصًا لله تعالى، وهذا ما يُسمى بالإخلاص.
والنية تطلق بالمعنى الأول، وتطلق بالمعنى الثاني، وغالب الفقهاء عندما يُطلقون النية ويذكرونها كشرط في صحة الصلاة مثلا، أو الوضوء أو ما أشبه ذلك، يريدون المعنى الأول، وهو: نية نفس وذات العمل.
هذان الإطلاقان موجودان عند الفقهاء عمومًا، لكن كما ذكرت أن الإطلاق الأول هو الأكثر استعمالاً عند الفقهاء، إذا ذكروا النية ضمن شروط العبادة ونحوها.
ذكر الشيخ -رحمه الله- في شرحه مراتب النية، وبيَّن أنَّ النية لها مرتبتان:
المرتبة الأولى: تمييز العادة عن العبادة.
فمثلا الصوم في اللغة بمعنى الإمساك، والشخص قد يمسك عن الطعام والشراب لا بنية التعبد، وإنما لغرض من الأغراض، كوصية صحية مثلا، لكونه مريضًا مرضًا يحتاج منه أنه يمتنع عن الطعام والشراب، أو لغرض آخر.
وقد يمسك عن الطعام والشراب بنية العبادة، وهي الصوم.
إذًا النية مَيَّزَت بين العادة العبادة، فالذي يمتنع عن الطعام والشراب طلبًا للصحة مثلا، فهذا عادة من العادات، ومباح من المباحات، بينما الذي يمتنع عن الطعام والشراب لقصد الصيام، فهذا عبادة من أفضل العبادات، فهو يميز بين العادة والعبادة.
كذلك مثال آخر، وهو الاغتسال: قد يغتسل الشخص تبردًا أو تنظفًا، وهذا عادة من العادات، وقد يغتسل بنية غسل جمعة، وهذا عبادة، وقد يغتسل بنية رفع الجنابة، وهذا عبادة، فالصورة واحدة، لكن الفرق هو النية، فإذا قصد التبرد أو قصد النظافة، كان هذا عادة، ليس فيها ثواب ولا عقاب، وأمَّا إذا قصد التعبد، فهذا عبادة يُثاب عليها، ولهذا ذكر الشيخ أنَّ المرتبة الأولى تمييز العادة عن العبادة.
المرتبة الثانية: تمييز العبادات بعضها عن بعض.
العبادات ليست على حد سواء، والعبادات تختلف في أعيانها، وتختلف في مراتبها، فالصلاة عبادة، والصيام عبادة، والحج عبادة، والصلاة أيضا منها ما هو فريضة ومنها ما هو نافلة، والنافلة قد تكون وترًا، وقد تكون راتبة. فالصورة قد تكون واحدة، مثل: أحدهما يصلي ركعتي الفجر، والآخر يصلي راتبة الفجر، والثالث يصلي راتبة العشاء، فالصورة فيهم واحدة. ولكن ما الفرق بين هذه العبادات الثلاث؟ النية؛ لأنَّها هي التي تميز بين العبادات بعضها عن بعض.
فهذا من فوائد النية ومن مراتبها، وهذا يسمى عند الفقهاء تعيين النية، بمعنى أنَّ العبادة المعينة لابد أن يُعينها المكلف، فإذا أراد أن يصلي الظهر، عليه أن ينوي صلاة الظهر، وإذا أراد أن يصلي الفجر، فعليه أن ينوي صلاة الفجر وهكذا.
وعلى هذا فإذا كانت العبادة أو الصلاة مُعينة، فلا يصح أن يُصلي بنية مطلقة، بمعنى: أنَّه ينوي الصلاة فقط، ثم يصرفها بعد ذلك ويقول: أجعلها صلاة الفجر، هذا لا يجزئ؛ لأنَّه لابد من تعيين النية. هذا ما يتعلق بمراتب النية.
النقطة الرابع: دليلُ القاعدة، وقد سبق ذكره، وهو قوله ﷺ: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لِكلِّ امرئٍ مَا نَوَى». والحديث في الصحيحين.
النقطة الخامسة: التفريع عليها، وقد سبق ذكر بعض الفروع ضمن الكلام على مراتب النية، ولا بأس أن نشير أيضًا إلى فروع أخرى، منها:
العبادات كلها كالصلاة فرضًا أو نفلاً، والزكاة والصوم والاعتكاف والحج والعمرة، وقد تكون العمرة فرضًا، وقد تكون نفلاً، وغير ذلك من العبادات، كلها تحتاج إلى نية، ولهذا يذكر الفقهاء أنَّ من شروط صحة العبادة النية، بل حتى المباحات إذا نوى بها المكلف التَّقَوي على طاعة الله؛ صارت عبادة يُثاب عليها، وهذا يُبين الأثر العظيم للنية في تحصيل الأجور.
الفقرة السادسة والأخيرة: ما يحتاج إلى نية من التكاليف، ليس كل التكاليف يحتاج إلى نية، ولهذا يمكن أن نقول: إنَّ التكاليف على نوعين:
النوع الأول: يحتاج إلى نية، وهو الأمور المأمور بفعلها، فالنية شرط في صحتها، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغيرها، فالنية شرط في صحتها، وشرط أيضا في حصول الثواب عليها.
النوع الثاني من الأفعال: ما يقصد تركه، وهذه تُسمى عند الفقهاء بالتروك، مثل: إزالة النجاسة، هل تحتاج صحة إزالة النجاسة إلى نية؟
الجواب: لا، مثال ذلك: لو فرضنا أنَّ بقعة من الأرض وقعت عليها نجاسة، فنزلت مياه الأمطار وجرفت هذه النجاسة، فطهر المحل، ولم يبق فيه شيء من أثر النجاسة. هل يطهر المحل أو لا يطهر؟
يطهر، مع أنه لم توجد نية، ولا حتى فعل المكلف، وهذا يُسميه العلماء التروك، يعني: الأمور التي شُرِعَ لنا أن نتركها وأن نتنزه عنها، فهذه لا تحتاج إلى نية.
ومن ذلك ما يذكره بعض العلماء في مسألة قضاء الديون، فكما أنَّ إزالة النجاسة من موضعها لا تحتاج إلى نية، فإزالة الدين أيضًا من ذمة المدين لا يحتاج إلى نية، فلو فرضنا أنَّ شخصًا عليه دين، فجاء شخصٌ آخر وتبرع بسداد دينه من غير أن يعلمه، هل تبرأ ذمة المدين أو لا تبرأ؟
تبرأ، مع أنه لم ينو ولم يعلم أصلا، ولكن يبقى أمر، وهو أنَّ حصول الثواب حتى في التروك يحتاج نية، فحصول الثواب والأجر، هذا لا بد فيه من نية التقرب إلى الله تعالى.
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام على القاعدة الأولى.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: {(
الدِّينُ مَبْنِيٌّ عَلَى المَصالِحِ ... في جَلْبِهَا وَالدَّرْءِ لِلْقَبائِحِ
فَإِنْ تَزاحَمْ عَدَدُ المَصالِحِ ... يُقدَّمُ الأَعْلَى مِنَ المَصَالِحِ
وَضِدُّهُ تَزاحُمُ المَفَاسِدِ ... يُرْتَكَبُ الأَدْنَى مِنَ المَفَاسِدِ
) }.
هذه هي القاعدة الثانية على حسب ما ذكره الشيخ، هي مثال على القواعد الأصولية أو الفقهية؟ الأصولية، ولهذا ذكرت في مستهل حديثي عن هذه القواعد أنها تضمنت النوعين، وإن كان الأكثر هو القواعد الفقهية.
هذه قاعدة: (بناء الأحكام على المصالح) ، أو قاعدة: (الاستصلاح) والشيخ بَيَّنَ أنَّ الدين مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، وهذه القاعدة هي أصل عظيم، وحديثنا عنها -إن شاء الله- سيكون من خلال عنصرين:
الأول: تقرير القاعدة، وبيان شمول هذه القاعدة للدين كله أصولاً وفروعًا.
والثاني: أمثلة للأوامر الشرعية التي تحقق المصالح، فهذه القاعدة أصل عظيم، وقاعدة عامة يدخل فيها الدين كله، فكل الدين مبني على تحصيل المصالح ودرء المفاسد، ومن المفاسد المضار، فالشريعة تدفع المضار، ولهذا من القواعد الفقهية (الضرر يُزال) ويلحظ أنَّ الشيخ -رحمه الله- في منظومته هذه، ضَمَّنَهَا القواعد الكلية الكبرى الخمس كلها، ما عدا قاعدة: (الضرر يُزال) ولعله أشار إليها بناء على أنها مُضمنة في قاعدة المصالح؛ لأنَّ درء المفاسد من ضمنه درء دفع الضرر عن العباد، وهذه القاعدة -كما ذكرت- تدخل في الدين كله أصولاً وفروعًا.
والشيخ -رحمه الله- في شرحه بَيَّنَ أنَّ من أعظم ما أمر الله به (التوحيد) الذي هو إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة، وهو مشتملٌ على صلاح القلوب، وسعتها، ونورها، وانشراحها، وفيه مصالح البدن، والدنيا، والآخرة.
ومن أعظم ما نهى الله عنه (الشرك) ، وهو فساد ومضرة في القلوب والأبدان، فكل خيرٍ في الدنيا والآخرة فهو من ثمرات التوحيد. وكل شرٍّ في الدنيا والآخرة فهو من غوائل الشرك.
هذه المصالح والمفاسد، قد تكون المصلحة مصلحة خالصة، والمفسدة مفسدة خالصة، وقد يجتمع في الشيء مصالح ومفاسد، والشريعة تأتي رعاية المصالح الخالصة أو الغالبة، فهي تحقق المصالح الخالصة، وتشرع ما غلبت مصلحته على مفسدته. وأمَّا المفاسد الخالصة أو الغالبة فالشريعة تدفعها.
الإيمان والتوحيد مصالحهما خالصة -كما تقدم- والشرك والكفر مفاسدهما خالصة، ولهذا أَمَرَ الله بالإيمان والتوحيد، ونهى عن الشرك والكفر.
الميسر وهو القمار مفاسده أكثر من منافعه، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَ﴾ [البقرة:219]، ولهذا نهت الشريعة عن الخمر والميسر لرجحان المفاسد على المصالح فيهما، قال ابن تيمية: "مدار الشريعة على أنَّ الواجب تحصيل المصالح وتكثيرها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين لتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما هو المشروع".
والشيخ -رحمه الله- في شرحه ذَكَرَ جملة من الأمثلة على هذه القاعدة. فالعبادات كلها مصالح، الصلوات الخمس، الحج، العمرة، الزكاة، ولهذا يذكر العلماء دائمًا عند الكلام على هذه العبادات الحكمة من مشروعيتها، ويذكرون مصالح للعباد في شرعية هذه العبادة، فهي من الأمثلة على ذلك، والأمر في هذا واسع جدا، ولعلي أكتفي بهذه الإشارة.
نسأل الله لنا ولكم وللحاضرين التوفيق، والعلم النافع، والعمل الصالح، ونقف في هذا اللقاء عند الكلام على هذه القاعدة، وصلى الله على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13695 5