الدرس الثالث
فضيلة الشيخ د. عبدالله بن صالح الكنهل
إحصائية السلسلة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله العلي الباري، ثم صلاته على المختار وآله وأصحابه الأطهار، الحائزِ مراتب الفخار، أهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم)، نشرع فيه في الشرح الثالث لمتن منظومة (القواعد الفقهية) للشيخ العلامة/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، يشرحه لنا فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الله بن صالح الكنهل، أهلا وسهلا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة المستمعين والمستمعات.
{نستأذنكم فضيلة الشيخ في البدء، أحسن الله إليكم.
بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم اغفر لنا ولمشايخنا وللمؤمنين، قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (
وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ ... فَــلَا يُــزِيــلُ الشَّــكُّ لِلْيَـقِـيــنِ
وَالْأَصْـلُ فِي مِيـاهِنَــا الطَّهَــارَهْ ... وَالْأَرْضِ وَالثِّيـابِ وَالْـحِـجــارَهْ
وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ ... وَالنَّفْـسِ وَالْأَمْــوالِ لِلْمَعْـصُــومِ
تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــلُّ ... فَـافْـهَـمْ هَـداكَ اللـهُ مَــا يُـمَــلُّ
وَالْأَصْـلُ فِي عَـادَاتِنَــا الْإِبَـاحَـهْ ... حَتَّـى يَجِــيءَ صَــارِفُ الْإِبـاحَـهْ
وَلَيْـسَ مَشْـرُوعًـا مِـنَ الأُمُــورْ ... غَيْـرُ الَّـذِي فِي شَـرْعِنَـا مَـذْكُــورْ
)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد.
فهذه القاعدة من القواعد الكلية الكبرى، وسيكون الحديث فيها كما سرنا عليه فيما مضي، نذكر في بداية القاعدة العناصر، التي هي عناوين لمضامين حديثنا عن هذه القاعدة.
العنصر الأول: النص الفقهي للقاعدة، الثاني: أهميتها ومنزلتها، والثالث: ألفاظها ومعانيها، والرابع: دليلها، والخامس: التفريع عليها، والسادس: علاقتها بالقاعدة الأخرى، وهي: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، والسابع: أذكر أصولا تستصحب حتى يوجد ناقل.
هذه أبرز عناوين مضامين الحديث عن هذه القاعدة.
العنصر الأول كما ذكرت، النص الفقهي للقاعدة: النص الفقهي لهذه القاعدة هو: (اليقين لا يزال بالشك).
وأمَّا العنصر الثاني فهو أهميتها ومنزلتها: حيث إنها من أوسع القواعد فروعًا، ولهذا قال السيوطي -رحمه الله- في كتابه الأشباه والنظائر: إنها تدخل في جميع أبواب الفقه، وهي إضافة إلى ذلك من القواعد الخمس الكلية الكبرى، التي يدور عليها الفقه.
العنصر الثالث، ألفاظها ومعناها: هذه القاعدة تضمنت ألفاظًا، مثل: اليقين، والمراد به حصول الجزم لوقوع الشيء أو عدم وقوعه، وفي هذه القاعدة يُراد به ذلك ويراد به الظن المعتبر شرعًا، كخبر ثقة بنجاسة ماء.
وأمَّا الشك فهو التردد بين أمرين بلا ترجيح، والشك يُراد به هذا المعنى، ويُراد به أيضًا الوهم، وهو الاحتمال المجروح.
أمَّا معنى القاعدة، فقد يرد سؤال فيما يتعلق بمعناها، فيقال: إنَّ اليقين والشك لا يمكن أن يجتمعا في حال واحدة، وفي وقت واحد من شخص واحد، وبناء على ذلك: ما معنى القاعدة؟
الجواب عن ذلك: أنَّ المراد (اليقين السابق لا يزول بالشك الطارئ اللاحق)، وبهذا المعنى يزول الإشكال.
وهناك إشكال آخر يرد على معناها أيضًا، وهو أنَّ اليقين إذا طرأ عليه الشك زال، فلا يبقى الشخص متيقنًا، فكيف نقول: (اليقين لا يزول بالشك) وهو الآن شاك؟
والجواب: أنَّ المراد "حُكم اليقين السابق، لا يزول بالشك الطارئ"، وأمَّا ذات اليقين فقد زال بوجود الشك. هذا ما يتعلق بألفاظها ومعانيها.
أمَّا العنصر الرابع، دليلها: استدل الفقهاء عليها بحديث ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، مرفوعًا إلى النبي ﷺ قال: شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحً»[1]. والمراد بذلك أنَّه يجد حركة في بطنه، فيخيل إليه أنه قد خرج منه ريح، فهذا شكٌ وَرَدَ على يقين الطهارة، فقال النبي ﷺ: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحً»، والمراد حتى يوجد عنده يقين بانتقاض طهارته بأحد هاتين العلامتين أو بغيرهما.
العنصر الخامس، التفريع عليها: ذكر الشيخ -رحمه الله- في شرحه على المنظومة بعض التفريعات التي تتفرع على هذه القاعدة، منها: الفرع الذي تضمنه الحديث المتقدم، وهو مسألة: ما إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث، فإذا فرضنا أنَّ شخصًا تيقن أنه قد توضأ فارتفع حدثه، ثم شكَّ هل قَضى حاجته بعد هذا الحدث فانتقض وضوؤه أو خرج منه ريح فانتقض وضوؤه، أو لم يحصل منه ذلك؟
نقول: الأصل بقاء الطهارة، و "يقين الطهارة السابق لا يزول بالشك اللاحق"، فلك أن تُصلي بطهارتك السابقة بناء على هذه القاعدة: (اليقين لا يزول بالشك).
ومن الفروع أيضا: لو شكَّ في طلاق زوجته، فالأصل هو بقاء النكاح؛ لأنَّ عقد النكاح متيقن، فالشخص متيقن من أنَّه عقد على المرأة التي هي: زوجته، ثم شكَّ هل وقع منه الطلاق عليها أو لا، نقول: (اليقين لا يزول بالشك) وبالتالي يمضي الأمر على أنَّه لم يقع منه طلاقًا، فلا يحسب عليه طلاق في هذه الحالة.
ويدخل في ذلك أيضا الشك في الأعداد، فلو فرضنا أنَّ شخصًا يُصلِّي الظهر مثلا، فشكَّ في الركعة، هل هي الثالثة أو الرابعة؟ فيجعلها الثالثة؛ لأنَّ هذا هو المتيقن، لأنَّ الأقل هو اليقين، بينما كونها الرابعة مشكوك فيه، و (اليقين لا يزول بالشك)؛ فيبني على اليقين في عدد الركعات، في عدد أشواط الطواف، في عدد أشواط السعي؛ لأنَّ اليقين هو الأقل، فيبني على اليقين.
هذه بعض الفروع المتعلقة بالقاعدة، ويبقى معنى العنصر السادس وهو: علاقة هذه القاعدة بقاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، بعض الفقهاء جعلوا قاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) هي نفس قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)، منهم: السبكي في قواعده وغيره، بينما ذهب آخرون من الفقهاء إلى أنَّ قاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) متفرعة عن القاعدة الكلية الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك)، وهذا صنيع السيوطي في أشباهه، وكذلك ابن نُجيم في أشباهه.
معنا قاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).
إنه إذا حصل شك في الانتقال عن أصل، فإننا نبقى على الأصل الذي تيقناه، وهذا وجه علاقة هذه القاعدة بقاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)، فمعنى القاعدة: استصحاب الأصل حتى نتيقن الناقل عن الأصل، وبناء على هذه القاعدة المتفرعة عن قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)؛ ذكر الشيخ -رحمه الله- بعد البيت الذي ذكر فيه القاعدة ذكر أصولا، ومراده بذكر الأصول بعد ذكر القاعدة: أنَّ الأصل أن نبقى على هذه الأصول ما لم نتيقن الناقل عن هذه الأصول. فهذا وجه ارتباط ذكر هذه الأصول بعد ذكر قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك).
سنستعرض الأصول التي ذكرها الشيخ -رحمه الله-.
قال -رحمه الله-: (وَالْأَصْـلُ فِي مِيـاهِنَــا الطَّهَــارَة ... وَالْأَرْضِ وَالثِّيـابِ وَالْحِجارَة)، لو فرضنا أن عندنا وعاء فيه ماء، ورأينا فيه صفرة مثلا، فشككنا هل هي نجاسة؟ يعني: هل هذا بول وقع فيه أو لا؟ وهو في الأصل مُتيقن الطهارة، لكن الآن مع وجود الصفرة صار مشكوكًا فيه. هل يجوز التطهر منه؟
نعم. يجوز التطهر؛ لأنا نبني على القاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)، أو على القاعدة المتفرعة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، وبالتالي يُحكم على الماء بالطهورية.
كذلك الأرض، لو فرضنا أن أرضًا أو سجادًا، وجدنا فيه أثر صفرة أو نحو ذلك فشككنا، حيث إن الأطفال يلعبون في هذا المكان ومنهم صغار، وربما حصل منهم نجاسات، هل يجوز أن نصلي على هذه البقعة أو على هذا السجاد؟
نعم، وذلك بناء على قاعدة: الأصل هو الطهارة في البقعة، والأرض، والسجاد، والثياب، وغيرها مما يشك في نجاسته بعد تيقن طهارته.
من الأصول التي ذكرت قوله: (
وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ ... وَالنَّفْـسِ وَالْأَمْــوالِ لِلْمَعْـصُــومِ
تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــــــلُّ ... فَـافْـهَـمْ هَــــداكَ اللـهُ مَــا يُـمَــلُّ
).
ما يمل، من: الإملاء، كقوله: ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾، والمراد بالأبضاع: وطء النساء، فالأصل في وطأ النساء: التحريم، فلا تحل امرأة لرجل إلا في عقدٍ نكاح، أو ملك يمين، وإذا شككنا في وجود عقد من العقود ولم نتيقنه سابقا، بمعنى: أنه شككنا هل عقد عليها أو لم يعقد عليها؟ فالأصل هو: التحريم، وبالتالي لا يحل له حينئذ أن يطأها. هذا معنى الأصل في الأبضاع التحريم.
كذلك لو شكَّ في أَمَةٍ، هل دخلت في ملكه أو لم تدخل في ملكه، فليس له أن يطأها؛ لأنَّ الأصل في الأبضاع التحريم. حتى يجيء الحل.
قال الشيخ: (وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ)، أيضًا الأصل في اللحوم التحريم.
قد يقول قائل: إنَّ الفقهاء في كتاب الأطعمة يقررون أنَّ الأصل في الأطعمة الحل، والأطعمة منها: أطعمة نباتية، ومنها أطعمة حيوانية، فاللحوم داخلة ضمن الأطعمة الحيوانية، فكيف نجمع بين الأمرين؟
نقول: مُراد المؤلف -رحمه الله- بقوله: (وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ) يعني: الأصل في الذبائح التحريم، حتى يُتَيَقَّن حِلُّ الذبيحة بوجود الذكاة الشرعية، فلو فرضنا أننا وجدنا شاة ميتة، وشككنا هل هي ماتت بذكاة؟ يعني: هل الذي قتلها ذكاها أو ماتت بغير ذكاة؟
الأصل هو التحريم، أي: لا تحل إلا بذكاة شرعية متيقنة، وهذا يرد أحيانا فيما يوجد من بعض الذبائح لا سيما إذا كنا نشك في الذابح، هل هو مسلم أو مشرك أو شيوعي؟ ومعلوم أن ذبائح المشركين والشيوعيين حرام، إذًا الأصل هو التحريم، ويدل على هذا أدلة من الشرع.
من التطبيقات العملية في كتاب الصيد، يذكر الفقهاء مسائل متعددة جاءت فيها أحاديث متنوعة، منها: ما لو رمى صيدًا على شجرة، فوقع هذا الصيد في ماء، فأخذه من هذا الماء ميتًا، فهل هذا الصيد حلال أم حرام؟
حرام؛ لأنه اجتمع فيه سبب مبيح وهو الصيد، وسبب حاظر وهو احتمال أنه مات بالغرق، فاجتمع فيه مبيح وحاظر، فَغُلِّبَ جانب الحاظر؛ لأنَّ الأصل في الذبائح هو التحريم، ولهذا جاء عن النبي ﷺ قال: «وإنْ وَقَعَ في الماءِ»، أي: الصيد، «فلا تَأكُلْ»، لأنَّه قد يَكون مات غَرقًا، وجاء عن النبي ﷺ أنه قال: «وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ»، الفقهاء يقررون في كتاب الصيد، أن الصيد لا يحل إلا بكلب معلم، يُسَمِّي عليه الصائد عند إرساله، فهو سمى على كلبه وأرسله، ثم وجد معه كلبًا آخر غير مُعلم، وصيد الكلب غير المعلم حرام، وهو شك الآن أي الكلبين قام بالصيد الذي صاده، والنبي ﷺ قال: «وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ»، فهذا من الأدلة التي تدل على أنَّ الأصل في الذبائح التحريم كما أسلفت.
وكذلك الأصل في النفوس التحريم، والمراد نفس المسلم أو المعاهد، وهو ما يسميه الفقهاء معصوم الدم، فالأصل فيمن كان معصوم الدم؛ تحريم دمه وماله وعرضه، فلا يُباح ماله ولا دمه ولا عرضه إلا بسبب يحله متيقن، كأن يرتد عن الإسلام، أو يزني وهو محصن، أو ما أشبه ذلك.
ويدخل في المعصوم المسلم أو المعاهد، فكلاهما له عصمة الدم.
كذلك الأصل في أموال المعصومين التحريم، ولهذا قال: (وَالنَّفْـسِ وَالْأَمْــوالِ لِلْمَعْـصُــومِ)، ومراده معصوم الدم والمال، وهذا يُخرج الكافر الحربي، فالكافر الحربي ليس معصوم الدم ولا المال، فالأصل فيه الحل، وهؤلاء المعصومون الأصل (تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــــــلُّ)، كما ذكر الشيخ في قاعدته، وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام على هذه القاعدة.
قال الشيخ: (وَالْأَصْـلُ فِي عَـادَاتِنَــا الْإِبَـاحَـةْ)، وهذه لنا أن ندرجها ضمن ما تقدم على اعتبار أنها مستندة إلى أصل، ولنا أن نجعلها قاعدة مستقلة؛ لأنَّ لها دلالات واسعة بخلاف الأصول المتقدمة، ولهذا يمكن أن ألخص أبرز العناوين التي سأتحدث فيها عن قاعدة: (الأصل في العادات الإباحة) في: بيان معنى القاعدة، ثم الفرق بين العبادات والعادات، ثم دليل أصل الحل، ثم دليل أصل الحظر.
قول المؤلف -رحمه الله-: (
وَالْأَصْـلُ فِي عَـادَاتِنَــا الْإِبَـاحَـةْ ... حَتَّـى يَجِــيءَ صَــارِفُ الْإِبـاحَـةْ
).
من ضمن الأصول التي تستصحب حتى يوجد الناقل، لكنها لها طبيعة واسعة في الفقه، ولهذا يمكن جعلها قاعدة مستقلة، وسنتحدث عنها من خلال العناصر التالية:
أولا: أُبين معنى القاعدة، ثم أذكر الفرق بين العبادات والعادات، ثم أذكر دليل أصل الحل، ثم أبين دليل أصل الحظر.
أمَّا معنى القاعدة: فالأصل في العادات الإباحة، وبالتالي لا نحكم بتحريم عادة من العادات إلا بدليل من الشرع، فلو حصل خلاف في عادة من العادات، هل هي حلال أو حرام؟ أضرب لذلك مثالا: لو فرضنا أنَّ امرأة تُوفي زوجها، بعض الناس الآن بعد ما تنتهي المرأة من الإحداد يجعلون لها مأدبة طعام، فقال شخص من الأشخاص: هذا أمر بدعة لم يرد عن السلف، وقال آخر: بل هو حلال، الصواب مع من؟ نقول: من يقول بالحل؟ لأن هذا الفعل ليس عبادة، وإنما هو من باب العادات، والأصل في العادات الإباحة حتى يوجد دليل التحريم، ولا يحتاج أن يوجد خاص على حل ما كان من قبيل العادات أو المعاملات.
والعكس في العبادات، فالعبادات الأصل فيها الحظر، ولا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسول له، بحيث يكون مستندًا إلى دليل من الكتاب أو من السنة، ولهذا لو وقع خلاف في عبادة من العبادات، الأول يقول: مشروعة، والآخر يقول: بدعة، الذي يلزمه الدليل هو من يقول بالمشروعية؛ لأن الأصل في العبادات هو الحظر حتى يرد الدليل الدال على الشرعية، هذا معنى القاعدة.
الفرق بين العبادات والعادات:
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "والفرق بينهما أنَّ الله -سبحانه- لا يُتعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإنَّ العبادة حقه على عباده، وحقه هو ما رضي به وشرعه، وأمَّا المعاملات فهي عفو حتى يرد تحريمها، ولهذا نعى الله على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه الله، والتقرب إلى الله -عز وجل- بما لم يشرعه". هذا كلامه -رحمه الله- في كتابه: إعلام الموقعين.
العنصر الثالث، دليل أصل الحل: الشيخ في شرحه ذكر جملة من الأدلة، منها قوله -عز وجل-: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعً﴾ وهذا يدل على أنَّ الله -عز وجل- خلق لنا كل ما في الأرض؛ لننتفع به حسب ما جرت به عاداتنا بأي وجه من أوجه الانتفاع التي لم يرد الشرع بتحريمها.
وأمَّا دليل أصل الحظر فقد استدل عليه الفقهاء بقوله ﷺ: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ» الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، فهذا الحديث يدل على أنَّ من تعبد بعبادة لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فهي مردودة عليه، ولهذا قال الفقهاء:" إن الأصل في العبادات الحظر".
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (
وَسَـائِــلُ الْأُمـورِ كَـالمَقـاصِــدِ ... وَاحْكُـمْ بِهَـذَا الحُـكْـمِ لِلـزَّوائِــدِ
)}.
هذه القاعدة سيكون الحديث عنها من خلال عناوين، وهذه العناوين كالتالي:
العنصر الأول: النص الفقهي للقاعدة.
العنصر الثاني: معنى القاعدة.
العنصر الثالث: المراد بالوسائل.
العنصر الرابع: أحكامها الإجمالية وعلاقتها بقواعد مشابهة.
العنصر الخامس: أهميتها.
العنصر السادس: التفريع عليها.
سنبدأ بالعنصر الأول، وهو: النص الفقهي للقاعدة، والشيخ -رحمه الله- في شرحه ذكر النص الفقهي للقاعدة، يقول الفقهاء: (إن الوسائل تعطى أحكام المقاصد) هذا هو النص الفقهي.
معنى القاعدة: أنَّ الوسيلة تُعطى حُكم المقصد، فالوسيلة إلى الحرام تكون حرامًا، والوسيلة إلى الواجب تكون واجبة، والوسيلة إلى المكروه تكون مكروهة، وهكذا. هذا هو المراد بالقاعدة.
هنا سؤال، وهو: ما المراد بالوسائل؟ يعني المراد بالوسائل التي تحقق أمرًا مشروعًا، ما كان لم يرد فيه نهي. عندما نقول: إن الوسيلة التي تحقق أمرا مشروعا تكون مشروعة تبعا لمقصدها، فإن مُرادنا بذلك: الوسائل التي لم يرد فيها نهي. بهذا المعنى نفرق بين القاعدة الباطلة التي تقول: "الغاية تبرر الوسيلة"، وبين قاعدتنا، وهي: (الوسائل تأخذ أحكام المقاصد)، مثال ذلك: شخص يزعم أنَّه سيسرق المال لغرض أن يطعم بهذا المال الفقراء. ألستم تقولون: إن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد؟! ماذا نقول له؟ نقول: الذي يدخل في القاعدة هو الوسائل التي لم يرد فيها نهي، فالسرقة محرمة، والغاية لا تبرر الوسيلة، وكون الغاية مشروعة لا يجوز التوصل إليها بطريق محرم. أو منهيٍ عنه. هذا ما يتعلق المراد بالوسائل، وهو العنصر الثالث.
العنصر الرابع، تفصيل أحكامه الإجمالية وعلاقتها بقواعد مشابهة: يمكن أن نفصل في حالتين، فنقول: الحالة الأولى: الوسيلة المعينة إذا كان يتوقف عليها حصول المقصود، فإنها تعطى حكم مقصودها، على قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وهذا التفصيل الذي سأذكره الآن يُبين لنا علاقة هذه القاعدة بقاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فنقول: الوسيلة المعينة إذا كان يتوقف عليها حصول المقصود؛ فإنها تُعطى حُكم مقصودها، وهذا يتناسب مع قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، ونظائرها في: المندوب، والحرام، والمكروه، والمباح، وعليه تكون الثانية، وهي قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) أخص من جهة أنها متعلقة بأهم أنواع الوسائل وأقواها، وهي التي يتوقف حصول المقصود، بحيث لا يتم المقصود إلا بها، فـ (ما لا يتم الواجب إلا به) هذا وسيلة، لكنها من أقوى وأهم الوسائل.
الحالة الثانية: إذا كان المقصود لا يتوقف على حصول وسيلة معينة، لكنه يحصل بمباشرة واحدة من وسائل متعددة، بمعنى: أن الوسائل المتعددة تعددت لمقصود واحد، وهنا عندنا حالات:
الحالة الأولى: أن يكون المقصود منهيًا عنه تحريمًا أو كراهة؛ فتأخذ الوسائل كلها حكم المقصود الذي تُؤدي إليه، ولهذا نقول: كل الوسائل المؤدية حرام حرام. وكل الوسائل المؤدية إلى الربا هي من المحرمات، وكل الوسائل المؤدية إلى الوقوع في الزنا، من: النظر إلى الحرام، الخلوة بالمرأة الأجنبية، كشف العورات، وما أشبه ذلك، كلها حرام. فالوسائل المؤدية إلى المنهي عنه تحريما أو كراهة، كلها تعطى حكم ما أدت إليه.
ومن هذا قاعدة: (سد الذرائع)، ولهذا كما ذكرت لكم هذه القاعدة كما أنَّ لها ارتباطا بقاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، أيضًا لها ارتباط بقاعدة أخرى وهي قاعدة: (سد الذرائع) من حيث ما ذكرته آنفًا.
الحالة الثانية: إذا كان المقصود مُباحًا، فالوسائل المؤدية إليه مباحة.
الحالة الثالثة: إذا كان المقصود مطلوبًا إمَّا وجوبًا أو ندبًا فلا يعطى جميع الوسائل المؤدية إليه حكم المقصود؛ لأنَّ المطلوب هو مُباشرة إحدى الوسائل بلا تعيين، مثل مسألة: خصال الكفارة، فلا نقول إن كل الوسائل المؤدية إليه تأخذ هذا الحكم.
مثال على ذلك نقول: صلاة الجمعة واجبة، ومن الوسائل إلى صلاة الجمعة أن يمشي إليها، أو أن يركب سيارة. لا نقول: إنه يجب عليه المشي ويجب عليه الركوب، بل نقول: الواجب عليه شيء واحد منهما بحسب المتيسر له. هذا ما يتعلق بهذه القاعدة، وهي قاعدة: (الوسائل لها أحكام المقاصد).
بقي معنا أهمية القاعدة، الشيخ -رحمه الله- في شرحه قال: "إنها من أنفع القواعد، وأعظمها، وأكثرها فوائد"، وقال: "ولعلها يدخل فيها ربع الدين".
التفريع عليها: ربما في كلامي السابق ذكرت جملة من التفريعات عليها، فمن التفريعات عليها:
المشي إلى الواجب واجب، إذا كان هو الوسيلة إلى الواجب، فإذا فرضنا أنك ستذهب إلى صلاة الجمعة أو صلاة الجماعة مشيًا على الأقدام، فصلاة الجمعة والجماعة واجبة، والمشي إليها هو وسيلة إلى مقصد، والمشي في الأصل مباح، لكنه لَمَّا كان وسيلة إلى واجب صار واجبًا، ونستفيد من ذلك أنك تثاب عليه ثواب الفرض، فتثاب على المشي إلى صلاة الجماعة ثواب الفرض؛ لأنه واجب، وهكذا السعي إلى الحج، والسفر إليه، فإذا احتاج الحج الواجب إلى سفر، فالأصل في السفر هو الإباحة، لكن السفر لأداء فريضة الحج يكون أيضًا واجبًا؛ لأنه وسيلة إلى أداء هذه الفريضة، فالسفر يعطى حكم المقصد.
قال الشيخ: (وَاحْكُـمْ بِهَـذَا الحُـكْـمِ لِلـزَّوائِــدِ) وهذه العبارة تحتاج إلى توضيح، ما المراد الشيخ بالزوائد؟ ذكر الشيخ في شرحه أن الأشياء ثلاثة، مقاصد كالصلاة، ووسائل إليها كالمشي إلى الصلاة، ومتممات لها، كرجوعه من الصلاة، المتممات هي مراد الشيخ بالزوائد، فهي تعطى أحكامها، بمعنى أن رجوعك من الصلاة أو رجوعك من الحج تُثاب عليه ثواب الفرض؛ لأنك إنما ذهبت لأداء فرض، فحتى رجوعك أنت تُثاب عليه ثواب الفرض. هذا معنى (وَاحْكُـمْ بِهَـذَا الحُـكْـمِ لِلـزَّوائِــدِ) أي أنَّ المتممات للمقاصد تعطى أيضًا حكمها من حيث الثواب، فيثاب عليها كما يثاب على المقاصد.
انتهينا من هذه القاعدة
{شيخ أحسن الله إليك، علمنا أنَّ الوسائل تأخذ حكم المقاصد والسؤال: هل الوسيلة إلى الزنا المحرم تأخذ مسمى الزنا؟}.
لا تأخذ حكم الزنا إلا على سبيل التنفير منها أو على ما يسمى عند بعضهم بالمجاز، كما ورد عن النبي ﷺ: «العينُ تزني وزِناها النَّظرُ»، لكن حقيقة الزنا مختلفة، وعظيم جرم الزنا ليس كجرم النظر الحرام، ولهذا يقرر العلماء أنَّ الزنا من كبائر الذنوب، كما أنهم يقررون أنَّ النظر من الصغائر، وهذا يُبين أنَّ النظر وإن كان وسيلة -وهو محرم- لكنه لا يأخذ حكم الزنا نفسه، من حيث درجته في التحريم، وإنما المراد بأنه يأخذ الحكم، يعني: في أنه محرم، لكن لكل درجته، فليست كبائر الذنوب كصغائرها.
{أحسن الله إليكم. قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (
وَالخَـطَـأْ والإِكْـرَاهُ وَالـنِّـسْـيَــانُ ... أَسْقَـطَـهُ مَعْبُــودُنَــا الـرَّحْـمَــنُ
لَكِـنْ مَـعَ الإتلافِ يَثْبُـتُ الْبَـدَلْ ... وَيَنْتَفِــي التَّـأْثِيـمُ عَنْـهُ وَالـزَّلَــلْ
)}.
هذه القاعدة، وهي قاعدة: (العفو عن الخطأ والإكراه والنسيان) هي في الواقع من القواعد الأصولية، وأنا ذكرت أن جملة من القواعد التي ذكرها الشيخ تُعد من قواعد الأصول، فالخطأ والإكراه والنسيان هذه من العوارض التي تعرض للإنسان، والأصوليون يتحدثون عما يسمونه عوارض الأهلية، فيذكرون هذه الأعذار وما أشبهها.
سأتحدث وأبين معناها ودليلها، ثم أبين معنى الخطأ والنسيان، ثم أتناول مسألة ضمان إتلاف المخطئ ونحوه.
أمَّا معناها ودليلها، فالعفو عن الخطأ والإكراه والنسيان، هذا من فضل الله -عز وجل- وإحسانه على عباده، ومن تيسيره أنه لَمَّا كلفهم بأوامر يفعلونها، ونهاهم عن محرمات يجتنبونها، وهو -جل وعلا- يعلم أنهم قد يحصل منهم خطأ أو نسيان أو عذر بإكراه؛ رفع عنهم الإثم في حال هذه الأعذار، ولهذا كان دليل هذه القاعدة، قوله ﷺ: «رُفِعَ عن أُمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليهِ».
يقول ابن رجب في دلالة الحديث: "والأظهر -والله أعلم- أنَّ النَّاسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى: رفع الإثم عنهما؛ لأنَّ الإثم مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما.
وأمَّا رفع الأحكام فليس مرادًا من هذه النصوص، فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر.
ثم بين -رحمه الله- معنى الخطأ، فقال: "والخطأ أن يقصد بفعله شيئًا، فيصادف فعله غير ما قصده، مثال ذلك: أن يقصد قتل كافر حربي فيقتل مسلمًا، وهذا قد يقع في الجهاد، فقد يستهدف المسلم في الجهاد من يظنه كافرًا حربيًا، فيظهر أنه مسلم، فإذا أصابه فهذا يقال له: قتل خطأ. كذلك لو أراد أن يرمي صيدًا فأصاب إنسانًا معصومًا فقتله، كان هذا من قبيل الخطأ وليس فيه إثم، ولكن هذا لا يمنع وجوب الكفارة. كما مر معنا في كلام ابن رجب.
رفع الإثم لا يلزم منه رفع الضمان، سواء كان بكفارة أو بغيرها، فالضمان هذا رفعه يحتاج إلى دليل آخر، فقد يُرفع وقد لا يرفع، في حال الخطأ أو النسيان، أو نحوهما.
النسيان: أن يكون ذاكرًا للشيء فينساه عند الفعل، وكل من الخطأ والنسيان معفو عنه.
قد بينَّا الآن معنى الخطأ والنسيان، ويبقى معنا المسألة الأخيرة وهي: ضمان إتلاف المخطئ ونحوه، وهذه أشرت إليها فيما مضي، وهي: أنَّ هؤلاء المخطئون وإن رفعنا عنهم الإثم حال الخطأ أو النسيان؛ فإنه لا يرتفع الضمان، في حال ما إذا ترتب على فعل المخطئ أو فعل الناسي أو فعل المُكره إتلاف لمال المعصوم، فإنه يضمنه، أي: يترتب عليه الضمان، سواء قلنا: الضمان على الناسي أو المخطئ، أو قلنا في حالة الإكراه ضمان على الْمُكْرِه أو على الْمُكْرَه، على تفصيل عند الفقهاء بحسب اختلاف الأحكام.
ولهذا لو أنَّ شخصًا أخطأ فذبح شاة يظنها مملوكة له، فتبين له أنها مملوكة لـ "زيد" من الناس، فهل يضمن قيمتها لـ "زيد" أو لا؟ نقول: يضمنها، ونقول: هو ليس آثمًا وإلا فذبح شاة مملوكة للغير هذا اعتداء وظلم للآخرين، وفيه إثم، ولكن لَمَّا كان مُخطئًا رفعنا عنه الإثم، وأمَّا الضمان فيبقى.
ولهذا وجب في قتل الخطأ: الدية والكفارة، وكذلك لو أنَّ شخصًا أخطأ وصدم سيارة عن طريق الخطأ، فعليه أن يضمن إصلاح السيارات المصدومة، وإن كان ليس آثما إذا لم يحصل منه تقصير في خطأه.
فهذا ما يتعلق بهذه القاعدة، ولعلنا نكتفي بهذا القدر في الكلام على هذه القاعدة.
{أحسن الله إليكم فضيلة شيخنا، وجزاكم الله عنا خير الجزاء.
والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقة جديدة،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------------
[1] رواه البخاري (137) مسلم (361)
سلاسل أخرى للشيخ
-
13695 5