الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. عبدالله بن صالح الكنهل

إحصائية السلسلة

9579 5
الدرس الثاني

القواعد الفقهية

{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله على نبيه ومصطفاه، أهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة أخرى من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيه متن (منظومة القواعد الفقهية) للشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، يشرحه الشيخ الدكتور/ عبد الله بن صالح الكنهل، أهلا وسهلا بفضيلة الشيخ}.
حياكم الله وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المستمعين، وأسأل الله أن يوفقنا جميعًا للعلم النافع والعمل الصالح}.
{نستأذنكم فضيلة الشيخ بقراءة المتن}
تفضل.
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (

الدِّينُ مَبْنِيٌّ عَلَى المَصالِحِ ... في جَلْبِهَا وَالدَّرْءِ لِلْقَبائِحِ
فَإِنْ تَزاحَمْ عَدَدُ المَصالِحِ ... يُقدَّمُ الأَعْلَى مِنَ المَصَالِحِ
وَضِدُّهُ تَزاحُمُ المَفَاسِدِ ... يُرْتَكَبُ الأَدْنَى مِنَ المَفَاسِدِ

) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، فقد سبق الحديث عن قاعدة: (رعاية الشريعة للمصالح) ، وأنَّ هذه الشريعة جاءت برعاية المصالح ودرء المفاسد، وذكرت لكم مقالة شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذا، والتي تضمنت جانبًا آخر من الجوانب المتعلقة بالمصالح، وهو جانب ما إذا تعارضت المصالح أو تعارضت المفاسد، فما العمل حينئذ؟
الشيخ -رحمه الله- قال: "فإذا تعارضت المصالح، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما هو المشروع، وكان دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما هو المشروع، وهذا ما أشار إليه الشيخ -رحمه الله- في تتمة كلامه في البيت الآخر، بعد ذكره رعاية الشريعة للمصالح قال:
(فَإِنْ تَزاحَمْ عَدَدُ المَصالِحِ ... يُقدَّمُ الأَعْلَى مِنَ المَصَالِحِ)
وقوله: (فَإِنْ تَزاحَمْ عَدَدُ المَصالِحِ) يمكن أن نجعله قاعدة مُستقلة عن القاعدة السابقة، وهي قاعدة لكن لها علاقة بالقاعدة السابقة، من حيث إنها متعلقة بالمصالح، وهي قاعدة: (تعارض المصالح) ، وسأتحدث عنها من خلال بيان معناها وشرطها، وهذا هو العنصر الأول.
العنصر الثاني: معيار التقديم.
العنصر الثالث: دليلها.
العنصر الرابع: أحوال تعارض المصالح.
العنصر الخامس: بعض الأسباب الموجبة للتفضيل.
نبدأ بالعنصر الأول، وهو: معنى القاعدة وشرطها، الشيخ -رحمه الله- ذكر معناها في شرحه، فذكر أنه إذا دار الأمر بين فعل إحدى المصلحتين وتفويت الأخرى، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، روعي أكبر المصلحتين وأعلاهما ففعل، ثم ذكر -رحمه الله- أمثلة على ذلك.
هذا الكلام تضمن شرط هذه القاعدة، فالقاعدة مصورة في حال ما إذا تعارضت المصالح، وشرط إعمال هذه القاعدة هو في حال إذا لم يمكن الجمع بين المصلحتين، بمعنى: أنه إذا فعلت إحدى المصلحتين ستفوت الأخرى ولابد، فحينئذ ما العمل؟ قال:

(فَإِنْ تَزاحَمْ عَدَدُ المَصالِحِ ... يُقدَّمُ الأَعْلَى مِنَ المَصَالِحِ)

فيقال: راعى أعلى المصلحتين، هذا هو معنى القاعدة، وهذا هو شرطها.
يبقى العنصر الثاني: وهو معيار التقديم، بناء على ماذا نقدم إحدى المصلحتين؟
نقول: المعيار التقديم هو الاعتبار الشرعي وليس الهوى، فما جعله الشرع مصلحة عليا يُقدم على ما دلت أدلة الشرع على كونه مصلحة دون المصلحة الأخرى، فالاعتبار هو بالمعيار الشرعي.
العنصر الثالث: دليل القاعدة. ما الدليل على هذه القاعدة؟
الشيخ -رحمه الله- في كتابه الآخر، وأنا ذكرت لكم أني سأذكر بعض الفوائد منه، وهو كتاب: (القواعد والأصول الجامعة) ، ذكر هذه القاعدة، واستدل عليها بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء:9]، وقوله: ﴿أَقْوَمُ﴾ يعني: أصلح، أو أكثر صلاحًا، فهذا يدل على أنَّ الشرع يهدي ويدل على ما هو أكثر صلاحًا وأحسن.
واستدل أيضًا بقوله -سبحانه-: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر:55]، فإذا تعارض فيما جاءت به الشريعة حسن وأحسن؛ فإننا نتبع الأحسن، إذا لم يكن الجمع بين الأمرين، كما تقدم في شرط القاعدة. هذا ما يتعلق بدليلها.
العنصر الرابع: أحوال تعارض المصالح، الشيخ -رحمه الله- في شرحه على المنظومة، فَصَّلَ في أحوال تعارض المصالح، فذكر عدة حالات:
الحالة الأولى، قال: إذا كانت إحدى المصلحتين واجبة والأخرى سنة، يقدم ماذا؟ يقدم الواجب على سنة.
مثال ذلك: إذا أقيمت صلاة الفريضة، هل يجوز للشخص أن يبتدأ صلاة نافلة؟ نقول: لا يجوز؛ «إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فلا صَلاةَ إلَّا المَكْتُوبَةُ»[1]، لأنَّ مصلحة الفرض أعلى من مصلحة النفل.
مثال ثان: ضاق الوقت، شخص استيقظ قبل طلوع الشمس بدقائق تكفي لركعتين فقط، فهل يصلي فريضة الفجر أو راتبة الفجر؟
يصلي فريضة الفجر وجوبًا، مع أن راتبة الفجر مصلحة، وفريضة الفجر مصلحة، لكن الفرض مُقدم مصلحة على النفل، وهو لا يستطيع الآن أن يفعلهما جميعًا في نفس الوقت؛ لأنَّ الوقت ضاق.
من الأمثلة على ذلك أيضًا، وقد ذكر الشيخ شيئًا منها في شرحه: أنه لا يجوز تقديم نفل الصيام على فرضه، وهذا عند كثير من الفقهاء، بمعنى: أنه لو كان على الشخص قضاء من رمضان مثلا، فهل له أن يتطوع وهو لم يقض ما عليه؟
كثير من الفقهاء يقولون: لا يجوز التطوع لمن عليه قضاء من رمضان، وإن كانت المسألة فيها خلاف، ولكن لا خلاف بين الفقهاء في حالة ما إذا ضاق وقت القضاء، بمعنى: لو فرضنا أنه عليه عشرة أيام من رمضان الماضي لم يقضها، وبقي على رمضان هذه السنة عشرة أيام، هل يجوز له أنه يتنفل؟
لا يجوز قولاً واحدًا؛ لأنَّ الوقت ضاق هنا، ولهذا وقع خلاف فيما إذا لم يضق الوقت، بناء على أنه يمكن الجمع بين الأمرين أو المصلحتين، ولكن هنا لا؛ لأنَّ الوقت ضاق، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه في هذه الحالة يُقدِّم الفريضة.
حالة ثانية: إذا كانت المصلحتان واجبتين؛ يُقَدَّم أوجب الواجبين.
مثال ذلك: صلاة الفرض تُقدم على صلاة النذر، النذر واجب والفرض واجب، لكن الفرض واجب بأصل الشرع، بينما النذر واجب بإيجاب العبد على نفسه، ولذا كان الفرض آكد وأعظم مصلحة، ولهذا أوجبه الشرع على جميع المكلفين بخلاف النذر، فالنذر يوجبه بعض العباد على أنفسهم. ولذا تُقدم صلاة الفرض على صلاة النذر عند التزاحم.
من الأمثلة على ذلك أيضا: تقديم النفقات، فالفقهاء إذا تكلموا في باب النفقات، تكلموا عن مسألة ما إذا ضاق مال الشخص عن الوفاء بالنفقات الواجبة عليه، فهنا بمن يبدأ؟ كحال من عنده زوجة، وعنده أولاد، وعنده مماليك، وعنده بهائم، بمن يبدأ؟
ذكر الفقهاء ترتيبًا فقالوا: يبدأ بالزوجة، هذا من باب تقديم أوجب الواجبين، إذا لم يمكن القيام بجميع الواجبات على الشرط المتقدم للقاعدة.
الحالة الثالثة: قال: وإن كانت المصلحتان مسنونتين، أيضا يقدم الأفضل، فتقدم السنة الراتبة على النفل المطلق، ويقدم ما فيه نفع متعد على ما كان نفعه قاصر. مثال: أيهما أفضل، تعلم العلم أو صلاة النافلة؟
تعلم العلم؛ لماذا؟ لأنَّ نفعه مُتعد، وأمَّا صلاة النافلة فنفعها قاصر على المصلى، ولهذا من ضوابط الفقهاء أنه يُقدم ما كان نفعه متعدٍ على ما كان نفعه قاصر، وإن كان هذا -كما نبه شيخ الإسلام- ليس على عمومه.
ولهذا المعتكف -مثلا- الأفضل له أن يشتغل بالعبادات القاصرة، من ذكر وصلاة، وتلاوة، وقد تكون مصلحة القاصر في بعض الصور أرجح.
والشيخ -رحمه الله- ذكر في شرحه أنه ينبغي التفطن إلى أمرٍ مُهم في الموازنة بين المصالح والفضائل، وهو أنه قد يعرض للعمل المفضول من العوارض ما يكون به أفضل من الفاضل، وذكر -رحمه الله- بعض الأسباب الموجبة للتفضيل، وهذه قاعدة (تعارض المصالح) ، وذكرت في العنصر الخامس بعض الأسباب الموجبة للتفضيل.
من الأسباب الموجبة للتفضيل: أن يكون العمل المفضول مأمورًا به بخصوصه في هذا الموضع. مثال ذلك: أفضل الذكر قراءة القرآن، فقراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل، ولكن بعدما يسلم الشخص من صلاة الفريضة، هل الأفضل أن يقرأ القرآن أم يسبح ويهلل ويكبر؟
التسبيح والتهليل والتكبير أفضل؛ لأنَّه في هذا الموضع بخصوصه دلَّت الأدلة على أنَّ هذا المفضول أفضل من الفاضل في هذا الموضع بخصوصه، لكن لشخص في غير وقت أدبار الصلوات المكتوبات، قال: أنا الآن ممكن أسبح وأهلل وممكن أقرأ القرآن، نقول: الأفضل أن يقرأ القرآن؛ لأنَّ قراءة القرآن هي أفضل الذكر.
من الأسباب الموجبة للتفضيل: أن يكون العمل المفضول مُشتملا على مصلحة لا تكون في الفاضل، كحصول تأليف القلوب به، مثال ذلك: إمام قوم ألفوا عملاً مفضولاً، تقليدًا أو مذهبًا، وينفرون عمَّا سواه ولا يقبلونه، كشخص صلَّى إمامًا بأناس في بلدهم، يصلون الوتر، والأفضل في الوتر أن تصلى فصلاً، بمعنى يصلي ركعتين، ثم يصلي واحدة مفصولة، هذا هو الأفضل. وصلاة الوتر موصولة -ثلاث ركعات- بسلام واحد جائز، لكنه مفضول، فإذا كان الشخص مع أناس اعتادوا الوصل، ومذهبهم الواصل، وألفوه وينفرون مما سواه، فمصلحة تأليف القلوب واجتماعهم على الطاعة راجحة، ولذا لا بأس أن يعمل بالمفضول وهو الوصل، لكونه محصلاً لمصلحة تأليف القلوب، وأمَّا إذا تيسر أنه يبين السنة ويتقبلون منه، فهذا هو الأفضل، ولكن المسألة مفروضة في حالة ما إذا كانوا لا يتقبلون هذا الأمر منه، فهذا مثال على سبب من الأسباب الموجبة للتفضيل.
منها أيضًا: أن يكون العمل المفضول أصلح للقلب، ولهذا الإمام أحمد -رحمه الله- لَمَّا سئل عن بعض الأعمال، ما أفضلها؟ قال: انظر إلى ما هو أصلح لقلبك فافعله.
أنا ذكرت قبل قليل أنَّ تلاوة القرآن أفضل الذكر، فهي أفضل من التسبيح والتهليل والحوقلة وغيرها من الذكر، لكن إذا نزلت نازلة بشخص واحتاج إلى تقوية الاستعانة بالله، والحوقلة هي: "لا حول ولا قوة إلا بالله" هي كلمة استعانة، فهو يشعر أنَّ قلبه يصلح على تكرار "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فنقول له: الأفضل لك في هذه الحالة أن تلهج ب "لا حول ولا قوة إلا بالله" في هذا الموضع، لكونها صلاحًا لقلبك. هذا أفضل من أنك تقرأ القرآن، فهذا مثال على ما ذكره الإمام أحمد -رحمه الله-.
ثم قال الشيخ: (وَضِدُّهُ تَزاحُمُ المَفَاسِدِ ... يُرْتَكَبُ الأَدْنَى مِنَ المَفَاسِدِ) .
هذه قاعدة (تزاحم المفاسد) ، والشيخ -رحمه الله- بعد أن فرغ من الكلام على قاعدة (تعارض المصالح) تكلم هنا عن الجانب الآخر، وهو: (تزاحم المفاسد) ، وسأتكلم أيضًا عن هذه القاعدة من خلال العناصر التالية:
العنصر الأول: النص الفقهي.
العنصر الثاني: معنى القاعدة.
العنصر الثالث: أحوال تعارض المفاسد.
العنصر الرابع: ذكر دليل على القاعدة.
أمَّا العنصر الأول: فهو النص الفقهي للقاعدة: وقد ذكر العز بن عبد السلام في كتابه: "قواعد الأحكام" لها نصًا بقوله: (إذا تعارض مَفسدتان رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهم) ، وبعض الفقهاء يعبر عن هذه القاعدة بعبارة مختصرة، فيقول: (يُرتكبُ أهونُ الشَّرَّين) هذا النص الفقهي.
العنصر الثاني: معنى القاعدة، وقد بيَّن الشيخ -رحمه الله- معناها في شرحه، فذكر أنَّ المفاسد إمَّا محرمات أو مكروهات، كما أنَّ المصالح إمَّا واجبات أو مُستحبات، فإذا تزاحمت المفاسد بأن اضطر الإنسان إلى فعلِ إحداها، فالواجب ألا يرتكب المفسدة الكبرى، بل يرتكب المفسدة الصغرى، ارتكابًا لأهون الشرين، ودفعًا لأعلاهما. هذا معنى القاعدة.
ثم ذكر -رحمه الله- أحوال تَعارض المفاسد:
الحالة الأولى، قال: "فإن كانت إحدى المفسدتين حرامًا والأخرى مكروهة"، نقول: المفاسد قد تكون حرامًا، وقد تكون مكروهة، تَعَارَض إمَّا أن يرتكب الحرام أو يرتكب المكروه، ماذا يرتكب؟ يرتكب المكروه، يُقَدِّمُ المكروه على الحرام.
مثال ذلك: عنده طعام فيه شبهة، وطعام حرام يقينًا ليس فيه شبهة، الطعام الذي فيه شبهة يُكره كما قال النبي ﷺ: «دعْ ما يُريبُكَ إلى ما لا يُريبُكَ»[2]، وأمَّا الطعام الحرام يقينًا؛ فهذا محرم، فإذا احتاج إلى الطعام فأيهما يأكل؟
يأكل ما فيه شبهة.
قال: "وإذا كانت المفسدتان حرامين. -المثال الأول: ذكرنا حراما ومكروها-، ولكن إذا كانت المفسدتان كلاهما حكمها التحريم، يرتكب أخفهما تحريمًا؛ لأنَّه طبعا لابد وأن يرتكب إحداهما، فهو مضطر. وكذلك إذا كان كلاهما مكروهتين، يرتكب أقلهما كراهة.
المثال الأول على تعارض محرمين: الزنا حرام، والاستمناء أيضا حرام، لكن لو خشي على نفسه الوقوع في الزنا، فإمَّا أن يستمني وإمَّا أن يقع في الزنا؛ فحينئذ يرتكب الاستمناء مع أنه حرام، ولكن نقول: هو أهون الشرين.
مثال آخر على تعارض مكروهين: لو فرضنا أنَّ شخصًا أمامه ما يفتنه في صلاته، كأن تكون امرأة أمامه مثلا، وهذا قد يحصل أحيانا لا سيما في الزحام، أو في أيام الحج في الحرم المكي، يجد الشخص أمامه امرأة، فيكون بين أمرين، إمَّا أن يغمض عينيه، وهذا مكروه، وإمَّا أن يرفع بصره إلى السماء، وهذا مكروه أيضًا على المشهور من المذهب، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّ تغميض العينين في الصلاة مكروه، ورفع البصر إلى السماء مكروه أيضًا، ولكنه في حاجة إلى أن يفعل أحدهما حتى لا يُفتن في صلاته. فماذا يفعل؟
يُغمض عينيه؛ لأنَّ كراهة إغماض العينين أخف من كراهة رفع البصر إلى السماء، ولهذا جاء وعيد في رفع البصر إلى السماء، وذهب بعض العلماء إلى القول بتحريمه، بينما تغميض العينين هو دون ذلك.
فهذه بعض الصور أو بعض الأحوال التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- في شرحه فيما يتعلق ب (تعارض المفاسد) .
العنصر الخامس: دليل القاعدة، حيث إنَّ بعض الفقهاء، والشيخ ابن سعدي استدل بهذا الدليل الواقع في كتابه الآخر، (القواعد الجامعة) حيث ذكروا قصة الخضر في قتله الغلام وخرقه للسفينة، فذكر الشيخ -رحمه الله- أنها تدل على هذا الأصل؛ لأنَّ الأمر دائر بين قتل الغلام وهو مفسدة، وبين إرهاق الأبوين وإفساد دينهما، وهو مفسدة أكبر، فارتُكِبَ الأخف، وخرق السفينة مفسدة، وذهاب السفينة كلها غصبًا من الملك الذي أمامهم مفسدة أكبر. فهذا ذكره الشيخ -رحمه الله- كدليلٍ على القاعدة.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (

ومن قواعد الشَّريعةِ التَّيْسِيرُ ... في كُلِّ أَمْرٍ نَابَهُ تَعْسِيرُ
وَلَيْسَ وَاجِبٌ بِلا اقْتِدَارِ ... وَلاَ مُحَرَّمٌ مَعَ اضْطِرارِ

) }.
قوله: (ومن قواعد الشَّريعةِ التَّيْسِيرُ ... في كُلِّ أَمْرٍ نَابَهُ تَعْسِيرُ) .
هذا إشارة من الشيخ -رحمه الله- إلى قاعدة كلية كبرى، ما هو النص الفقهي لهذه القاعدة؟ عموما أنا سأتحدث عن هذه القاعدة من خلال عناصر:
العنصر الأول: النص الفقهي للقاعدة.
العنصر الثاني: منزلة القاعدة.
العنصر الثالث: أدلة عليها.
العنصر الرابع: أنواع التيسير في الشريعة. هذه أبرز عناصر الحديث عن هذه القاعدة.
أبدأ بالنص الفقهي، الفقهاء يعبرون عن هذه القاعدة فيقولون: (المشقة تجلب التيسير) . إذًا هذا هو النص الفقهي.
العنصر الثاني، منزلة القاعدة: هذه القاعدة من القواعد الكلية الكبرى، هناك قواعد كلية كبرى خمس يدور عليها الفقه، من ضمنها قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) وكان معنا قاعدة: (الأمور بمقاصده) ، وأشرت سابقًا إلى قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار) أو قاعدة: (الضرر يُزال) ، وسيأتي -إن شاء الله- ذكر بقية هذه القواعد.
إذًا هذه القاعدة من ضمن القواعد الكلية الكبرى، ولهذا فإنها تدخل في أبواب كثيرة من أبواب الفقه. هذا ما يتعلق بالعنصر الثاني، وهو: منزلة القاعدة.
العنصر الثالث، أدلة عليها: الشيخ -رحمه الله- في شرحه على المنظومة ذكر دليلاً، ويمكن أن يضاف عليه إليه دليل آخر، فمن الأدلة قوله سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78]، ودليل ثان قوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة:185].
العنصر الرابع، أنواع التيسير في الشريعة: الشيخ -رحمه الله- ذكر في شرحه أنَّ الأمور نوعان:
النوع الأول: لا يطيقه العباد، فهذا لا يكلفهم الله به، ولهذا من القواعد قاعدة: (عدم التكليف بما لا يستطاع أو يطاق) .
النوع الثاني: ما يطيقونه، واقتضت حكمة الشريعة أن يأمرهم الله به؛ لأنه ضمن قدرتهم وطاقتهم، لكن مع ذلك قد يحصل في هذا الأمر -الذي هو في نطاق الوسع والطاقة- قد يحصل في بعض الأحوال على المكلف معه مشقة وعسر، وحينئذ يأتي التخفيف والتيسير، ولهذا يقولون: (المشقة تجلب التيسير) .
اليسر في الشريعة نوعان:
النوع الأول: يسر أصلي: بمعنى أنَّ شريعة الإسلام كلها توصف بأنها شريعة اليسر، وكلها حنيفية سمحة، وهذا عام في التشريعات الربانية، فهي ميسرة في عقيدتها، في أركان دينها، في عباداتها، في معاملاتها، في سائر شؤونها، فهذا تيسير عام توصف به الشريعة، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة:185].
النوع الثاني من التيسير: وهو تيسير وتخفيف طارئ لعارض، وهذا هو الذي يريده الفقهاء بقولهم: (المشقة تجلب التيسير) ، وهذا النوع يدخل فيه الرخص في العبادات وغيرها، فرخصة القصر، والجمع، والمسح على ما يجب غسله، كالخفين والجوارب، والتيمم عند خوف الضرر من استعمال الماء، وما أشبه ذلك، هذه الرخص الشرعية هي من قبيل قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) .
الشيخ -رحمه الله- بَيَّنَ فروع هذه القاعدة، ومن الفروع التي ذكرها في العبادات: مشروعية التيمم عند خوف الضرر من استعمال الماء، فالتيمم كما يذكر الفقهاء في بابه يُشرع إذا تعذر استعمال الماء، ويتعذر استعمال الماء إمَّا في حال عدمه، أو في حال خوف الضرر باستعماله، فمشروعية التيمم في حال خوف الضرر هي من فروع قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) .
مثال آخر: القعود في الصلاة للمريض العاجز عن القيام، أو الذي يلحقه مشقة في القيام، بحيث إذا قام لا يستطيع الخشوع؛ لألم يعتريه إذا صلى قائمًا، هذا من المشقة التي تجلب التيسير، فيرخص له حينئذ أن يُصلي جالسًا، ونقول: إن هذا من فروع قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) .
وقصر الصلاة في السفر، والجمع بين الصلاتين، المسافر لو أُلزم بأن ينزل في وقت كل صلاة لكان في ذلك مشقة، وقد لا يتيسر له الصلاة في مركوبه، ونزوله في وقت كل صلاة يقطعه عن سفره، فمن رعاية الشريعة لهذه المشقة التي تلحق المسافر، أن أجازت له الجمع بين الصلاتين في حال السفر ونحوه.
من التخفيفات أيضًا: الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة، والفقهاء يذكرون جملة من الأعذار كالمرض، والخوف، وما أشبه ذلك، تسقط بها الجمعة والجماعة. فهذه كلها أمثلة على قاعدة المشقة تجلب التيسير.
وقوله: (وَلَيْسَ وَاجِبٌ بِلا اقْتِدَارِ ... وَلاَ مُحَرَّمٌ مَعَ اضْطِرار)
هذا البيت تضمن قاعدتين، قال: (وَلَيْسَ وَاجِبٌ بِلا اقْتِدَارِ) هذه قاعدة، وقوله: (وَلاَ مُحَرَّمٌ مَعَ اضْطِرار) قاعدة أخرى، والقاعدتان بينهما ترابط، ولهذا سيكون الحديث فيهما من خلال العناصر التالية:
العنصر الأول: النص الفقهي للقاعدتين، مع بيان بعض فروعهما.
العنصر الثاني: دليل القاعدتين.
العنصر الثالث: معنى الضرورة.
العنصر الرابع: شروط إباحة الضرورة للمحظور.
فنبدأ أولا بالنص الفقهي للقاعدتين: أمَّا القاعدة الأولى (وَلَيْسَ وَاجِبٌ بِلا اقْتِدَارِ) فقد عبَّرَ بعض الفقهاء عنها فقالوا: (لا واجب مع العجز) ، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- في كتابه الآخر: (القواعد والأصول الجامعة) عَبَّرَ عنها بقوله: (الوجوب يتعلق بالاستطاعة) ، فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، وهذه العبارة تضمنت القاعدتين.
القاعدة الثانية، وهي القاعدة التي أشار إليها بقوله: (وَلاَ مُحَرَّمٌ مَعَ اضْطِرار) يعبر عنها الفقهاء بتعبير مشهور، ماذا يقولون؟
(الضرورات تبيح المحظورات) ، هذا ما يتعلق بالعنصر الأول، وهو النص الفقهي للقاعدتين.
ولعلي أذكر مع النص الفقهي للقاعدتين بعض فروعهما:
القاعدة الأولى، قلنا: (لا واجب مع العجز) ، ومن الأمثلة على ذلك: شخص عجز عن القيام في صلاة الفريضة، وتعلمون أنَّ القيام مع القدرة في الفريضة ركن من أركان الصلاة، لكنه عجز عن القيام، أي: يصلي جالسًا، فنقول: (لا واجب مع العجز) ، وصلاته صحيحة.
مثال ثانٍ: صيام رمضان واجب على عموم المكلفين، شخص كبير في السن سبَّبَ له كبر السن العجز عن الصيام، هل يجب عليه الصيام؟
نقول: (لا واجب مع العجز) ، وإنما يكون عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا. فهذه من فروع قاعدة: (لا واجب مع العجز) .
والشيخ -رحمه الله- في شرحه نَبَّهَ على أمر مُهم، وهو أنه إذا عجز المكلف عن واجب من الواجبات فسقط عنه بمقتضى هذه القاعدة، فإنَّ من فضل الله أنه يُكتب له الأجر، إذا كان قبل عجزه يقوم بهذا الواجب، ولولا عجزه الآن لقام به، فنيته وسابقة أمره تجعل له الأجر موفورًا، ولهذا قال ﷺ: «إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحً»[3]. هذه أمثلة على القاعدة الأولى.
القاعدة الثانية، وهي قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) ذكر الشيخ في شرحه لها أمثلة، وأمثلتها مشهورة مثل: المضطر في حال المسغبة، يعني: الجوع الشديد، كشخص مثلا في صحراء، ليس عنده طعام إلا ميتة، وخاف على نفسه الهلاك، والميتة حرام بالنص والإجماع، يجوز له حينئذ أن يأكل من الميتة ما يُبقي به نفسه، ونقول: هذا الفرع داخل في قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) .
شخص غَصَّ بلقمة، وليس عنده إلا كأس خمر، أو ماء نجس، وخشي على نفسه الهلاك، والخمر حرام، والماء النجس شربه حرام أيضًا. هل يجوز له أن يدفع هذه الغصة بأحد هذين المحرمين؟ نعم؛ لأنَّ الضرورات تُبيح المحظورات. هذه بعض الأمثلة على القاعدة، بعد بيان النص الفقهي لها.
أنتقل الآن إلى دليل القاعدتين، من أدلة القاعدة الأولى، قوله سبحانه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، وقوله ﷺ: «وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ»[4]، والحديث متفق عليه.
القاعدة الثانية، من أدلتها قوله سبحانه: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام:119].
العنصر الثالث، معنى الضرورة: المراد بالضرورة، يعني: الحالة التي يصل الإنسان فيها إلى حد إذا لم تراع هذه الضرورة لجزم أو خيف أن تضيع مصالحه الضرورية. ومن المصالح الضرورية حفظ النفس، فإذا وصل به الجوع إلى درجة أنه إن لم من الميتة؛ فإنه يجزم بأنه سيموت أو يخاف أنه يموت جوعًا.
حينئذ يجوز له أكل الميتة؛ لأنَّ هذا يعد ضرورة بناء على الضابط المتقدم.
العنصر الرابع، شروط إباحة الضرورة للمحظور:
الشرط الأول: ألا يوجد ما يدفع الضرورة سوى المحرم، فلو فرضنا أنَّ شخصًا غصَّ بلقمة -كما ذكرت- وعنده كأس خمر، وكأس من ماء، فهل يجوز له أن يدفع اللقمة بالخمر؟ نقول: لا يجوز؛ لأنه يمكن أن يدفع الضرورة بالمباح.
الشرط الثاني: أن يكون البقاء على حال الضرورة أشد من الإقدام على المحرم، أمَّا إذا كان البقاء على حال الضرورة مثله أو أقل منه؛ فالضرورة حينئذ لا تُبيح المحظور. مثال المساوي: أن يقول له شخص مكره له، قادر على فعل ما هدد به: اقتل فلانًا وإلا قتلناك، هل نقول هذه ضرورة تبيح له القتل؟
هذا مساو، وليست نفسه أولى بالأحياء من نفس الآخر.
الأنقص لو قال له: اقتل فلانا وإلا أخذنا مالك، فضرورة حفظ المال أقل من ضرورة حفظ النفس، فلا يُبيح له ذلك أن يقدم على القتل.
الضابط الثالث: يقول الفقهاء: "الضرورة تقدر بقدرها"، ويستدل بقوله سبحانه: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة:173]، والمراد بالباغي والعادي: أي الذي يبغي الحرام مع قدرته على الحلال، والعادي هو الذي يتجاوز قدر الحاجة. ولهذا يقول الفقهاء: إنَّ المضطر إلى الميتة يأكل بقدر ما يبقي حياته، ويبقي رمقه، وليس له أن يشبع من الميتة؛ لأنَّ الضرورة تُقَدَّر بقدرها.
كذلك كشف للعلاج، لا يجوز أن يكشف من العورة إلا بقدر ما تدعو إليه الضرورة أو الحاجة، لأنَّ الضرورة تُقدر بقدرها.
هناك ضابط رابع، وهو أن الاضطرار لا يبطل حق الغير، بمعنى أنه إذا تعلق إتلاف حال الضرورة؛ فإن المتلف يلزمه الضمان. مثال ذلك: شخص في مخمصة، أي: جوعٍ شديدٍ، وما وجد إلا شاة مملوكة ل "زيد" من الناس، وبالطبع لا يجوز أن يذبح شاة مملوكة لغيره دون إذن مالكها. نقول: يجوز له أن يذبحها، ولكن يضمن قيمتها؛ لأنَّ الاضطرار لا يُبطل حق الغير، فيجوز لك ولا إثم عليك، ولكن تضمن لغيرك ما أتلفته من ماله.
هناك قيد لهذا الضابط ذكره ابن رجب، حيث قال: "من أتلف شيئًا لدفع أذاه لم يضمنه، وإن أتلفه لدفع آذاه به ضمنه".
يُبين الفرق بين الأمرين: من أتلف شيئًا لدفع أذاه لم يضمنه، يعني: لو أنَّ بعيرًا هاج عليك، وخشيت أن يقتلك، فدفعته وقتلته دفاعًا عن نفسك، فهل تضمنه أو لا تضمنه؟
لا تضمنه؛ لأنك قتلته لدفع أذاه، فهذا صار من قبيل دفع الصائل ولا ضمان فيه، وأمَّا إذا كان الأذى من الجوع -مثل المثال الذي ذكرناه قبل قليل- الأذى ليس من الشاة المملوكة ل "زيد"، وإنما من الجوع، فأردت أن تدفع الجوع بذبح شاة "زيد"، فحينئذ تضمن الشاة ل "زيد".
الضوابط هذه تضمنت ما يتعلق بقول المؤلف -رحمه الله-:

(وَكُلُّ مَحْظُورٍ مَعَ الضَّرُورَهْ ... بِقَدْرِ مَا تَحْتَاجُهُ الضَّرُورَهْ)

فالضابط الثالث هو بيان لشرح معنى هذا البيت، ولهذا، فهذا البيت هو في الواقع شرط من شروط قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) .
أسأل الله -جل وعلا- أن يُوفق الجميع للعلم النَّافع، والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------
[1] رواه مسلم (710) .
[2] أخرجه الترمذي (2518) ، وأحمد (1723) .
[3] رواه البخاري (2996) .
[4] رواه البخاري (7288) ، ومسلم (1337) .
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ