الدرس الثالث
فضيلة الشيخ أ.د. سامي بن محمد الصقير
إحصائية السلسلة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بعد:
فقد تقدم الكلام على المرتبة الثانية وهي الإيمان، وأنَّ الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قال رحمه الله: (وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾) أي أنَّ البر الحقيقي ﴿مَنْ آمَنَ بِاللّهِ﴾ أي: صدق به وأذعن وانقاد.
﴿مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾.
(ودليل القدر: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾) أي: بتقدير سابق لخلقنا، وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ.
ثم قال رحمه الله: (الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِحْسَانُ)، ثم قال: (رُكْنٌ وَاحِدٌ، وهو: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»).
قوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» فتعبده عبادة طلب، «فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» فتعبده عبادة هرب، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ فأثبت سبحانه وتعالى معيته للمتقين ومعيته للمحسنين.
قال: (وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾) أي: يراك ويرى تقلبك في الساجدين ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
(وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ﴾) أي: ما تكون في عملٍ من الأعمال، ﴿وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودً﴾ أي: مُشاهدين مراقبين لأعمالكم، سامعين لأقوالكم.
﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي: إذ تأخذون فيه قبل العمل، فهو سبحانه وتعالى يعلم ذلك قبل العمل ويعلمه بعد العمل، لكن علمه بعد العمل هو العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب.
قال: (وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ: عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ) ولم يقل: يا رسول الله لِيُوهِم الناس أنه أعرابي، فقال: (أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ فَقَالَ: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَه إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلً») فذكر أركان الإسلام، وهي الأعمال الظاهرة، وهكذا يُفسر الإسلام إذا قُرِنَ مع الإيمان، فإذا قيل: إيمان وإسلام فإنَّ الإسلام يُفَسَّر بالأعمال الظاهرة، والإيمان يُفَسَّر بالأعمال الباطنة.
(قَالَ: صَدَقْتَ) أي: أخبرت بالصدق، (فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ)؛ لأنَّ من شأن السائل أن يكون جاهلاً بما يسأل عنه، فكيف يسأل عن شيء ثم يصدق هذا الشيء.
(قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قَالَ: صَدَقْتَ) أي: أخبرت بالصدق. (قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ») أي: أنَّ تتذلل له بالطاعة حبًا وتعظيمًا.
«كَأَنَّكَ تَرَاهُ» أي: كأنه أمامك سبحانه وتعالى.
«فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ» أي: إن لم تتعبد له على هذه الصفة، «فَإِنَّهُ يَرَاكَ» أي: فاعبده كأنه يراك، أي: فاعبده فإنَّه يَراك.
قوله «كَأَنَّكَ تَرَاهُ» هذه عبادة الطلب، وعبادة الطلب أبلغ؛ لأنها تكون عبادة شوق، بينما «فَإِنَّهُ يَرَاكَ» عبادة الهرب.
(قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ) أي: ما المراد بالساعة؟ ومتى تقوم الساعة؟ فقال: قَالَ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» أي: إن كنت تجهلها فأنا أجهلها أيضًا.
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَ) أي: عن علاماتها التي تسبق قيامها.
قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَ» أي: سيدتها، والمعنى أنَّ الإماء يكثرن حتى يلدن من يكونون أسيادًا، «وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ» يعني: ومن أمارات الساعة وعلاماتها «أَنْ تَرَى الْحُفَاةَ» جمع حاف، وهو الذي لا نعال له، و «الْعُرَاةَ» جمع عارٍ وهو الذي لا ثياب عليه، و «الْعَالَةَ» جمع عائل وهو الفقير، «رِعَاءَ الشَّاءِ» يعني: الغنم، «يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ» وهذا التطاول قد يكون تطاولاً حسيًا برفعها، وقد يكون تطاولاً معنويًا بتزويقها وتحسينها وتجميلها.
(قَالَ: فَمَضَى، فَلَبِثْنَا مَلِيَّ) أي: زمنًا بعد انصرافه، فَقَالَ: «يَا عُمَرُ أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم» وفي رواية: «يُعَلِّمُكُمْ دِينِكُم».
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ مَا ذُكِرَ في هذا الحديث مِن أمر الدين، بل هو الدين كله؛ لأنَّه اشتمل على أصول الدين وعقائده وشرائعه، وأخبر أيضًا عن أمور تكون في المستقبل وهي أمارات قيام الساعة.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (الأَصْلُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الأصل الثالث، أي من أصول الدين الثلاثة التي يجب على الإنسان أن يعرفها وأن يعمل بها.
(مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ) لأنَّ معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم أصل من أصول الدين، فكما أنَّ الأصل الأول: هو معرفة العبد ربه، والثاني: معرفته لدينه، فكذلك الثالث: أن يعرف رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: (وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ) هذا هو نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف الأنساب وأرفعها.
قال رحمه الله: (وَلَهُ مِنَ الِعُمُرِ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً) أي: إنه توفي عن ثلاثٍ وستينَ سنة، عليه الصلاة والسلام، وقد كانت ولادته في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر إلى المدينة، وفيه توفي عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال عن يوم الاثنين: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ».
قال: (مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ) النبوة من النبأ، والنبأ هو الخبر الهام؛ لأنَّ النبي يخبر عن الله عز وجل، وقيل: إنَّ النُّبوة من النَّبْوَة وهي: المكان المرتفع لعلو مرتبته وارتفاعه.
قال: (وَثَلاثٌ وَعِشْرُون َفي النبوة) أي: ثلاث وعشرون سنة نبيًا ورسولاً، فجمع الله له بين النبوة والرسالة، والرسول هو كل من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وأمَّا النبي فهو الذي أوحي إليه بشرع ولم يُؤمر بتبليغه، وإنما يتعبد بشريعة من سبقه.
(نُبِّئَ ب(اقْرَ)، وَأُرْسِلَ بـ (الْمُدَّثِّرْ))، نبئ: أي أُنزل عليه القرآن، وهو قول الله عز وجل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ وهذا فيه التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علق، وإنما خصَّ الإنسان لِمَا أودعه الله عز وجل فيه من عجائب آياته.
(وَأُرْسِلَ بـ (الْمُدَّثِّرْ)) أي: بأول سورة المدثر، وهي قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.
قال: (وَبَلَدُهُ مَكَّةُ)؛ لأنَّه ولد فيها عليه الصلاة والسلام، ونشأ بها إلا ما كان منه مع مرضعته حليمة السعدية في البرية.
قال: (وهاجر إلى المدينة) هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة بعد أن هَمَّ كفار قريش بقتله، فتغيب في الغار، ثم سار هو وأبو بكر رضي الله عنه مُهَاجِرَينِ إلى المدينة، وذلك بعد أن بايعه أهل المدينة على المناصرة والمؤازرة.
(بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَبالَدْعُوة إِلَى التَّوْحِيدِ) ذكر رحمه الله هنا مجملاً ما بُعِثَ به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه بُعِثَ بالدَّعوة إلى التوحيد، والإنذار والتحذير من الشرك.
والمصنف رحمه الله هنا قدَّم النِّذارة عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد؛ لأنَّ هذا هو مدلول كلمة التوحيد، البداءة بالنِّذارة عن الشرك ثم الدعوة إلى التوحيد، (لا إله إلا الله) فيها إثباتٌ ونفيٌ، ففيها إثبات الألوهية لله تعالى ونفيها عمَّن سواه.
قال: (﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾)، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ أصلها المتدثر، والمعنى المتنفس بثيابه، المتغشي بها من الرعب الذي حصل له من رؤية الملك عند نزول الوحي.
﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ أي: قم من دثارك فأنذرهم وحذرهم من عذاب الله عز وجل إن لم يؤمنوا، وبهذا حصل إرساله صلى الله عليه وسلم، كما حصل بالآية الأولى، وهي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي﴾ عليه الصلاة والسلام.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أي: عَظِّمه سبحانه وتعالى، ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ المراد بالثياب هنا: الثياب المعنوية، وهي تطهير النفس من دنس الشرك.
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ أي: اترك الأوثان ولا تقربها، والرجز في الأصل هو القدر، قال الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾.
قال: ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ أي: لا تعطي مالك مُصَانَعَةً لأجل أن تُعْطَى أكثر منه، ﴿وَلاَ تَمْنُن﴾ على الله عز وجل بعملك فتستكثر هذا العمل فلا يقع في عينك أن عملك كثير، تستكثر على الله عز وجل وحينئذ تضعف عن العمل الصالح.
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ أي: اصبر على طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة؛ لأنَّ الصبر ثلاثة أنواع، صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
قال الإمام المجدد رحمه الله: (وَمَعْنَى: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾: يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ)؛ لأنَّ الشرك هو أعظم ذنب عُصِي الله عز وجل به.
قوله: (وَيَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ) أي: يدعو إلى عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، وهذه هي دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، كما قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾.
قال: (﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ)، وطهر نفسك أيضًا مما يُستقذر من الأقوال والأعمال والأفعال.
قال: (﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾). قال رحمه الله: (الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلُهَ) أي: أن يتبرأ من هذه الأصنام وان يتبرأ من أهلها، وذلك لأنَّ البراءة كما تقدم نوعان:
براءة من عمل.
وبراءة من عامل.
فأمَّا البراءة من العمل؛ فإنه يجب على كل مؤمنٍ أن يتبرأ من كل عملٍ مخالفٍ لشريعة الله عز وجل، سواء كان كفرًا أو فسقًا، ومعنى البراءة منه: ألَّا يفعله وألا يرضاه وألا يقره وألا يجالس أهله ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وأمَّا النوع الثاني من البراءة: فهي البراءة من العامل، فإن كان عمله كفرًا وجبت البراءة منه بكل حال، ومن كان عمله فسقًا فإنه يتبرأ منه من وجه دون آخر، فيتبرأ منه لِمَا عنده من الكفر والفسوق والعصيان، ويوالى بما عنده من الطاعة والإيمان.
قال رحمه الله: (أَخَذَ عَلَى هَذَ) أي: على هذه الدعوة، وهي الدعوة إلى التوحيد والإنذار من الشرك (عَشْرَ سِنِينَ)، (يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ) وإلى عبادة الله، (وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ) أُسْرِيَ بجسده وروحه جميعًا من المسجد الحرام على البراق إلى بيت المقدس يقظة لا منامًا، كما أخبر الله تعالى بذلك في قوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾.
قال: (وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ) وكان أول فرضها خمسين صلاة، ولم يزل عليه الصلاة والسلام يتردد بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين ربه عز وجل، حتى وصلت إلى خمس، وقال: «هي خمس بالعمل وخمسون في الميزان، الحسنة بعشر أمثاله».
قال: (وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سِنِينَ) أي: بعد أن عُرِجَ به وفرضت عليه، فقد كان فرضها قبل الهجرة كما تقدم، (وَبَعْدَهَا أُمِرَ بالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أي: وبعد الثلاث عشرة سنة أَمَرَه الله عز وجل بأن يُهاجر إلى المدينة، أمره بمفارقة المشركين ومفارقة أوطانهم بحيث يتمكنوا من إظهار دينه، ومن الدعوة إلى الله عز وجل في المدينة.
قال رحمه الله: (وَالْهِجْرَةُ الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ) الهجرة لها معنيان: معنى عام ومعنى خاص، فأمَّا المعنى العام للهجرة فإنها تشمل هجرة المكان وهجرة العمل وهجرة العامل.
هجرة المكان: أن يهجر المكان الذي يُعصى فيه الله عز وجل ويبتعد عنه.
وهجرة العمل: أن يهجر كل عملٍ مخالفٍ لشريعة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ».
وهجرة العامل: أن يهجر العامل الذي يفعل المعاصي والفجور أو يدعو إليها أو يدعو إلى البدع ونحو ذلك إذا رأى المصلحة في هجره، هذا هو المعنى العام للهجرة.
وأمَّا الخاص: فهو الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وَالْهِجْرَةُ الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ) ينتقل إلى بلد الإسلام حفاظًا على دينه، ولهذا سُمي المهاجر مُهاجرًا؛ لأنه هجر بلاده ووطنه ومسكنه وأهله لأجل أن يقيم دينه في البلد الذي هاجر إليه.
قال: (وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بلد الإِسْلامِ) فإذا كان الإنسان يُقيم في بلدٍ ولا يستطيع أن يُظهر دينه؛ فإنه يجب عليه أن يُهاجر، وأمَّا إذا كان في بلد كفر وكان هذا البلد فيه خير ومصلحة ودعوة فإنَّ بقاءه يكون جائزًا، بل قد يكون واجبًا.
قال رحمه الله: (وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ) فالهجرة وهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام باقية إلى قيام الساعة، قال: (﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَ﴾) يعني: إلى المدينة، فتخرج من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، ﴿فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءتْ مَصِيرًا مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآء وَالْوِلْدَانِ﴾ أي: الذين عجزوا عن الهجرة، والولدان جمع وليد ووليدة، وهو الغلام قبل أن يحتلم.
قال: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ أي: لا يستطيعون مُفارقة المشركين، فلا يقدرون على حيلة ولا على نفقة ولا على قوة في الخروج من بلدهم إلى بلد الإسلام، ﴿وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلً﴾ فلا يعرفون طريق الخروج من مكة إلى المدينة، فهؤلاء ﴿عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ أي: أن يتجاوز عن هؤلاء المستضعفين، ﴿وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورً﴾ فهو سبحانه وتعالى غفور رحيم يتجاوز عن سيئاتهم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
قال: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾) أَمَرَ الله تعالى عباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يَقدرون فيه على إقامة دينهم إلى أرض الله الواسعة، وأخبر أنَّ أرضه سبحانه وتعالى واسعة وليست ضيقة، تتسع لجميع الخلائق، فإذا كان الإنسان في أرض لا يتمكن من إظهار دينه فيها فإنه يجب عليه أن يُهاجر، فأرض الله تعالى واسعة تتسع لجميع الخلق.
ثم قال: ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ وعبادته سبحانه وتعالى معناها التذلل له في الطاعة حبًا وتعظيمًا؛ لأنَّ بالحب يكون الطلب، وبالتعظيم يكون الهرب.
قال: (قَالَ الْبُغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: نزلت هَذِهِ الآيَةُ فِي المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ ولَمْ يُهَاجِرُوا، نَادَاهُمُ اللهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ) أي: من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، (قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَ») فإذا طلعت الشمس من مغربها فحينئذ لا تنفع التوبة ولا تقبل، والتوبة: هي الرجوع إلى الله عز وجل من معصيته إلى طاعته، وهي واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها ولا التسويف فيها؛ لأنَّ أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم على الفور، قال الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحً﴾.
والتوبة النصوح: هي ما استكملت خمسة شروط.
الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى، بأن يكون الحامل على التوبة الخوف من عقابه ورجاء ثوابه لا رياء ولا سمعة، ولا ليثنى عليه أو يمدح.
الشرط الثاني من شروط التوبة: الندم على ما مضى، بحيث يندم على ما فعل من الذنوب والمعاصي، ويتمنى أنه لم يفعل تلك المعاصي، وهذا يورث له ان في قلبه وخضوعًا وخشوعًا.
الشرط الثالث: الإقلاع عن الذنب فورًا، فإن كان الذنب بترك واجب بادر بفعله، وان كان الذنب بفعل معصية بادر باجتنابها، أي: بتركها.
الشرط الرابع: العزم على ألا يعود إلى ذلك في المستقبل، فمن تاب من ذنب ونفسه تحدثه إنه متى تيسر له فعله؛ فإنَّ هذه التوبة ليست توبة صادقة، وليست توبة نصوحًا، وليست توبة مقبولة.
والشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، وهو نوعان: عام وخاص.
فأمَّا العام فأن يتوب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، قال الله عز وجل: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرً﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطعُ الهجرةُ حتى تنقطعَ التوبةُ، ولا تنقطعُ التوبةُ حتى تطلعَ الشَّمسُ من مَغربِه» وأمَّا الوقت الخاص فهو حضور الأجل، فإذا حضر أجل الإنسان لم تنفع التوبة، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر».
قال الإمام رحمه الله: (فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ: الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالأَذَانِ، وَالْجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ) وأمَّا الصلاة فقد فرضها الله تعالى قبل أن يُهاجر عليه الصلاة والسلام.
قال: (وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ) كبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الأمانات وسائر مكارم الأخلاق والآداب. (أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ) أي: بعد هجرته إلى المدينة مكث عليه الصلاة والسلام عشر سنين يدعو إلى الله عز وجل ويبلغ رسالة ربه، تحقيقا وامتثالا لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾.
قال: (وَتُوُفِّيَ صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَدِينُهُ بَاقٍ) أي: دينه محفوظ وباق إلى قيام الساعة؛ لأنَّ الله عز وجل تكفل بحفظ هذا الدين، وتكفل ببقائه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
قال رحمه الله: (وَهَذَا دِينُهُ، لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ) يعني بذلك: الدين الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وتكفل الله عز وجل بحفظه، وتوارثه أهل العلم والدين خلفًا عن سلف، هذا الدين لا خير إلا دَلَّ الأمة عليه، كما قال عز وجل في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
(وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ) أي: على أمته من الوقوع في الهلاك، فقد بلغ عليه الصلاة والسلام الدين كله. وبينه جميعا.
قال المؤلف رحمه الله: (وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ، وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ) هذا هو الخير الذي دلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمته عليه، أولاً التوحيد: وهو أصل كل خير وأعظم كل خير، فهو أوجب الواجبات والذي من أجله خلق الله الخلق، ومن أجله أرسل الرسل، وأنزل الكتب،
قال: (وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ)، وأيضًا هذا من الخير الذي حَثَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمته عليه ودلهم عليه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قال: (وَالشَّرُ الَّذِي حَذَّرَهَا مِنْهُ الشِّرْكُ، وَجَمِيعُ مَا يَكْرَهُ اللهُ وَيَأْبَاهُ) والشرك هو أصل كل شر وبلاء، وهو أول ما أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أي: أنذر عن الشرك، وجميع ما يكرهه الله ويأباه، أي: يمنعه من الأقوال والأعمال.
قال: (بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً) فرسالته عليه الصلاة والسلام عامة لجميع الخلق، قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعً﴾ وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الرسل سابقًا كان الرسول يبعث إلى قومه خاصة، قال: «وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً».
قال رحمه الله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعً﴾)، فقد بعثه الله تعالى إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والانس، وأكمل الله به الدين، وأكمل الله تعالى به الدين وأتمه، فلم يمت عليه الصلاة والسلام حتى أكمل الله تعالى به الدين، وبلَّغ البلاغ المبين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى المَحجّةُ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا إلا هالك».
قال رحمه الله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينً﴾) لَمَّا أخبر سبحانه وتعالى أنَّه كَمَّل لنا الدين، وهو أكبر النِّعم وأعظم النِّعم قال: ﴿وَأَتْمَمْتُ﴾ أي: اكملت عليكم نعمتي، ومن تمت عليه نعمة الله تعالى فقد أفلح كل الفلاح، ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينً﴾ أي: فالواجب عليكم أن ترضوا به لأنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه لعباده، وبعث به أفضل رسله، وأنزل به أشرف كتبه، وهو القرآن العظيم.
قال: (وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾) أي: إنك يا محمد ستموت، وقد قام أبو بكر لَمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أمَّا الموتة الأولى التي كتبت عليك فقد متها، وقال تعالى: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتُلِ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾) أي: سيموتون، فجميع الخلائق سوف تموت، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، وقال عز وجل: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾.
قال: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ يوم القيامة هو يوم الجزاء والحساب، سوف تختصمون عند الله تعالى، ويجازيكم بأعمالكم ويقتص لبعضكم من بعض، حتى البهائم.
قال رحمه الله الناس: (وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُواْ يُبْعَثُونَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾) أي: من الأرض مبدأكم، فإنَّ أباكم آدم مخلوق تراب. (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) أي: في الأرض، نعيدكم إذا متم، فإنكم تصيرون إليها فتدفنون فيها، ﴿وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ أي: مرة أخرى، كقوله عز وجل: فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون.
قال تعالى: (وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجً﴾) بَيَّنَ الله عز وجل مبدأ خلق آدم وأنه خلق من الأرض، والناس أولاد له. فقال: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتً﴾ و (نباتً) اسم وضع موضع المصدر، أي: إنباتا، ﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَ﴾ أي: يُعيدكم في الأرض بعد موتكم، ﴿وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجً﴾ أي: يعيدكم يوم القيامة كما بدأكم أول مرة، كما قال عز وجل: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾.
قال رحمه الله: (وَبَعْدَ الْبَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ) أي: أنَّ الناس بعد البعث يحاسبون على أعمالهم حُسنها وسيئها، والإيمان بالحساب والمجازاة على الأعمال من الإيمان باليوم الآخر؛ لأنَّ الإيمان باليوم الآخر يدخل به الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيحاسبون ويجازون على أعمالهم دقيقها وجليلها وصغيرها وكبيرها.
قال: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾) فيجزي الذين أساؤوا بما عملوا من الشرك، وما دونه من المعاصي، ﴿الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ أي: وحدوا ربهم وأخلصوا له العبادة بالحسنى وهي الجنة، وقال عز وجل: ﴿لتجزى كل نفس بما تسعى﴾.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ)؛ لأنَّه مُكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين، (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُو﴾) فكفرهم الله عز وجل؛ لأنَّهم أنكروا البعث حسب زعمهم، فحسب زعمهم أنهم لن يبعثون، فدلَّ هذا على أنَّ إنكار البعث كفر، بل هو من أعظم كفر أهل الجاهلية.
﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ أي: قل يا محمد: بلى وربي لتبعثن يوم القيامة، وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يُقسم بربه عز وجل، فإنَّ الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم في القرآن في ثلاثة مواضع لا رابع لها.
الموضع الأول: في سورة يونس، قال الله عز وجل: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾.
والموضع الثاني في سورة سبأ: قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾.
والموضع الثالث: في سورة التغابن في الآية التي ساقها المؤلف رحمه الله في قول الله عز وجل: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ أي: ليخبركم الله عز وجل بجميع أعمالكم، جريرها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، كما قال الله عز وجل: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾.
قال: ﴿وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ أي: عليه سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.
قال المؤلف رحمه الله: (وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي: أنَّ جميع الرسل من أولهم من نوح عليه الصلاة والسلام إلى أخرهم وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم يدعون إلى عبادة الله عز وجل وحده، وإلى ترك عبادة غيره.
(مُبَشِّرِينَ) أي: بعثوا مُبشرين، من أجابهم إلى ما دعوه إليه برضوان الله عز وجل وبكرامته وجنته، (وَمُنْذِرِينَ) ومحذرين من خالفهم وعصاهم بغضب الله تعالى وسخطه وعقابه، قال الله تعالى: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ فانقطعت حجة الخلق على الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإقامة الحجج عليهم، وتبين لهم الحق.
قال: (وَأَّولُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فهو آخر الرسل إلى أهل الأرض بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين.
قال الله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نَبِيَّ بَعْدِي» وقد أجمع المسلمون على ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد نوح، فهو أول رسول وأول نذيرٍ عن الشرك).
قال رحمه الله: (وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِا رَسُولًا مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كما قال تعالى:
﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ وهذا يدل على أنَّ كل أمَّة من الأمم بعث الله تعالى فيها رسولا.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ) وهذا فرض على جميع العباد أن يكفروا بالطاغوت وأن يؤمنوا بالله تعالى، ومن أجله أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب.
(قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ) فكل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود كالأصنام أو متبوع كالكهان والسحرة وعلماء السوء.
وقوله: (أَوْ مُطَاعٍ) المطاع كالأمراء الذين يُطاعون فيما يخالف شريعة الله عز وجل، فإذا أمروهم بأمرٍ يخالف شرع الله أطاعوهم في ذلك.
قال رحمه الله: (وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ) أي: إذا عرفت حدَّ الطاغوت؛ فإنَّ الطواغيت كثيرة جدًا من بني آدم، وذلك أنَّ كل من تجاوز حدَّه شرعًا صار بخروجه منه وتجاوزه طاغوتًا.
قال: (وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ) أي: أكبر الطواغيت بالاستقراء والتأمل هؤلاء الخمسة:
الأول: (إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ) هو رأسهم الأكبر، وقوله: (لَعَنَهُ اللهُ) اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمته، فإبليس ملعون مطرود مبعد عن رحمة الله.
الثاني: (وَمَنْ عُبِدَ وَهُوَ رَاضٍ) أي: راضٍ بتلك العبادة الصادرة من العابد، بأي نوع من أنواعها، فإنه طاغوت من الطواغيت.
الثالث: (وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ) وتعظيمه لنفسه كتعظيم الشارع، وهذا يحصل في بعض مشائخ أهل البدع والضلال، فهؤلاء طواغيت.
الرابع: (وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ،) كالمنجمين والرمالين والسحرة ونحوهم.
والخامس: (وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ) والحكم بغير ما أنزل الله تعالى يكون كفرًا باعتبار جحد الشريعة، وباعتبار مجاوزة الحد، والاعتداء على حق الخلق يعتبر ظلمًا، وباعتبار أنه خروج عن شريعة الله يُعتبر فسقا.
قال: (وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾) الجملة هنا نفي، ولكنه نفي بمعنى النهي، أي: لا تُكرهوا أحدًا على دين الله، أو لن يدخل الدين أحدًا مُكرهًا، بل لا بد أن يكون عن اختيار.
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ تَبَيُّن الرشد من الغي يكون بطرق
أولا: بكتاب الله عز وجل؛ فإنه فرق بين الحق والباطل.
ثانيًا: بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنها بينت القرآن ووضحته.
وثالثًا: بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في سلوكه ومعاملته ودعوته.
ورابعًا: بهدي خلفائه الراشدين الذين ساروا على طريقته ومنهجه، فعلى هذا يكون قول الله عز وجل: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ أي: تميز وظهر وبان بهذه الطرق الأربع وهي: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وهدي أصحابه رضي الله عنهم.
قال: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ والكفر بالطاغوت إنكاره والبراءة منه، ﴿وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ﴾ أي: تمسك بالتوحيد، فالتوحيد هو العروة الوثقى، قال: (وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لا إِلَهَ إِلا اللهُ).
قال: (وَفِي الْحَدِيثِ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ») يعني: رأس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الإسلام، فمن انتسب إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وادعى أنه من أمة الإجابة.
ومن فَقَدَ رأسُ الأمر وحقيقته وهو الإسلام فليس من أمة الرسول صلى الله عليه وسلم، أعني: أمة الإجابة.
«وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ»؛ لأنَّ الدين لا يقوم إلا بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العهدُ الّذي بيننا وبينَهمْ الصلاةُ فمَنْ تركَها فقدْ كفَرَ»، وقال: «إنَّ بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ»، «وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ» الذروة بكسر الدار وضمها وفتحها، فذروة الشيب أعلاه، وهذا الحديث يدل على أنَّ الجهاد أعلى مراتب الدين، والجهاد في سبيل الله هو بذل الجهد والطاقة لإعلاء كلمة الله، ولتكون كلمة الله هي العليا.
قال رحمه الله: (وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلى آله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ) وبهذا ننتهي من التعليق على هذه الرسالة، وهي ثلاثة الأصول.
أسأل الله تعالى أن يغفر لمؤلفها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، وأن ينفعنا بما قرأنا وما سمعنا، وأن يجعله حُجة لنا لا علينا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يثبتنا بالقول الثابت، وأن يُديم على هذه البلاد -بلاد التوحيد، المملكة العربية السعودية- عقيدتها وقيادتها وأمنها واستقرارها، وأن يحفظ ولاة أمورنا، وأن يعينهم على أداء الأمانة، وأن يوفقهم لكل خير، وأن يصلح لهم البطانة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
سلاسل أخرى للشيخ
-
15139 10
-
37672 3