الدرس الثاني

فضيلة الشيخ أ.د. سامي بن محمد الصقير

إحصائية السلسلة

37673 3
الدرس الثاني

ثلاثة الأصول

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى أله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بعد:
فقد تقدم الكلام على الأصل الأول من هذه الأصول الثلاثة، وهو: (مَعرِفَةُ العَبدِ رَبَّهُ) وتوقف بنا الكلام على أنواع العبادة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وَأَنوَاعُ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا مِثلُ: الإِسلَامِ، وَالإِيمَانِ، وَالإِحسَانِ، وَمِنهُ: الدُّعَاءُ، وَالخَوفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغبَةُ، وَالرَّهبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشيَةُ، وَالإِنَابَةُ، وَالِاستِعَانَةُ، وَالِاستِعَاذَةُ، وَالِاستِغَاثَةُ، وَالذَّبحُ، وَالنَّذرُ، وَغَيرُ ذَلِكَ مِن أَنوَاعِ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَ).
وقوله: (مِثلُ: الإِسلَامِ) الإسلام له معنيان، معنى عام ومعنى خاص.
فأمَّا المعنى العام للإسلام: فهو الاستسلام لله عز وجل في كل زمانٍ أو مكانٍ كانت فيه الشريعة قائمة، وعلى هذا فالأمم السابقة الذين استجابوا للرسل الذين بُعثوا إليهم هُم مُسلمون، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾.
والمعنى الثاني من معاني الإسلام: هو المعنى الخاص، وهو ما بَعَثَ الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم الأديان، هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، كما قال الله عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
قال: (وَالإِيمَانِ) الإيمان هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، وقد بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم مَا يجب الإيمان به، وذلك حينما سأله جبريل عليه السلام فقال: أخْبِرني عَن الإيمَانِ، فقال: «أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ».
قال: أخْبِرني عَن الْإِحْسَانِ، ففسره الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاه، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
قال: (وَغَيرُ ذَلِكَ مِن أَنوَاعِ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى).
ثم شرع المؤلف رحمه الله في بيان أدلة هذه الأنواع، فقال: (وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾، فَمَن صَرَفَ مِنهَا شَيئًا لِغَيرِ اللَّهِ فَهُوَ مُشرِكٌ كَافِرٌ) أي: من دعا غير الله أو استغاث بغير الله أو استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أو ذبح لغير الله أو نذر لغير الله؛ فإنه مشرك كافر، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَدعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفلِحُ الكَافِرُونَ﴾ أي: مَنْ أشرك بالله عز وجل لا حُجة له ولا بينة؛ لأنه لا حُجة لأحد في دعوى الشرك، ولهذا قال: ﴿لَا بُرهَانَ لَهُ بِهِ﴾ وهذه صفة كاشفة.
﴿إِنَّهُ لَا يُفلِحُ الكَافِرُونَ﴾ والفلاح هو: الفوز بالمطلوب، والنَّجاة من المرغوب.
قال: (وَفِي الحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ»)، ومخ الشيء خالصه وَلُبُّهُ، والدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة.
فدعاء المسألة: هو سؤال الله تعالى بلسان المقال، كأن تقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، ونحو ذلك.
والثاني: دعاء عبادة، وهو التَّعبد لله تعالى طلبًا لثوابه، وخوفًا من عقابه، وقد اجتمع النوعان، أعني: دعاء المسألة والعبادة في الصلاة، فالصلاة فيها دعاء مسألة، وفيها دعاء عبادة، فالقيام والركوع والسجود هذا دعاء عبادة، وقول المصلي فيما بين السجدتين: «رَبِّ اغْفِرْ لِي»، ودعاؤه في آخر التَّشهد هذا دعاء مسألة.
قال: (وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾) أي: ذليلين حقيرين صاغرين جزاءً على استكبارهم.
وقوله: ﴿عَن عِبَادَتِي﴾ هذا شاملٌ لنوعي الدُّعاء، دعاء المسألة ودعاء العبادة.
قال: (وَدَلِيلُ الخَوفِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُم وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ﴾).
فدلَّ هذا على أنَّ الخوف عبادة، وفي أول الآية يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي: يُعظمهم في نفوسهم، ويُوهمهم أنَّ لهم شأنًا وسلطانًا.
﴿فَلَا تَخَافُوهُم وَخَافُونِ﴾ أي: لا تخافوهم وخافوني في مخالفة أمري، وتوكلوا عليَّ وفَوِّضُوا أموركم إليَّ إن كُنتم مُؤمنين، فانَّ الله عز وجل يكفي من توكله. فهو حسبه عز وجل.
قال: وَدَلِيلُ الُرَّجَاءِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً﴾.
أي: من كان يرجو لقاء الله تعالى وثوابه ويخاف عقابه ويرجو المصير إليه ويأمن في رؤيته ولقائه ﴿فَليَعمَل عَمَلًا صَالِحً﴾ والعمل الصالح هو ما جمع من شرطين، وهما: الإخلاص لله تعالى، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَليَعمَل عَمَلًا صَالِحً﴾ دليل على أنَّ أعظم أمر يتزود به الإنسان للقاء الله تعالى هو العمل الصالح، ولذا ينبغي للمؤمن أن يستكثر من الأعمال الصالحة.
واعلم أنَّك إذا استكثرت من الأعمال الصالحة، ولا سيِّما في حال صحتك ونشاطك، فإنك تستفيد فوائد عظيمة، منها:
أولاً: أنَّ الأعمال الصالحة سببٌ لزيادة الإيمان؛ لأنَّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
ثانيًا: إنَّ الأعمال الصالحة سببٌ لرفعة الدرجات وتكفير السيئات وزيادة الحسنات.
ثالثًا: إنَّ الأعمال الصالحة سبب لتفريج الهموم وتنفيس الكروب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ» أي: اعمل في صحتك ونشاطك ورخائك تكن ذُخرًا لك عند الله تعالى في حال شدتك.
رابعًا: من فوائد الاستكثار من الأعمال الصالحة عند الإنس أنَّ الإنسان إذا استكثر من الأعمال الصالحة، ثم حِيلَ بينه وبينها كَتَبَ الله له أجرها ولو كان نائمًا على فراشه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحً». فإذا كان من عادته أن يصوم الأيام الفاضلة، وأن يُبِرَّ والديه، وأن يَصِلَ أرحامه، ثم حيل بينه وبين ذلك بسبب مرضٍ أو سفرٍ؛ كتب الله تعالى له أجرها ولو كان نائمًا على فراشه.
خامسًا: من فوائد الاستكثار من الأعمال الصالحة أنها تقي العبد من الفتن، فإنَّ الأعمال الصالحة من أعظم ما يقي العبد من فتن الدين والدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ».
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَدَلِيلُ التَوَكُّلِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ﴾) التوكل هو صدق الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله وفعل الأسباب، هذا هو حقيقة التوكل، فلابد في التوكل من أمرين.
الأمر الأول: أن يُفوض أمره إلى الله تعالى.
والأمر الثاني: أن يفعل الأسباب، فمن اعتمد على السبب وحده فقد طعن في كفاية الله تعالى، ومن اعتمد على الله تعالى ولم يفعل السبب فقد طعن في حكمة الله؛ لأنه سبحانه وتعالى جعل لكل شيء سببًا.
قال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ أي: لا على غيره، ﴿فَتَوَكَّلُو﴾ أي: فَوِّضُوا إليه، ﴿إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ﴾، وهذا يدل على أنَّ التوكل على الله من صفات أهل الإيمان.
قال: (﴿وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ﴾) أي: كافيه، فيكفيه ما أهمه من أمور دينه ودنياه، وييسر له أمره.
قال: (وَدَلِيلُ الرَّغبَةِ وَالرَّهبَةِ وَالخُشُوعِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ وَيَدعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين﴾) قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ﴾ أي: يُسابقون إليها، ويبادرون إليها، ﴿وَيَدعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبً﴾ الرغبة: هي السؤال والتضرع مع محبة الوصول الى الشيء، والرهبة: هي الخوف المثمر للهرب من الْمَخُوفِ، فهو خوف مَقرون بالعمل، ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين﴾ الخشوع هو التذلل والتطامن وهو بمعنى الخضوع، إلَّا أنَّ الخضوع غالبًا يكون في البدن، والخشوع يكون في القلب، ويكون في البصر، ويكون في الصوت، قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسً﴾، وقال تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَدَلِيلُ الخَشيَةِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿فَلاَ تَخشَوهُم وَاخشَونِي﴾) والفرق بين الخوف والخشية، أنَّ الخشية تكون مع العلم بالمخشي بخلاف الخوف، فإنَّ سببه قد يكون من ضعف الخائف، قال: ﴿فَلاَ تَخشَوهُم وَاخشَونِي﴾ الآية.
قال: (وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُم وَأَسلِمُوا لَهُ﴾ الآية) المراد بالإسلام في الآية الإسلام الشرعي، وهو الاستسلام لحكم الله عز وجل، وهذا خاص بالمؤمنين، وأمَّا الإسلام الكوني فقد قام لكل أحد، قال الله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَدَلِيلُ الِاستِعَانَةِ) والاستعانة هي طلب العون، والاستعانة تنقسم الى أقسام:
القسم الأول: الاستعانة بالله عز وجل، وهي التي تتضمن أمورًا ثلاثة.
أولاً: الخضوع والتذلل.
وثانيًا: الثقة بالله عز وجل.
وثالثًا: الاعتماد عليه واعتقاد كفايته سبحانه وتعالى.
القسم الثاني من أقسام الاستعانة: الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، فهذه تكون على حسب المستعان عليه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
والقسم الثالث: الاستعانة بالأحياء أو بالأموات فيما لا يقدرون عليه، فهذا شرك؛ لأنه لا يستعين بهم إلا وهو يعتقد أنَّ لهم تصرفًا في الكون.
قال: (وَدَلِيلُ الِاستِعَانَةِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ﴾) أي: لا نعبد إلَّا إيَّاك، ولا نستعين إلَّا بك.
قال: (وَفِي الحَدِيثِ: «إِذَا استَعَنتَ فَاستَعِن بِاللَّهِ») أي: إذا طلبت العون فلا تطلب العون إلا من الله تعالى، فمن أعانه الله تعالى فهو المعان، ومن حُرِمَ ذلك فهو المخذول المهان.
قال: (وَدَلِيلُ الِاستِعَاذَةِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾) أعوذ: أي ألتجئ وأعتصم برب الفلق، وهو الله عز وجل، وقال: ﴿قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾ فأمر سبحانه وتعالى بالاستعاذة به في الآية الأولى فقال: ﴿قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾، والفلق هو الصبح، وقال: ﴿قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ أي: جميع الناس.
قال: (وَدَلِيلُ الِاستِغَاثَةِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿إِذ تَستَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاستَجَابَ لَكُم﴾) والاستغاثة: هي طلب الغَوث، وتنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: الاستغاثة بالله عز وجل، وهي من أفضل الأعمال لأنها من دأب الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومن دأب أتباعهم كما قال عز وجل: ﴿إِذ تَستَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاستَجَابَ لَكُم﴾ وكان هذا في غزوة بدر.
القسم الثاني: الاستغاثة بالمخلوق غير القادر على الإغاثة، فهذا شرك؛ لأنه لا يطلبه منه إلا وهو يعتقد أنَّ له تصرفًا في هذا الكون، وهذا إنَّما يكون لله عز وجل، قال الله تعالى: ﴿أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾.
القسم الثالث: الاستغاثة بالأحياء فيما يقدرون على إغاثته وهذا جائز، ولهذا قال عز وجل: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾.
قال رحمه الله: (وَدَلِيلُ الذَّبْحِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَه﴾)، قوله: ﴿وَمَحْيَايَ﴾ أي: حياتي وما أعمل فيها، ﴿وَمَمَاتِي﴾ أي أنَّ أمر موتي وما ألقاه بعد ذلك ﴿لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: خالصًا لله ومختص بالله تعالى، ﴿لاَ شَرِيكَ لَه﴾ أي: لا شريك له في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته.
قال: (وَمِنَ السُنَّةِ: «لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ») واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
«مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» أي: ذبح له تقربًا وعبادة.
قال: (ودليل النذر قوله تعالى: ﴿يُوْفُوْنَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرً﴾) النَّذر له معنيان: معنى عام، وهو الالتزام بجميع العبادات الواجبة إذا شَرَعَ فيها، قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾.
والمعنى الثاني من معاني النذر: معنى خاص، وهو أن يلزم الإنسان نفسه بما لا يجب عليه شرعا، قال الله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ فأثنى سبحانه وتعالى عليهم، وهذا يدل على محبة الله لذلك، ومحبته للشيء سبحانه وتعالى يدل على أنه قربة وأنه عبادة.
ثُمَّ لَمَّا فرغ المؤلف -الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب- من الأصل الأول شَرَعَ في بيان الأصل الثاني.
قال: (الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بِالأَدِلَّةِ) والإسلام كما تقدم المراد به هنا المعنى الخاص؛ لأنَّ الإسلام له معنيان:
معنى عام، وهو الاستسلام لله تعالى في كل زمان أو مكان كانت الشريعة فيه قائمة.
ومعنى خاص، وهو الدين الذي بَعَثَ الله تعالى به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (وَهُوَ: الاسْتِسْلامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ) أي: التذلل والخضوع له سبحانه وتعالى بالتوحيد، بإفراده بالألوهية وبالربوبية وبالأسماء والصفات.
(وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ) وذلك بفعل المأمورات وترك المنهيات وما حَرَّمَه الله تعالى على العبد، يَدَعُ ذلك طاعة لله وخوفًا من عقابه ورجاءً لثوابه.
قال: (وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ) أي أن يتبرأ من الشرك وأهله، يتبرأ منهم بقلبه، ويتبرأ منهم بعمله، ويتبرأ منهم أيضًا بأن لا يُجالسهم ولا يُساكنهم، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ ، وقال عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾.
وقوله: (وَهُوَ ثَلاثُ مَرَاتِبَ: الإسْلامُ، وَالإِيمَانُ، وَالإِحْسَانُ) أي أنَّ مراتب دين الإسلام ثلاثة (الإسْلامُ، وَالإِيمَانُ، وَالإِحْسَانُ)، (وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ لَهَا أَرْكَانٌ)، (فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَن لا إِلَه إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ) ومعنى (شَهَادَةُ أَن لا إِلَه إِلا اللهُ) أن يُقِرَّ بقلبه ناطقًا بلسانه أنَّه لا أحد يستحق العبادة سوى الله عز وجل، ومعنى شهادة (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) أن يُقِرَّ بقلبه ناطقًا بلسانه أنَّ محمدًا عليه الصلاة والسلام مُرسل من الله تعالى.
قال: (وَإِقَامُ الصَّلاةِ) أي أن يأتي بها قائمة بشروطها وأركانها وواجباتها ومكملاتها.
(وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ) أي أن يُعطيها لمستحقها، وقد بين الله تعالى المستحقين لها في آية سورة التوبة في قوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾.
قال: (وَصَوْمُ رَمَضَانَ) وهو التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
قال: (وَحَجُّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ) والحج في اللغة بمعنى القصد، وأمَّا شرعًا وهو المراد هنا فهو التعبد لله بقصد مكة لأداء نسك مخصوص في زمن مخصوص.
قال رحمه الله: (فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ أي: لا معبود حق إلا هو، فكل ما يُعبد من دُون الله فهو باطل، وإن سَمَّاهُ عَابِدُهُ إلهًا.
قال الله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [لقمان:30]، وقال عز وجل: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج:62])
.
قال: (﴿وَالْمَلاَئِكَة ُ﴾) الملائكة عالم غيبي، خلقهم الله عز وجل من نور، ومنحهم الانقياد التام لأمره، والقدرة على تنفيذه، فهم عباد لله عز وجل ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
﴿وَأُوْلُوا الْعِلْمِ﴾ أي: أهل العلم، والمراد: العلم الشرعي، ﴿قَآئِمًا بِالْقِسْطِ﴾ أي حال كونه قائمًا بالقسط، وذلك في أحكامه التكليفية والقضائية والجزائية، فهو سبحانه وتعالى قسط في أحكامه الشرعية، وفي أحكامه الكونية، وفي أحكامه الجزائية، ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي لا أحد يستحق العبادة سوى الله عز وجل.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَمَعْنَاهَا: لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلا اللهُ) فكل ما عُبِدَ من دون الله فهو باطل، يقول: (وَمَعْنَاهَا: لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلا اللهُ) لا إله نفيٌ لجميع مَا يُعبد من دون الله، (إل) مُثبتًا العبادة لله، فهذه الكلمة -كلمة التوحيد- تشتمل على إثبات ونفي، فهي تنفي استحقاق الألوهية عن جميع ما يُعبد من دون الله، وتُثبت ذلك لله عز وجل، فهي مُشتملةٌ على إثبات ونفي؛ لانَّ الإثبات المحض لا يمنع المشاركة، والنفي المحض عدم، والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون إلهًا.
يقول المؤلف رحمه الله: ((لا إله) نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ) من الملائكة والأنبياء والصالحين والأشجار والأصنام وغيرها، ((إِلا اللهُ) مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ)، أي كما أنه سبحانه وتعالى هو المتفرد في الملك، فهو يدل على أنه متفرد بالعبادة، (وَتَفْسِيرُهَا: الَّذِي يُوَضِّحُهَ) أي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله الذي يبينها بيانًا شافيًا كافيًا تامًّا من القرآن، قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾، فقوله: ﴿إِنَّنِي بَرَآء﴾ هذا نفي، وقوله: ﴿إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ هذا إثبات، والبراءة هي التبرؤ من الشيء، وهي نوعان: براءة من عمل وبراءة من عامل.
فأمَّا البراءة من العمل، فيجب على كل مؤمن أن يتبرأ من كل عمل مخالفٍ للشريعة، وذلك بأن لا يفعله وألا يرضاه وألا يقره، قال الله عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾.
والنوع الثاني من البراءة: براءة من عمل، فان كان عمله كفرًا أو شركًا وجبت البراءة منه بكل حال، وإن كان عمله فسقًا فإنه يتبرأ منه من وجه دون آخر، فيتبرأ لِمَا عنده من الكفر والعصيان، ويوالى ويحب لِمَا عنده من الإسلام والإيمان. قال: ﴿إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾، والسين هنا في قوله: ﴿سَيَهْدِينِ﴾ للتوكيد، أي: سيدلني ويرشدني ويوفقني، ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً﴾ جعلها أي الكلمة، وهي البراءة من كل معبود سوى الله عز وجل، ﴿بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ أي: في ذريته، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي: يرجعون من الشرك ويحققون التوحيد.
قال: (وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾) أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، فاليهود هم أتباع موسى عليه الصلاة والسلام، سُمُّوا يهودًا إمَّا من الهود وهو الرجوع؛ لأنهم رجعوا وتابوا إلى الله تعالى من عبادة العجل، كما قالوا: ﴿إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ﴾، وإمَّا نسبة إلى جدهم يهودا، لكن حُرِّف الاسم مع كثرة الاستعمال، فقيل: يهود.
والنَّصارى: هم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، وسُمُّوا نصارى إمَّا نسبة إلى بلدة الناصرة، إحدى قُرى فلسطين، وإمَّا من قولهم -لما قال عيسى عليه الصلاة والسلام-: ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ﴾.
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي: إلى كلمة عاجلة، ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي: نحن وأنتم سواء في هذه الكلمة، ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ أي: لا نُوحد نحن ولا أنتم بالعبادة سوى الله عز وجل، فَوَضَّحَ معنى الكلمة، فإنَّ في قوله: ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ﴾ معنى: لا إله إلا الله، فَتَبَيَّنَ أن لا معبود حق سوى الله عز وجل، قال: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي: صَرِّحُوا وأعلنوا بأنكم مسلمون، بريئون مما هُم عليه من العناد والكفر.
قوله: (وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ جَآءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾) أي: امتنَّ الله تعالى عليكم ببعث هذا الرسول وإرساله، فهو ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ تعرفون نسبه وصدقه، ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ أي: شاقٌ عليه الذي يشق عليكم، ويدخلكم في الأصالِ والأغلال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بُعثتُ بالحنيفيَّةِ السَّمحةِ».
﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾ أي: حريص على هدايتكم وإنقاذكم من النار، ﴿بِالْمُؤْمِنِين َ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي أنَّ رأفته ورحمته خاصة بالمؤمنين، كما أنَّ غلظته وشدته على الكافرين.
قال: (وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ وأَلا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شَرَعَ) فما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يُطاع به؛ لأنَّ أمره من أمر الله، بل إنَّ طاعته من طاعة الله، كما قال عز وجل: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ».
(وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ) أي: ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من أمور الغيب فيما مضى وفيما يستقبل، كله نصدقه ونؤمن به فيما صح عنه، (واجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ) والزجر هو أشد النَّهي، فإننا نجتنبه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوْهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».
(وأَلا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شَرَعَ) فلا يُعبد بالأهواء والبدع؛ لأنَّ الأصل في العبادات الحظر والمنع، فجميع العبادات الأصل فيها المنع، قال الله عز وجل: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ».
قال: (وأَلا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شَرَعَ) فلا تتم شهادة أنَّ محمدًا رسول الله إلا بهذه الأمور الأربعة، طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى، وألا يُعبد الله إلا بما شرع.
قال: (وَدَلِيلُ الصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ﴾) فقوله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أي ما أمرهم الله تعالى إلا بعبادته والإخلاص له، ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ﴾ والحنيف هو المائل عمَّا سوى الله تعالى، ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ يعني: أن يأتوا بها قائمة بشروطها وأركانها وواجباتها ومكملاتها، ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ يعني: أن يدفعوا الزكاة إلى مُستحقيها، ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ أي هذه الملة وهذه الشرعة هي الشرعة القيمة.
قال ودَلِيلُ الصِّيَامِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ و ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أي فَرَضَ وأوجب، ﴿الصِّيَامُ﴾ التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي: ككتابته على الذين من قبلنا، وهذا فيه فائدتان، أعني قول: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾.
الفائدة الأولى: تسلية هذه الأمة، وأنَّ الصيام لم يفرض عليها من بين سائر الأمم.
والفائدة الثانية: أن تستكمل هذه الأمة الفضائل والخصائص التي شرعت للأمم السابقة.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي أنَّ الله تعالى شرع الصيام لتحقيق التقوى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ» أي أنَّ الله تعالى لم يُرِدْ منَّا أن ندع الطعام والشراب، وإنما أراد أمرًا فوق ذلك، وهو تحقيق التقوى.
قال: (ودَلِيلُ الْحَجِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾) قوله: ﴿وَلِلّهِ﴾ أي: ولله فرض واجب عَلَى النَّاسِ، ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾ أي: قصده لأداء النسك، ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً﴾ أي: من قدر إلى ذلك سبيلا وطريقًا، ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ والكفر هنا تارة يكون بأن يترك الحج تهاونًا وكسلاً مع قدرته عليه، فهذا على خطر عظيم. وتارة يدع الحج إنكارًا لوجوبه، فهذا كفر والعياذ بالله، فتبين بهذا أنَّ من ترك الحج مع قدرته وكان تركه تهاونًا وكسلاً فهذا ذنب عظيم وإثم كبير، وأمَّا من تركه جحدًا لوجوبه وإنكارًا لفرضه فإنَّه يكفر بذلك؛ لأنه قد كَذَّبَ الله تعالى، وَكَذَّبَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وَكَذَّبَ إجماع المسلمين.
ثم قال رحمه الله: (الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ) والإيمان في اللغة بمعنى التصديق، وأمَّا شرعا فهو التصديق المستلزمُ للقبول والإذعان، فلا بد في هذا التصديق من قبول وانقياد وإذعان.
والإيمان يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، ولهذا قال النبي صلى الله وسلم: «الإيمان بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلاهَا قَوْلُ لا إِلَه إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ». فقوله عليه الصلاة والسلام: «فَأَعْلاهَا قَوْلُ لا إِلَه إِلا اللهُ» هذا قول، «وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» هذا عمل الجوارح، «وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ» هذا ما يتعلق بالقلب.
فالإيمان هو اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (الإِيمَانُ وَهُوَ بِضْعٌ) والبضع من الثلاثة الى التسعة، (بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً) أي: خصلة، (فَأَعْلاهَ) أي: أعلى هذه، (قَوْلُ لا إِلَه إِلا اللهُ) فقول العبد: (لا إِلَه إِلا اللهُ) هي أعلى هذه الشعب؛ لأنها كلمة الإخلاص، وكلمة الإسلام، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى، وأساس الملة، ومفتاح الجنة.
(وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ) أي: إزالة الأذى عن الطريق من شوك أو حجر أو نحو ذلك مما يتأذى منه المارة، (وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ) أي أنه بعض منه، ولقد جعله بعضه؛ لانَّ المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، فالحياء قد يكون سببًا لأن يدع الإنسان المعاصي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ ممَّا أدرك النَّاسُ من كلامِ النُّبوَّةِ الأولَى: إذا لم تستح فاصنَعْ ما شئتَ».
قال: (وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ، وَأَرْكَانُهُ) أي أنَّ أركان الإيمان (سِتَّةٌ)، (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ) والإيمان بالله يتضمن أمورًا أربعة.
أولاً: الإيمان بوجوده.
ثانيًا: الإيمان بألوهيته.
ثالثًا: الإيمان بربوبيته.
رابعًا: الإيمان بأسمائه وصفاته.
قال: (وَمَلائِكَتِهِ) أي: الإيمان بالملائكة، بأن يُؤمن أنَّ الله تعالى خلقهم، وأنَّ يُؤمن بما هم عليه من الصفات الخلقية والخلقية، وأن يُؤمن بأسمائهم وأعمالهم التي وَكَّلَ الله تعالى إليهم ذلك.
قال: (وَكُتُبِهِ) وهي الكتب التي أرسل الله تعالى بها الرسل، والتي أعلمه منها خمسة، وهي: (القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى).
قال: (وَرُسُلِهِ) والرسل جمع رسول، والرسول هو من أوحي إليه بشرع وَأُمِرَ بتبليغه، وأمَّا النبي فهو الذي أُوحي إليه بشرع ولم يُؤمر بتبليغه.
قال: (وَالْيَوْمِ الآخِرِ) اليوم الآخر هو يوم القيامة، سُمي آخرًا لأنه لا يوم بعده، ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، كسؤال الملكين للإنسان في قبره، وعذاب القبر ونعيمه، وغير ذلك.
قال: (وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) أي: تؤمن بما قَدَّرَ الله تعالى وما كتبه على من خيرٍ أو شرٍ، والإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بأمور أربعة.
أولا: الإيمان بِعِلمِ الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى عالمٌ بكل شيء جملة وتفصيلا.
ثانيًا: الإيمان بكتابته سبحانه وتعالى، وأنَّ الله تعالى كتب مقادير كل شيء، فإنه سبحانه وتعالى لَمَّا خلق القلم قال له: «اُكْتُبْ، قال رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شيء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ». فجرى القلم بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة.
الثالث: الإيمان بخلقه، وأنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء، ومن ذلك خلقه لأفعال العباد، فهو سبحانه وتعالى خالق للعباد ولأفعالهم.
الرابع: الإيمان بمشيئته، وأنَّ الله عز وجل عَلِمَ وَكَتَبَ وَخَلَقَ وَشَاءَ ذَلِكَ، فله سبحانه وتعالى المشيئة النافذة، فما شاء الله كان، وما يشأ لم يكن، والعبد له اختيار وله قدرة وله مشيئة، ولكن قدرته ومشيئته واختياره تابعة لمشيئة الله تعالى، كما قال عز وجل: ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على أدلة هذه الأركان.
وفق الله الجميع لِمَا يُحبُّ ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ